ففي الحديث الشريف: "طوبى لعبدٍ أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة"، يسلط هذا الحديث الضوء على نموذجٍ راقٍ من أعضاء فريق العمل؛ الحريص على تحقيق الصورة الكبيرة للفريق، وعلى قدرٍ من الاستعداد للعب أيّ دورٍ يكلّف به مادام يحقّق الصورة الكبيرة التي قد شُكلَّ من أجلها.
هذا ما يفتح المجال أمامنا للحديث حول القائد ودوره المحوري في بناء الصورة الكبيرة للفريق، وذلك بدلاً من الانشغال في إرضاء الأعضاء عبر توزيع الأدوار والمناصب، والسعي إلى إراحة ضميره. وقد أشار إلى هذه الفكرة الجوهريّة الكاتب وخبير القيادة د. جون سي ماكسويل في كتابه بعنون "17 قانوناً لا يقبل الجدل في العمل الجماعي": "إنّ ثقافتنا تُعبِّر عن إعجابها بحماسٍ تجاه الميداليات الذهبيّة الفرديّة، ويغيب عن الناس الصورة الكبيرة؛ وكأنَّ الأفراد هم الصورة كاملة! لذا يجب أن تكون لدى أعضاء الفريق أهدافاً مشتركة ذات نفعٍ متبادل. يجب أن يُحفَّزوا للعمل معاً؛ لا أن يتلاعب بهم أحدهم لتحقيق مجده الخاص. وأيّ أحدٍ ممن اعتاد على جمع الناس معاً واستخدامهم لينفع نفسه دونَ سوه لهوَ دكتاتور، وليس مؤسّس فِرق". كلمات قليلة، ولكنَّها خطيرة وآثارها جسيمة على أرض الواقع.
إن كنت ترغب في رؤية تأثير الصورة الكبيرة في فريق العمل؛ فإنَّني أدعوك إلى النظر في أداء الفرق الرياضية، وخاصّةً كرة القدم معشوقة الجماهير. سوف ترى بوضوح أنَّ الفريق الذي لا يعمل من أجل الكلّ، لن ينجح مهما كانت إمكاناته. وإن لم يتعاون اللاعبون بعضهم مع بعض، فستكون نتائجه ضعيفة. ميزة لعبة كرة القدم أنَّ النتائج سريعة وقابلة للقياس والتحليل، كما ويمكن للمتابعين رؤية أداء الفريق بسهولة؛ فعندما يبحث أيّ عضوٍ في الفريق عن مجده الخاص في الملعب مُفضلاً غاياته وأهدافه الشخصيّة على حساب الفريق؛ يبرز الخلل في الفريق سريعاً، وينكشف ذلك اللاعب في أعين المنتقدين والمعلّقين والصحافة بسرعة. وفي المقابل؛ ينجح الفريق فقط عندما يسعى جميع أعضائه إلى تحقيق أهداف الفريق وغاياته المشتركة.
وللفوز في المسابقات الرياضية والحياتية على حدٍّ سواء، يجب أن يرى كافة أعضاء الفريق الصورة الكبيرة أمام أعينهم باستمرار. يجب أن يضعوا في عين اعتبارهم أنَّ تحقيق الصورة الكبيرة أهمُّ بكثيرٍ من تحقيق مجدٍ شخصيٍّ عابر؛ فما الجدوى من لاعبٍ تلصقُ فيه إحدى الألقاب الرنانة مثل: "لاعب الموسم" أو "هدّاف الموسم"؛ بينما يتذيّل فريقه ترتيب فرق البطولة؟!
هذا ما صرّح به نجم الدوري الأميركي الراحل لمحترفي كرة السلة "كوبي براينت" قائلاً: "سأبذل قصارى جهدي للفوز بالمباريات، سواءً أكُنتُ جالساً على مقعد الاحتياط ألوّحُ بمنشفة، أم أُسَلّمُ كوباً من الماء إلى زميلٍ في الفريق، أم أُسجّل نقطة الفوز في المباراة".
وقد علق "بيل بيليتشيك" (Bill Belichick)، مدرّب كرة القدم الأمريكية في فريق نيو إنجلاند باتريوتس قائلاً: "هنالك مقولة قديمة تؤكد أنَّ قوّة الذئاب تنبع من كونها تعيش في مجموعات، وأعتقد أنَّه يوجد الكثير من الصواب في هذه المقولة. ففي فريق كرة القدم مثلاً، لا تكمن القوة في اللاعبين الفرديين؛ وإنَّما في قوة المجموعة وكيف يعملون جميعاً معاً".
دائماً ما يتذكر القائد الذي يشكل فريقاً رابحاً أنَّ لكلّ فردٍ في الفريق موقعٌ هامٌّ يلعب فيه، وأنَّ كلَّ موقفٍ يدعم الصورة الكبيرة. وكما قال فينس لومباردي ذات مرّة: "إنَّ التزام الفرد بِجُهدِ الجماعة؛ هو ما يُسهِمُ في نجاحِ وازدهار الفِرَقِ والشركات والمجتمعات والحضارة الإنسانيَّة بِرُمَّتِهَا".
