3 خطوات لتأمين أسس لعالم أكثر صحة

لقد كتبتُ مسبقاً عن الصحة العامة، ووجدت أنَّها رحلة أو مسار يجب أن نسلكه دائماً لخلق عالم أفضل وأكثر صحةً، بدلاً من اتخاذ مجموعة معينة من الإجراءات، التي تنص عليها استراتيجيات محدودة، ويكمن التحدي في ذلك، أنَّ تلك التطلعات واسعةٌ وشاملةٌ جداً، ثم غالباً يجب أن نسأل أنفسنا: ما هو الأكثر أهمية، وما الذي يجب أن نقوم به لتحقيق أفضل تطلعاتنا؟



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الدكتور ساندرو غاليا (Dr. Sandro Galea)، والذي يُحدِّثنا فيه عن تجربته الشخصية في وضع الخطوات اللازمة لعالمٍ أكثر صحةً.

يمكن أن تبدو هذه الأسئلة مجردةً، لكنَّ فترة جائحة كورونا (COVID-19) جعلتها أكثر حدةً في أذهاننا من أي وقت سبق؛ حيث شهدنا أمثلةً واقعيةً لأهميتها، لقد كتبتُ مع بعض الزملاء مسبقاً حول الأمور الأكثر أهمية للصحة من وجهة نظر تقنية، ولكن في العام الذي سنخرج فيه من أزمة جائحة كورونا، سأسأل نفسي: ما هي القيم والتطلُّعات التي يجب أن نطبقها؛ بحيث يمكننا خلق مستقبل صحي؟

كنت أفكر مؤخراً في هذا السؤال من خلال التفكير في عالم موازٍ آخر، ويمكن أن نسميه عالماً مخالفاً للواقع، ويحدث فيه أنَّ الشخص يعدِّلُ حدثاً واقعياً واحداً، ثم يقيِّم عواقب هذا التغيير؛ حيث يسمح لنا هذا الواقع بنمذجة طريقة تؤثر فيها متغيرات معينة بالصحة.

على سبيل المثال، يمكننا مقارنة شخص يدخِّن في العالم الحقيقي، بينما لا يفعل ذلك في عالم موازٍ، دون تغيير أي تفصيل آخر في حياته؛ حيث يكون كل شيء هو نفسه باستثناء متغير واحد، ومن ثم يمكننا أن نستنتج أنَّه إذا أُُصيبَ الشخص الذي يدخِّن في العالم الحقيقي بسرطان الرئة، وتجنَّب ذلك في العالم الموازي، فإنَّنا بكل ثقة سنقول إنَّ التدخين يُسبِّب سرطان الرئة.

بالتأكيد، هذا الأنموذج له حدود لسبب واحد، وهو أنَّه سيناريو خيالي وغير موجود، ومن ناحية أخرى، من الصعب تخيُّل أن تكون كل التفاصيل متماثلة، باستثناء أحدها، ولا يرتكز هذا الأنموذج كثيراً على الواقع عند صياغة متغيرات أكثر تعقيداً، مثل العِرق أو الجنس، ولكن على الرغم من كل هذا، يبقى الواقع الموازي أداةً لا تقدَّر بثمن لتصور الظروف التي تحدد شكل الصحة.

على سبيل المثال، من السهل أن نتخيل استخدام المؤرخين المستقبليين للواقع الموازي لتحليل ما فعلناه بطريقة خاطئة وصحيحة خلال أزمة جائحة كورونا، لقد بدأنا إلى حدٍّ ما بعملية تقييم أدائنا خلال السنة والنصف الماضية، ومن المحتمَل أن تؤدي الرؤية البعيدة الأمد إلى تعميق وجهات النظر التي تقدمها هذه الجهود.

إقرأ أيضاً: 6 توجهات تشكل مستقبل الرعاية الصحية

لنجري الآن تجربة مخالفة للواقع، تخيَّل وجود شخصين متشابهين يعيشان في عالمين متشابهين بكل تفاصيلهما باستثناء تفصيل أساسي واحد؛ بحيث يُعد أساسياً للقدرة على عيش حياة صحية؛ في العالم الأول، يكون الشخص آمناً في مكانه وفق الترتيب الطبيعي للأمور، في حين أنَّه لا يكون كذلك في العالم الموازي؛ إذ نعني بالأمان وفق الترتيب الطبيعي للأمور، امتلاك ما يكفي من المزايا الاجتماعية والاقتصادية، بحيث يعلم المرء في قرارة نفسه بأنَّه سيكون على ما يرام مهما ساءت ظروف الحياة؛ وبذلك تكون الإصابة بمرض مفاجئ مجرد عثرة بالنسبة إلى الأول، بينما كارثةً للثاني، أو تكون خسارة الآلاف من الدولارات مجرد نكسة بالنسبة إلى الأول، بينما حدثاً جللاً يهز كيان الثاني.

