لكن لم يمض وقت طويل على علاج الاكتئاب من خلال طرد الأرواح الشريرة، فقد تبدو فرضية السيروتونين علمية، ولكنَّها في الوقت الحالي مشكوك بها، تقريباً مثل نظرية الأرواح الشريرة، وهذا الأمر صحيح بالنسبة إلى كثير من الأدوية، فلقد استخدمنا الأسبرين لأكثر من مئة عام، ولكنَّنا في الفترة الأخيرة علمنا كيف يعمل.
رأسي مثل محطة الكهرباء:
تقول إحدى مريضات الاكتئاب إنَّ رأسها كان مثل محطة تحويل كهربائي "ظننتُ أنَّني أُصاب بالجنون، وخاصةً في الليل عندما أيقظني ذلك الشعور الغريب"؛ إذ لاحظت هذه الأعراض في أثناء الانسحاب ببطء من دواء مضاد للاكتئاب "SSRI" وُصف لها، وأكَّد مرضى آخرون بأنَّهم عانوا من صوت طنين كهربائي مفاجئ في دماغهم، وخاصةً عند الاستراحة أو النوم ليلاً، ويصفه بعضهم بأنَّه نبضة تشبه الموجة.
يبدو أنَّ ثمَّة تغيراً كيميائياً عصبياً عند تقليل الدواء أو إيقافه، ويمكن أن تحدث الأعراض عندما يحاول الدماغ إعادة التكيُّف؛ إذ يُعدُّ الانزلاق الدماغي، أو ارتعاش الدماغ، أو صدمات الدماغ، أو صدمات الرأس، أو الصدمات الكهربائية (وفق تعبير المرضى) من الآثار الجانبية الشائعة للانسحاب من مضادات الاكتئاب، ويمكن أن تحدث هذه الأعراض أيضاً مع البنزوديازيبينات والحبوب المنوِّمة؛ إذ يدَّعي معظم المرضى أنَّ هذا التأثير الجانبي لم يذكر عند وصف الدواء.
توصف الأعراض بأنَّها أحاسيس قصيرة، ولكنَّها متكرِّرة تشبه الصدمة الكهربائية في الدماغ والرأس، أو قد تنشأ في الدماغ، ولكنَّها تمتد إلى أجزاء أخرى من الجسم، وفي بعض الأحيان، يؤدي تحريك عين المرء بسرعة من جانب إلى آخر إلى حدوث هذه الأعراض، وفي بعض الأحيان تحصل اختلاجات وتخليط ذهني وطنين الأذن والدوار.
هل يوجد دليل علمي على ارتباط مضادات الاكتئاب بالاختلاجات؟
قد تتفاقم هذه الاضطرابات في حالة الانسحاب من مضادات الاكتئاب، أو الحبوب المنوِّمة، أو أدوية القلق، في كهربائية الدماغ وتصبح منهكة، على الرَّغم من عدم وجود دليل حالي على أنَّ تلك الاختلاجات تشكِّل أي خطر على الفرد، غير أنَّ الريبة ما تزال موجودة في الأوساط العلمية والطبية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تناول أدوية القلق والأقراص المنوِّمة التي تستهدف "GABA".
مضادات الاكتئاب وكيمياء الدماغ، علاقة تشوبها الشكوك:
على الرَّغم من أهمية مضادات الاكتئاب في علاج الاكتئاب، إلا أنَّ توخِّي الحذر والوعي بالآثار الجانبية أمران هامَّان؛ إذ تؤكد نظرية الاكتئاب المثيرة للجدل أنَّ حالات الاكتئاب المختلفة مرتبطة بنقص نمو خلايا معيَّنة في الدماغ، ويبدو أنَّ السيروتونين يزيد من توافر الناقلات العصبية التي تسهل نمو هذه الخلايا من جديد.
الدماغ هو عضو معقَّد يمنحنا القدرة على التفكير العقلاني، والإبداع، والحركة، والعمل، وإدراك التجارب الحسية، ويحافظ على وظائف الجسم الواعية واللاواعية، فالخلايا العصبية هي الأكثر انتشاراً في الدماغ؛ إذ تحتوي معظم مضادات الاكتئاب على مادة السيروتونين أكثر ممَّا هو طبيعي، ممَّا قد يتسبَّب في حدوث اختلال في توازن النواقل العصبية في الدماغ.
