ما الذي يمكنني فعله عند شعوري بالملل؟
قد لا يمكننا التخلُّص من هذا الشعور للأبد، ولكن دعونا نحاول أن نواجه هذا الشعور وجهاً لوجه وأن نستثمره لصالحنا، دعونا نجرّب أن نغيّر شيئاً من رتابة حياتنا ونقول نحن موجودون ولن يهزَّ عزيمتنا أي شعور سيّء في العالم، ويكفينا شرف المحاولة. فقد قيل:
شرفُ الوثبةِ أن تُرضِيَ العُلى غُلِبَ الواثبُ أم لم يُغْلَبِ
لماذا نشعر بالملل؟
توصَّلت دراسة نُشرت عام 2016م إلى معاناة قرابة 63% منَّا من الملل لمرَّة واحدة على الأقل كل 10 أيَّام. وغالباً ما يكون شعور الملل أمراً طبيعيّاً وغير خطير، إلّا أنَّه في حال أصبح مزمناً فقد يؤدِّي للإصابة بالاكتئاب ويتطوَّر لسلوكيات خطيرة كالتعاطي وشرب الكحول والشراهة.
وقد قام عدد من الباحثين من "جامعة يورك" في كندا بتعريف الملل بأنّه: "حالة من الرغبة في الانخراط بنشاطات معيّنة مرغوب بها مع عدم القدرة على ذلك". وفي عام 2003م تمَّ إجراء استطلاع كبير في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وكانت نتيجة الاستطلاع أنَّ قرابة 91% من الشباب الأمريكي ممَّن شملهم الاستطلاع يعانون من الملل.
ولفهم حالة الملل بشكلٍ أكبر ومعرفة أسبابها قام فريق البحث بالاطّلاع على أبحاث سابقة تناولت الانتباه والملل، ووجدوا أنَّ عالم النفس الألماني "ثيودور ليبس" كان قد اقترح أحد أقدم التعاريف للملل في عام 1903م، وينص هذا التعريف على أنَّ الملل عبارة عن شعور بعدم السعادة وينشأ نتيجة الصراع بين حاجة الإنسان إلى النشاط العقلي المكثَّف وبين عدم وجود الدافع لديه للقيام بهذا النشاط، أو عدم قدرته على حث نفسه على إنجاز الفعل.
وترى النظريات الحديثة أنَّ سبب شعورنا بالملل هو مواجهتنا صعوبة في تركيز انتباهنا على مشاعرنا أو أفكارنا أو على عوامل أخرى تقودنا إلى نشاط يُشعرنا بالاكتفاء، وبذلك يتكوَّن لدينا وعي بصعوبة تركيز انتباهنا فنبدأ بتوجيه اللوم عن حالتنا ومشاعرنا على البيئة التي تحيط بنا.
قد يكون الملل مفيداً!
قد تكون جالساً في وقت فراغك أو ذاهباً في طريقك إلى العمل أو حتّى تستمتع بحمّامٍ منعش، ومن وسط هذا الفراغ تتدفق الكثير من الأفكار إلى رأسك. لكن من أين تأتي تلك الأفكار؟ في الحقيقة، ربما نكون في أفضل حالاتنا للإبداع والإنتاج عند شعورنا بالملل.
فقد توصّل باحثون في دراسة نشرتها جامعة "بنسلفانيا ستيت يونيفيرستي" إلى أنَّ المشاركين في الدراسة ممَّن كانوا يشعرون بالملل أدّوا بشكلٍ أفضل في اختبارات الإبداع والابتكار بالمقارنة مع الأشخاص الذين كانوا يشعرون باسترخاء وابتهاج قبل تأدية الاختبار.
وقد تُسهم الأوقات التي نشعر فيها بالملل في جعلنا أكثر إنتاجيّة، حيث يقول أستاذ الفلسفة "أندرياس إلبيدورو" المساعد بجامعة "لويزفيل"، أنَّ الفترات التي نشعر فيها بالملل تساعدنا إدراك أن الأنشطة التي نقوم بها هي أنشطة مهمّة أو ذات مغزى، وأنَّ الملل يعمل كأداة تنظيميّة قد تُساعد في تحفيزنا لإنجاز ما لدينا من خطط ومشروعات.
