لكنَّ هذا الرِّكن من أركان الصَّلاة قد عُدِّلَ، فأوَّل ما بدأ الرسول الصَّلاة بأصحابه كانوا يوجِّهون وجوههم صوب بيت المقدس، إلى أن نزلت التَّعاليم الإلهيَّة التي أمرَت بالتوجُّه للكعبة المُشرَّفة، فاستجاب المسلمون من الصَّحابة لأوامر ربِّهم، وعدَّلوا توجُّههم في أثناء الصلاة، وحدث هذا الأمر في أثناء صلاتهم في مسجد سُمِّيَ فيما بعد "مسجد القبلتين"، وفي هذا المقال سوف تتعرَّفون إلى هذا الصَّرح الديني الذي شهد هذه الحادثة بالتَّفصيل.
موقع مسجد القبلتين وسبب التسمية:
يقعُ مسجدُ القبلتين في الجنوب الغربي من المدينة المنورة في المملكة العربيَّة السعوديَّة السعودية، قرب وادي العقيق وفوق رابيةٍ مرتفعةٍ قليلاً، ويبعدُ عن المسجد النَّبوي ما يقارب خمسة كيلومترات بالاتِّجاه الشَّمالي الغربي.
يُطلَقُ على هذا المسجد اسم "مسجد القبلتين" لسببٍ وجيهٍ؛ فهو المسجد الوحيد في العالم الذي صلَّى المسلمون فيه باتِّجاهين مختلفين للقبلة، ففي بداية الإسلام كانت القبلة هي بيت المَقدِس في فلسطين، لكنَّ الله تعالى أمرَ المسلمين بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام في مكَّة المُكرَّمة، وحدث ذلك في أثناء صلاة النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا المسجد عندما أمره الله تعالى بتغيير اتِّجاه القبلة، فاستجابَ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحوَّلَ اتّجاهه واتِّجاه المُصلِّين معه، ومن هنا جاءت تسمية المسجد بـ "مسجد القبلتين".
بناء مسجد القبلتين:
بنى بنو "سواد بن غنم بن كعب" مسجد القبلتين في عهد النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العام الثاني للهجرة النبويَّة، وبُنيَ المسجد من موادٍ بسيطةٍ متوفِّرة في ذلك الوقت، مثل اللبن (الطين المخلوط بالتبن) وجذوع النخيل والسعف، ويُعدُّ من أوائل المساجد التي بُنيت في الإسلام، فهو ثاني مسجد بناه المسلمون بعد مسجد قباء، كما أنَّه يحمل أهميَّةً تاريخيَّةً ودينيَّةً فريدة؛ لأنَّهُ المسجد الوحيد في العالم الذي صُلِّيَ فيه باتِّجاهين مختلفين للقبلة.
يتميَّزُ مسجد القبلتين ببساطة بنائه، فهو يتكوَّنُ من مُصلَّى مستطيل الشكل، وله محرابان، أحدهما باتِّجاه بيت المقدس، والآخر باتِّجاه المسجد الحرام، كما يتميَّزُ بموقعه الفريد على ربوةٍ مُرتفعةٍ، ويوفِّرُ إطلالةً خلَّابةً على المدينة المنورة، ومرَّ المسجد بعدَّةِ عمليَّات تعديلٍ على مرِّ العصور؛ لتجديده وتوسيعه مع الحفاظ على طرازه الأصلي، ويُعدُّ مسجد القبلتين اليوم من أهمِّ المعالم الإسلاميَّة في المدينة المُنوَّرة، ويقصده الزوَّار المسلمون من جميع أنحاء العالم.
قصَّة مسجد القبلتين:
يتمتَّعُ مسجد القبلتين بمكانةٍ تاريخيَّةٍ ودينيَّةٍ كبيرة، ويُعدُّ معلماً تاريخياً فريداً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأحد أهمِّ الأحداث في تاريخ الإسلام؛ وهو تغيير القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، ويعكس اسم "مسجد القبلتين" بوضوح هذه العلاقة؛ فهو يشير إلى وجود محرابين في المسجد، أحدهما باتِّجاه بيت المقدس، والآخر باتِّجاه المسجد الحرام.