شاهد بالفديو: 6 طرق تساعدك في التغلب ذاتياً على الاكتئاب
أربع أسابيع حتى أشعر بالتحسُّن! إنَّه وقتٌ طويل:
أصبحت مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية على مدار العقود الثلاثة الماضية هي الخط الأول لعلاج الاكتئاب، مع أنَّ الأدلة التي تدعم نظرية السيروتونين للاكتئاب غير حاسمة، كما هو الحال مع الأدلة التي تدعم فاعلية مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (مونكريف وآخرون، 2022)، هذا إلى حدٍّ كبير؛ لأنَّ "SSRIs" تميل إلى أن يكون لها آثار جانبية أقل، وتكون أقل خطورة في حالات الجرعة الزائدة العرضية من مضادات الاكتئاب السابقة: مثبطات "مونوامين أوكسيديز" (MAOIs)، و"مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات" (TCAs) (Santarsieri & Schwartz 2017).
على الرَّغم من هامش الأمان الواسع لمثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية، فإنَّ معظم المرضى الذين يعانون من الاكتئاب يشعرون بالإحباط بشأن عدم معرفتهم للسبب الذي قد يستغرقه بدء العمل لمدة تصل إلى شهر، ممَّا سبَّب شعورهم بالسوء قبل أن يشعروا بالتحسُّن.
عند أخذ مضادات الاكتئاب، لن ترقص وتغني تحت المطر:
شرحت الدكتورة "مارغريت تسوبانارياس" الآليات الدوائية والفيزيولوجية العصبية لمثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية في محاولةٍ منها لمساعدة أولئك الذين يفكِّرون في استخدام مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية على فهم أفضل لكيفية عمل هذه الأدوية؛ إذ تتمتَّع الدكتورة "تسوبانارياس" بخبرة تزيد عن 15 عاماً في مجال الصيدلة، بما في ذلك العمل في المجالات السريرية والبحثية.
تقول الدكتورة "مارغريت" في أحد لقاءاتها: بعض الناس يتوقعون أن تؤدي هذه الأدوية إلى استجابة مبهجة مبالغ بها؛ لذا نحن نحتاج إلى تدريب أنفسنا على فهم أنَّ هذه الأدوية في أحسن الأحوال ستجعل الناس يشعرون بصحة جيدة بما يكفي لبدء تنفيذ التغييرات الهيكلية في الحياة التي أوصى بها المعالجون؛ لذلك إذا كنت تتناول أحد هذه الأدوية ولا تغنِّي تحت المطر أو تنزلق على قوس قزح، فهذا لا يعني أنَّ الدواء لا يعمل، علينا أن نجعل توقعاتنا واقعية.
خدعوك، فقالوا لك مضادات الاكتئاب ترفع السيروتونين:
يُعدُّ الدماغ عضواً معقداً بصورة مرعبة؛ إذ يحتوي على عشرات من الناقلات العصبية المختلفة في عشرات المناطق المختلفة وربما أكثر، والأسوأ من ذلك، أنَّ بعض هذه الناقلات العصبية تعمل عملاً مختلفاً اعتماداً على المنطقة التي توجد فيها.
إنَّ الفكرة القائلة بأنَّك تحتاج فقط إلى رفع مستوى منخفض من الناقلات العصبية هي فكرة ساذجة، وقد أنشأ هذه الفكرة الجذابة والبسيطة المروِّجون للدواء وليس العلماء، فلا أحد يعرف لماذا تعمل مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية أحياناً، وأحياناً أخرى لا تعمل.
لغز الاكتئاب قد يكون في أمعائك، وليس في دماغك:
يكمن جزء من هذا اللغز في القناة الهضمية، فمن المثير للدهشة أنَّ 95% من السيروتونين في جسمك نشط في أمعائك، وليس في دماغك؛ إذ تحتوي أمعاؤك على شبكة معقدة من الأعصاب؛ إذ يساعد السيروتونين على التحكم في التمعجات المعوية (وهي تقلصات العضلات الملساء التي تحرك الطعام على طول الجهاز الهضمي)، ولأنَّ مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية تؤثر في مستويات السيروتونين؛ فهي تؤثر تأثيراً مباشراً في أعصاب الأمعاء.