يمكن أن يرتبط هذا الأمان بأمور عدة، ربما يأتي من الثروة، التي يمكن أن تساعد على مواجهة الكارثة، وربما يأتي من الروابط العائلية، ويعد الشعور بدعم النظام الطبيعي -بدلاً من أن يكون متعارضاً مع الشخص- أمراً معقَّداً وغالباً ما يكون غير ملموس، لكنَّه ينعكس انعكاساً شبه دائم في المسار طويل الأمد لحياة الشخص، ويغيِّر كل شيء.

إنَّ معرفة أنَّ للمرء مكاناً مضموناً في الترتيب الطبيعي للأمور؛ يعني أنَّه سيكون أكثر استعداداً لتحمُّل المخاطر، والمغامرة بالأفكار والسفر واتخاذ الإجراءات التي تتطلَّب قناعةً داخليةً عميقة، وفي النهاية، ترقى مثل هذه الإجراءات إلى حياة مثالية وشعور بالرفاهية، وتعدُّ هذه الأحاسيس ضروريةً للصحة، إذاً، يمكننا أن نتخيل مدى صحة تجاربنا في الكون الذي نشعر فيه بالأمان في الترتيب الطبيعي للأمور.

يدهشني أنَّه إذا أردنا إنشاء عالم صحي، يجب أن يكون عالماً حيث لا يكون الشعور بالأمان في الترتيب الطبيعي امتيازاً يتمتع به الأقلية فحسب؛ وإنَّما حق يطالب به الجميع، وبأنَّه أمر هام يساعد على تحقيق تطلعات الصحة العامة.

يعكس هذا الأمر تجربةً فكريةً شهيرةً طوَّرها الفيلسوف "جون رولز" (John Rawls) في الوقت المناسب؛ وذلك لأنَّ عام 2021 هو الذكرى المئوية لميلاد "رولز"؛ حيث طُلِبَ منَّا تصميم مجتمع جديد، ويمكن لهذا المجتمع أن يتخذ شكل الملكية أو الديكتاتورية أو الديمقراطية، أو أي شكل من أشكال التنظيم السياسي أو الاقتصادي الذي نرغب فيه، ويمكن أن يكون مجتمعاً متكافئاً أو غير متكافئ، عادلاً أو استغلالياً؛ ولكنَّ النقطة الأساسية هنا، أنَّه على الرغم من أنَّنا أحرار في تصميم هذا المجتمع، إلا أنَّه لا يُسمَحُ لنا أن نعرف مسبقاً المكان الذي سنشغله في ترتيب الأمور؛ حيث يمكن أن نكون في موقع امتياز، أو قد نكون في أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي، فلا توجد طريقة لمعرفة ذلك.

وقد أطلق "رولز" على هذا الموقف من المعرفة الناقصة بـ حجاب الجهل؛ وذلك لأنَّنا نصمِّم مجتمعنا من خلف هذا الحجاب، ويجب علينا بناء عالم متكافئ قدر الإمكان؛ حيث يشعر الجميع بالأمان في ترتيبهم الطبيعي.

كيف يمكننا القيام بذلك في العالم الذي نعيش فيه؟ وكيف يمكننا التحرك نحو هذا الطموح؟

عموماً، نحن بحاجة إلى اتخاذ ثلاث خطوات، سأذكرها لك فيما يلي:

أولاً؛ نحن نحتاج إلى التأكد أنَّ جميع الأشخاص يمتلكون إمكانية الوصول إلى الموارد التي يمكن أن تسمح لهم بالشعور بالأمان الجسدي والمالي ضمن الترتيب الطبيعي للأمور؛ حيث يوجد عدد من الطرائق للقيام بذلك، لكنَّ الاستثمار الطموح يعد شرطاً ضرورياً.