أمَّا قصَّة مسجد القبلتين وسبب التَّسمية بهذا الاسم، فيُروى أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يؤدِّي صلاةَ الفجر في مسجد قباء عندما نزل عليه الأمر الإلهي بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام، وذلك في قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [سورة البقرة:144] فأرسلَ مُنادياً ليُبلِغَ المسلمين بهذا التغيير.
يروي "الإمام مسلم" في صحيحه قصَّةً مُشابِهة حدثت في مسجد القبلتين، وذلك عندما أرسلَ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - منادياً لإبلاغ المسلمين بتغيير القبلة، فوصلَ المُنادي إلى قبيلةِ بني سلمة وهم يؤدُّون صلاة الفجر، فنادى: "ألا إنَّ القبلة قد حُوِّلت!"، فمالوا جميعاً نحو المسجد الحرام دون أن يُكمِلوا صلاتهم.
فضل الصلاة في مسجد القبلتين:
تُعدُّ الصَّلاة في مسجد القبلتين من الأمورِ ذات الفضلِ العظيم والأجر الكبير؛ وذلك لما يتميَّز به هذا المسجد من خصائص فريدة تُميزه عن غيره من المساجد، فهو من أوائل المساجد التي بُنيت في الإسلام، وحدثَت فيه حادثةٌ غَيَّرَت من عادات المسلمين، كما أنَّ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته - رضوان الله تعالى عليهم - قد صَلَّوا فيه جميعاً، فأيُّ بركةٍ يمكن أن ينالها المسلم في صلاته في هذا المكان الشريف.
إنَّ للصَّلاة في مسجد القبلتين فضلاً عظيماً، وذلك للأسباب الآتية:
1. مسجد القبلتين شاهدٌ على تغيير القبلة:
فهو شاهدٌ حيٌّ على أحد أهمِّ الأحداثِ في تاريخ الإسلام، وهو تغيير القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام.
2. فضلُ الصَّلاة في المساجد المُعمَّرة:
مسجد القبلتين من المساجد المُعمَّرة؛ أي من المساجد التي بُنيت في عهد النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو في زمن الصَّحابة، والصَّلاةُ في هذه المساجد لها فضلٌ عظيمٌ.
3. فضلُ الصَّلاة في المساجدِ المُباركة:
مسجد القبلتين من المساجد المُباركة؛ لما ورد في فضله من أحاديث نبويَّةٍ شريفة.
ما يُستحبُّ فعله في مسجد القبلتين:
إليك بعض الأفعال المُستحَبَّة في مسجد القبلتين:
1. الصَّلاة:
يُستحَبُّ أداء الصَّلاة في مسجد القبلتين، فهي من الأمور ذات الفضل العظيم؛ لما يتمتَّعُ به هذا المسجد من خصائص فريدة تُميِّزه عن غيره من المساجد، وينبغي للمسلم أن يتوجَّهَ إلى المسجد بِنيَّةِ الصَّلاة فيه؛ ليهنأ بالأجر العظيم الذي خصَّصه الله تعالى للمُصلِّين في هذا المسجد.
2. الدعاء:
يُستحبُ الدُّعاء في مسجد القبلتين، وينبغي للمسلم أن يدعو الله تعالى فيه بكلِّ ما يخطر في باله من الخير والبركة.
3. قراءة القرآن الكريم:
قراءةُ القرآن الكريم في مسجد القبلتين مُستحبَّةٌ؛ لما ورد في فضله من أحاديث نبويَّةٍ شريفة، وينبغي للمسلم أن يُحافظَ على قراءة القرآن الكريم في هذا المسجد، وأن يتدبَّرَ معانيه ويتفكَّرَ في آياته.
4. التصدُّق:
يُعدُّ التصدُّقَ في مسجدِ القبلتين من الأمور المُستحبَّة أيضاً؛ وذلك لما وردَ في فضله من أحاديثَ نبويَّةٍ شريفة، وينبغي للمسلم أن يتصدَّقَ بِما وسعه من مال، وأن يُساعدَ المحتاجين والفقراء.