وحسب ما يقول الباحثون فإنَّ حالة الملل التي يعيشها الأشخاص قد تشجّعهم على التفكير بصورة إبداعيّة، لأنَّ الدماغ يقوم بإصدار إشارات بأنَّ حالتهم في ذلك الوقت تفتقد إلى شيء ما، ولذلك يجب الانطلاق للأمام للخروج من هذه الحالة. وبهذا فَهُم يُطلقون العنان لتفكيرهم ليساعدهم في ذلك.
الأشخاص المُملّين هم من يشعرون بالملل!
من أكثر المفاهيم الشائعة والمغلوطة حول مفهوم الملل أنَّ "الأشخاص المملين فقط هم من يشعرون بالملل". يقول الباحث "جون إيستوود" في جامعة "يورك" الكندية (وهو من أوائل الباحثين الذين أولوا اهتماماً بإجراء دراسات حول الشعور بالملل) إنّه من خلال محاولته التعرُّف على الأسباب التي تدفع الإنسان للشعور بالملل إلى وجود نمطين مختلفين لشخصية أولئك الذين يراودهم الشعور بالملل، وفي كلا الحالتين ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الأشخاص مملّين في حد ذاتهم.
غالباً ما يصيب الملل أصحاب النمط الأوّل، والذين يكونون بطبيعتهم ذوي عقليات مندفعة، ويرغبون بشكل دائم في خوض تجارب جديدة. وبالتالي فإنَّ نمط الحياة الهادئ والثابت لا يكون كافٍ لخلق عنصر جذب قادر على الاستحواذ على انتباههم.
أمَّا النمط الثاني لشخصيّة من يميلون إلى الشعور بالملل، فيعانون من مشكلة تتناقَض تماماً مع تلك الخاصّة بالنمط الأوّل. حيث يكونون أكثر حساسيّة وخوفاً من التعرُّض للألم. فالعالم بالنسبة لأصحاب النمط الثاني مكان مخيف، لذا يُفضّلون الانسحاب والابتعاد عن كل الناس ويحبسون أنفسهم وراء الأبواب في منطقتهم الخاصّة "نطاق الراحة". وهذا الشعور بالأمان الذي يتوفَّر لهم لا يكفيهم ولا يمنحهم الرضى طوال الوقت. فيؤدّي ذلك كلّه لشعور مُزمِن بالملل.
وتقول الباحثة "هيثر لينش" في جامعة "تكساس آيه أند إم" الأمريكيّة، أنَّ الشعور بالملل يقف وراء أحد أهم السِمات التي نتَّصف بها، ألا وهي الفضول. فالشعور بالملل يَحُوْل دون أن نُواصل حرث ذات الأراضي التي حُرثت من قبل، ويدفعنا للسعي من أجل تحقيق أهداف جديدة، أو استشكاف بقاع أو أفكار مختلفة.
ما الذي يمكننا فعله عند الشعور بالملل؟
يمكننا أن نفعل الكثير، وأن نحوّل تلك الأوقات الفارغة إلى حالة من الابتكار أو الإبداع أو التخطيط لما هو قادم، يمكننا أن نولي صحّتنا الأهميّة القصوى وننمّي قدراتنا العقليّة بالقراءة والكتابة والرسم وتعلُّم لغة جديدة مثلاً. هناك كثير من الحلول التي لا نريد أن نراها أو ندّعي أنَّ لا وقت لدينا للقيام بها، وبينما نحن لا نكف عن الشكوى من الشعور بالملل تتسرَّب حياتنا من بين أيدينا دون أن نَشعُر..
عملك مُمِل تشعر أنّك لست في المكان المناسب، يمكنك أن تختار أن تُغيّر وظيفتك الأمر يحتاج أحياناً إلى المخاطرة فقط. لكن ليكن بعلمك أنَّ أغلب الأشخاص يعانون من هذا الملل لأنَّ الإنسان ببساطة يعتاد ويُصبح المثير للفضول والسعادة أمراً عاديّاً مع الوقت.