يمكننا إجراء مناقشات حول مسار الإنفاق؛ أي تحديد النسبة التي يجب أن تذهب مباشرةً إلى الأفراد، وأيُّها يجب استخدامها لدعم الاستثمار المجتمعي وشبكة الأمان الاجتماعي وغيرها من المنافع العامة، ولكن بغض النظر عن المكان الذي تذهب إليه الأموال، يجب أن يُمثِّل ذلك تحولاً نموذجياً في الاستثمار، وذلك لتحقيق رؤية أكثر جرأةً لتزويد الناس بالمساعدات المادية.

ثانياً؛ نحن نحتاج إلى إنشاء أساس من التعاطف، لدعم عالم يحمي مواطنيه بدلاً من انتقادهم، وفي الحديث عن التعاطف، وهنا أعني التعاطف بالمعنى الذي وصفه "مارتن لوثر كينغ جونيور" (Martin Luther King Jr)، عندما قال: "التعاطف الحقيقي ليس مجرد إعطاء نقود لمتسوِّل؛ وإنَّما يتعلق الأمر برؤية أنَّ الصرح الذي يخرج منه المتسولِّون يحتاج إلى إعادة هيكلة".

يتطلب إنشاء عالم يتيح للجميع الشعور بالأمان، تغييرات على المستوى الهيكلي؛ حيث يساعدنا التعاطف على تحديد متى تكون هذه التغييرات ضروريةً، ويحفزنا على القيام بها.

أخيراً؛ نحن نحتاج إلى إنهاء ممارسة تهميش الأشخاص على أساس هويتهم، فهذا الأمر يعني خلق عالم يمكن للجميع أن يزدهروا فيه كأفراد، بغض النظر عن الجنس أو لون البشرة أو الحالة الاجتماعية والاقتصادية.

إقرأ أيضاً: العنصرية وآثارها السلبية على المجتمع

في الوقت الذي يكون فيه للهوية أهميةً كبيرةً جداً، قد يكون تجاوز هذه الفئات أصعب الخطوات التي اقترحتها؛ بمعنىً آخر، أصبحت الهوية تشكِّل حجاباً جديداً للجهل؛ حيث تمنعنا المظاهر الخارجية من رؤية السمات المتفردة الحقيقية للآخرين، وتمنع فرديتنا من الظهور، ربما يكون من المغري الحفاظ على فئات الهوية كوسيلة لاستكشاف العالم وربما تحسينه، ومع ذلك يمكن أن يحجب ذلك فردية الأشخاص الذين نلتقي بهم.

إذا شكَّلنا مجتمعاً قائماً على الهوية، فإنَّنا نجازف بإفساد الروابط بين الأفراد، والتي تعد ضروريةً لدعم إحساسنا بالانتماء، وشعورنا بالثبات في عالم متغير ومليء بالتحديات، يعد هذا الأمر صحيحاً لا سيما في ظل الانقسامات التي حدثت في السنوات الأخيرة، فقد سبَّب الظلم المبني على أساس الهوية إبعادنا عن بعضنا بعضاً.

يدعو هذا الأمر إلى وضع خطة للصحة العامة، بحيث تكون مدعومة دعماً أساسياً بالشمولية والتعاطف، والتي تهدف إلى مساعدة الجميع على الشعور بالأمان في الترتيب الطبيعي؛ فهدف الصحة العامة الجوهري هو تمتُّع العالم بالصحة، وهو ما لا يمكننا تحقيقه طالما أنَّ عالمنا يغرق بالتناقضات؛ حيث يشعر بعض الناس بالمساواة في مجتمعنا بينما لا يشعر الآخرون بذلك.

يعني ضمان شعور الجميع بالأمان توفير أساس للدعم المادي يمكِّنُنا جميعاً من الاستناد عليه، وبينما نبني هذا الأساس، يجب أن ندعم المجموعات التي أصبحت مُعرَّضة بصورة غير متناسبة لحالة صحية سيئة بسبب العوامل التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، مع الحرص على أنَّ هذا التركيز الضروري لا يمنعنا من رؤية المجموعات كأفراد وحدهم، وبوجهات نظر مختلفة وخبرات فريدة.

بصورة أساسية، يجب أن يكمن شعورنا بالأمان في عالمنا في صميم تطلُّعاتنا إلى الصحة، وفي النهاية، يعود الأمر إلينا للدفاع عن الشروط التي تجعل هذا الأمر متاحاً للجميع.

المصدر




مقالات مرتبطة