5. الإنفاقُ على مسجد القبلتين من الأمور المُستحبة:
ينبغي للمسلم أن يُساهمَ في صيانةِ المسجد وتعميره، وأن يُساعدَ على توفير احتياجاته.
كما أنَّه يمكنُ للمسلم أن يتنزَّهَ في المسجد بخشوعٍ وهدوءٍ، وأن يتأمَّلَ جمالَ عمارتِه وزخارفِه، وأن يتعرَّفَ أيضاً على تاريخه، فمن الأمور المُستحبَّة معرفةُ تاريخ الحضارة الإسلاميَّة والدِّين الإسلاميِّ، لذا ينبغي للمسلم أن يقرأ عن تاريخ المسجد، وأن يتعرَّفَ إلى الأحداثِ التي وقعت فيه.
الفرق بين مسجد قباء ومسجد القبلتين:
توجدُ بين مسجد القبلتين ومسجد قباء مجموعةٌ من أوجه التَّشابهِ وأوجهِ الاختلاف، وسوف نتعرَّفُ إليها معاً؛ لنعرفَ الفرق بين مسجد القبلتين ومسجد قباء.
أولاً: أوجه التَّشابه بين مسجد القبلتين ومسجد قباء
1. من أوائل المساجد:
يُعدُ كلٌّ من مسجد قباء ومسجد القبلتين من أوائل المساجد التي بُنيَت في الإسلام.
2. فضل الصَّلاة فيهما:
تُعدُّ الصَّلاة في كلٍّ من مسجد قباء ومسجد القبلتين من الأمور ذات الفضل العظيم.
3. موقعهما:
يقع كلا المسجدين في المدينة المُنوَّرة في المملكة العربيَّة السعوديَّة.
ثانياً: أوجه الاختلاف بين مسجد القبلتين ومسجد قباء
- يُعدُّ مسجدُ قباء أوَّلَ مسجدٍ بناه المسلمون في المدينة المنورة، فقد بناه النَّبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيديه الشريفتين، وسمِّيَ بهذا الاسم؛ نسبةً إلى منطقة "قباء" التي بني فيها، أمَّا مسجد القبلتين فهو ثاني مسجد بناه المسلمون في المدينة المُنوَّرة، وسمِّيَ بهذا الاسم؛ لوجود محرابين فيه سابقاً، أحدهما باتِّجاه بيت المقدس والآخر باتِّجاه المسجد الحرام، ولكنَّه يحتفظُ اليوم بمحرابٍ واحدٍ يتَّجه نحو الكعبة، ويمكنك أن تلاحظَ آثاراً في السَّقفِ تُشيرُ إلى وجود محرابٍ قديمٍ يتَّجه للقدس؛ تخليداً لذكرى تغيير القبلة.
- صلَّى المسلمون في مسجد قباء باتِّجاه قبلةٍ واحدةٍ، أمَّا مسجد القبلتين فقد صلَّوا فيه مُتَّجهين إلى قبلتين كما ذكرنا سابقاً.
- تعادلُ زيارةُ مسجد قباء أداء عمرةٍ كما أخبرتنا الأحاديث الشريفة المُتناقَلة عن الرَّسول الأكرم، أمَّا مسجد القبلتين فهو مكانٌ إسلاميٌّ مقدَّسٌ تُستحب زيارته، والتقرُّب إلى الله تعالى في ربوعه.
في الختام:
إنَّ مسجدَ القبلتين هو مسجدٌ إسلاميٌّ مقدسٌ، وهو ثاني مسجد بُنيَ في الإسلام بعد مسجد قباء، ويقع في المدينة المنورة، ويقصده الزوَّار المسلمون للتبرُّك فيه والتقرُّب إلى الله تعالى من محرابه، ويُعدُّ هذا المسجد ذا أهميَّةٍ تاريخيَّةٍ وإسلاميَّةٍ عظيمة؛ لأنَّه كان شاهداً على حادثة تغيير قبلة المسلمين في أثناء الصلاة، فبعد أن كانوا يُصلُّون باتِّجاه بيت المقدس، عدَّلوا قبلتهم كما أمرَهم ربَّهم وتوجَّهوا إلى قبلةٍ جديدة في مكَّة المُكرَّمة.
أضف تعليقاً