علاقتك الزوجيّة مملّة؟ متى كانت آخر مرّة جلست فيها مع شريك حياتك بدون أن يُمسك كلّاً منكما جهازه الخلوي وتناقشتما في أمور عدا ما يحتاجه البيت والأطفال؟ متى كانت آخر مرة أخذتما فيها إجازة للترويح عن نفسيكما وتقضية أوقات ممتعة مع بعضكما البعض؟ متى كانت آخر مرة خرجتما مع صديق قديم أو تحدثتما معه عن أمور هامة حقّاً؟
أطفالك يشعرون بالملل؟ متّى كانت آخر مرّة جلست فيها مع طفلك دون أن تفكّر بالعمل أو تشغلك الحياة عنه؟ متّى كانت آخر مرة لعبت معه أو حتّى خصَّصت له وقتاً لتقضيه معه؟
لن أقوم بوضع قائمة من الأمور الخياليّة التي يجب عليك الالتزام بها لتصبح حياتك غير مملة ولكن يمكنك أن تُفكّر بالكثير من الأشياء التي ذكرتها سابقاً.
يمكنك أن تقدّر كل لحظة من حياتك وأن تستيقظ كلَّ يوم لتجد أنَّ الله تعالى قد أعطاك هديّة "الحياة". اضحك من قلبك، استمتع بكل لحظة كأنَّها لحظتك الأخيرة. قدّر قيمة ما تملك وصدقني ستجد أنَّ الحياة فيها الكثير من الأمور التي تستحق أن نكتشفها ونراها.
يقول الشاعر محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وأنا أقول لك قم الآن فإنَّ هذه الحياة تنتظرك لتعيشها بكل ما فيها.
وداعاً أيها الملل:
في ختام هذه المقالة استوقفني كتاب "وداعاً أيها الملل" للكاتب أنيس منصور وإليكم بعض مما ورد في مقدمته. يقول أنيس منصور:
- ولكن ألا توجد وسيلة للخلاص من الملل؟
- هل الملل قد أصبح كَلَوْن البشرة، لا يُمكن أن يزول إلّا بزوال صاحب البشرة!.
- هل الملل أصبح كالبُقَع الموجودة في جلد النمر… لا أمل في غسلها؟
أيوجد هناك أمل؟
هذا الملل يدل على أنَّنا لم نمل بما فيه الكفاية… أو على أنَّ هناك نوعاً من المسام، من الفتحات الصغيرة في الكيس النايلون الذي اسمه الملل..
إنَّ ألبرتو مورافيا وجد أنَّ الحل الوحيد للهرب من الملل، أو لأن نمل مللنا: أن نُحِب.. أن نُجدّد صلاتنا بالعالم الخارجي.. أن نحس أن هناك صلة.. وأنَّ كل شيء في متناولنا.. وأنَّ كلَّ ما في الدنيا هو عبارة عن يد ممدودة لتصافحنا.. إنَّ كل ما في الدنيا شفاه في انتظار تقبيلنا لها.
وإنَّ من أروع ما قاله الإنسان في علاج الملل، هو ما أنشده الشاعر الألماني ريلكه حين قال:
قل لي ياشاعر ما الذي تفعله في هذه الدنيا؟
إنَّني أحبّها!
وهذه الأشياء الكريهة الشريرة. كيف تحتملها، وكيف تَقْبَلها؟
إنَّني أحبّها!
وهذه الأشياء التي لا اسم لها ولا معنى لها، كيف تختار أسماءها ومدلولاتها؟
إنَّني أحبّها!
وهذه النجوم البعيدة الهائلة وهذه القوى الصامتة المخيفة في هذا الكون كيف تعرف طريقها إليك؟
إنَّني أحبّها!
لأنّه يحبّها.. لأنَّه يجدّد الصلة بها.. لأنَّه يجعل الصلة تتحوَّل إلى وشائج حارّة خفّاقة.. لأنَّه جعل للدنيا قلبين يخفقان في وقتٍ واحد.. لأنَّهما يؤدّيان لحناً واحداً.. ورغم أنَّه متكرّر. فإنَّه تكرار لا يولّد الملل.
إنّه كلمعان النجوم.. متكرّر.. كدقّات القلب متكرّرة.. ولكن عن طريق هذه الدقات المتكرّرة تنبع أكثر العواطف اختلافاً.. وأكثر العواطف التهاباً.. وأكثر العواطف قدرة على إنتاج أجمل وأعمق وأبقى ما صنع الإنسان!
ولكن هل الحب وحده يكفي؟
ربّما..
المصادر:
- لماذا نشعر بالملل؟
- الشعور بالملل قد يحولك إلى إنسان أكثر إبداعا وإنجازا
- هل يمكنك أن تستفيد من الشعور بالملل
- أنيس منصور، وداعاً أيها الملل، دار الشروق القاهرة.
أضف تعليقاً