لولا السل، لما وجدنا دواءً للاكتئاب:
تشارك ميكروبات الأمعاء في إنتاج السيروتونين، ومن المثير للدهشة أنَّ أول مضاد للاكتئاب كان في الواقع مضاداً حيوياً؛ إذ اكتُشف أول مضاد للاكتئاب عن طريق الخطأ في عام 1951، عندما اختُبِر مضاد حيوي جديد "إبرونيازيد" لعلاج مرض السل؛ إذ ساعد هذا الدواء مرضى السل، ولكنَّه تسبَّب أيضاً في أن يصبح بعض منهم سعداء جداً بدلاً من الكآبة والخمول، فكان هناك فجأة ضحك ورقص في القاعات، وهذا تحول مذهل.
اكتشف الباحثون أنَّ عقاقير "الإبرونيازيد" تزيد من مستويات الناقل العصبي السيروتونيني في الدماغ، وبسبب هذا النجاح غير المتوقع، بدأ العلماء في البحث عن مزيد من الأدوية التي يمكن أن تعزِّز مستويات السيروتونين.
في تتابع سريع، ضربت (Prozac)، و(Paxil)، و(Zoloft) السوق، الأدوية الأخرى، ومن ذلك مثبطات "مونوامين أوكسيديز" (MAOIs)، ومضادات "الاكتئاب ثلاثية الحلقات" (TCAs)، وعملت أيضاً على التأثير في مستويات السيروتونين وناقل عصبي آخر يسمَّى (Norepinephrine).
ما هي الأدلة التجريبية على علاقة أدوية الاكتئاب بالأمعاء الدقيقة؟
توجد تجربة بسيطة ورائعة تتمثَّل في إضافة الأدوية ذات التأثير النفسي إلى طبق بتري مليء بالبكتيريا ومشاهدة ما يحدث، فأحد مضادات الاكتئاب "ديسيبرامين" الذي يعمل على رفع مستوى النوربينفرين في الدماغ، يعمل بوصفه مضاداً حيوياً قوياً إلى حدٍّ ما؛ إذ يقتل أو يثبط نوعين هامين من البكتيريا المفيدة (Bifidobacteria)، و(Akkermansia)، وقد وجد الباحثون في الفئران أيضاً أنَّ مضادات الاكتئاب، ومن ذلك مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية، تقلِّل من نمو الجراثيم.
توجد عدة مضادات اكتئاب غير فعَّالة في بعض المرضى، وقد يكون هذا التباين بسبب الاختلافات في ميكروبات الأمعاء، حتى الآثار الجانبية يمكن تفسيرها بواسطة ميكروبات الأمعاء، ومع قيام ميكروبات الأمعاء بهذا الدور الكبير، فمن المنطقي أن ينظر إليها بعض الباحثين بوصفها طريقة للحماية من التأثيرات الجانبية الناجمة عن مضادات الاكتئاب، وقد أكَّد باحثون في جامعة موناش أنَّ "زرع البروبيوتيك، والبريبايوتكس، والميكروبات البرازية، هي استراتيجيات واعدة لتخفيف الآثار غير المرغوبة المرتبطة بمضادات الاكتئاب".
في الختام:
الخيار البديل عن مضادات الاكتئاب هو العيش بطريقة صحية؛ لذا ابدأ بالأساسيات من خلال تزويد نفسك بثماني ساعات من النوم المريح، والتغذية الصحية، وخوض تجارب جديدة وممتعة طوال اليوم؛ لتحفيز نمو الخلايا الجديدة، والمساعدة على منع الاكتئاب، وإذا كانت الأدوية المضادة للاكتئاب ضرورية، فيجب أن يكون الأشخاص على دراية بأعراض الانسحاب المحتملة حتى لا يُفاجؤوا أو يخافوا إذا عانوا منها.
أضف تعليقاً