يُقدِّر القادة مفهوم الصورة الكبيرة؛ فتجدهم يعملون باستمرار على الالتزام بهذا المفهوم أمام أنفسهم وفرقهم. هذا هو النهج الذي يتطلّبه الأمر لبناء والمحافظة على فريق عملٍ متميز. يقول "جون ماكسويل": "يتطلّب الأمر الشجاعة والتصميم لإدراك أنَّ الهدف أكثر أهمية من الدور؛ وكم هو رائعٌ أن يضعَ عضو الفريق رغباته وأهواءه ومصالحه الشخصية في خدمة مصلحة الفريق".
يعكس مايكل جوردان -والذي يُعَدُّ واحداً من أفضل المواهب على مستوى العالم في كرة السلة- ذلك بقوله: "المواهب تفوز بالمباريات، لكنَّ العمل الجماعي والذكاء المشترك يفوزان بالبطولات".
تنمية مهارة التفكير من أجل بناء الصورة الكبيرة:
لمنع الصورة الكبيرة من أن تصبح مجرّد حلم، يجب على القائد تأطيرها في عقول وقلوب أعضاء الفريق. ولكن قد يتغلّب الاعتقاد بأنَّ القائد يفتقر إلى المعرفة أو البصيرة لبناء الصورة الكبيرة بشكلٍ صحيح. هذا هو سبب أنَّ تنمية مهارة التفكير في الصورة الكبيرة أمرٌ في غاية الأهميّة؛ فبدلاً من أن يعيش القائد أسيراً لفكرة أنَّه يفتقر إلى القدرات اللازمة لبناء الصورة الكبيرة، يمكنه تطوير مهاراته في بنائها استناداً إلى الموارد الذي يمتلكها، وذلك من خلال:
- النظرة القيادية: عادة ما يُنظر إلى القادة على أنَّهم هم "الصورة الكبيرة". حين يحتاج الآخرون إلى الذهاب إلى مكانٍ ما؛ فإنَّهم يفضلون متابعة أولئك الذين لديهم معرفةٌ سابقة بالمكان. إذا كنت تريد أن تقود، فإنَّ التفكير بالصورة الكبيرة شيءٌ تحتاج إلى التفكير فيه والقيام به بجديةٍ واستمرار.
- التركيز على الغاية: التفكير في الصورة الكبيرة ضرورةٌ لتحقيق الهدف. وعندما تتدرّب على ذلك، تكون قادراً على رؤية كيف تنسجم الأهداف مع نسيج فريقك. يساعدك هذا في توضيح سبب سعيك إلى تحقيق هدفٍ ما، وهذا بدوره يساعد على تحديد ما يجب القيام به من قِبل أعضاء الفريق.
- رؤية ما يراه الآخرون: إنَّه لمن المهمّ أن تكون قادراً على رؤية وجهة نظر الآخرين؛ فهذه واحدةٌ من مهارات الذكاء العاطفي التي يجب على كلّ قائدٍ أن يسعى إلى تنميتها ليكون ناجحاً في حياته المهنية؛ فعندما نستخدم التفكير بالصورة الكبيرة، فإنَّنا نمنح أنفسنا فرصةً ذهبيّةً لفتح نافذةٍ إنسانيّةٍ نرى من خلالها المشكلة من وجهات نظرٍ مختلفة، ومن مستوياتٍ إداريّةٍ وخبراتيّةٍ مختلفةٍ أيضاً. على سبيل المثال، إذا كنت مديراً للمشروع، فيمكنك استخدام التفكير بالصورة الكبيرة لعرض مشروعك من منظور قائد فريقك أو الرئيس التنفيذي للشركة. كما يمكنك أيضاً استخدام التفكير في الصور الكبيرة لعرض المشروع من منظور المستخدم النهائي (End User) أو العملاء أو أصحاب المصلحة (Stakeholder) الذين يستفيدون من المشروع بعد سنواتٍ من الآن.
- تعزيز العمل الجماعي: يمنح التفكير بالصور الكبيرة الريادة إلى القادة؛ إذ يقدرون على بناء تلك الصورة المثالية في نفوس فريق العمل، كما يُمكّنهم من التعاون على شيءٍ أكبر من ذواتهم الشخصية، ورؤية شيءٍ أكثر إلهاماً وتأثيراً يستحقّ بذل الجهود من أجله.
في الحقيقة؛ يحتاج الفريق إلى قائدٍ فعّالٍ لتحقيق النجاح، لكنَّه يحتاج أيضاً إلى الصورة الكبيرة لتنسيق أعماله بفاعلية. - الارتقاءُ بالمهمة والفريق: عندما تمارس التفكير بالصورة الكبيرة، فهذا يساعد على جعل المهام الروتينيّة ذات مغزى أعمق. من المهمّ أن نفهم أنَّه حتى الأشياء الصغيرة يكون لها تأثيرٌ على الشيء الكبير؛ فالاعتناء بالأعضاء والاهتمام بشؤونهم والاستماع إلى همومهم من جانب، والالتزام بالكماليات والتحسينات في مجال العمل من جانبٍ آخر؛ تضيف وتصبّ في تحقيق الصورة الكبيرة للفريق.
بعد أن تعلّمنا بعض النصائح بخصوص التفكير في الصورة الكبيرة وخصوصاً إلى القادة، نقدّم إليكم فيما يلي بعض النصائح لمساعدة الفريق بأكمله على العمل نحو بناء الصورة الكبيرة:
7 نصائح لبناء الصورة الكبيرة في فرق العمل:
1- شرح الهدف النهائي من تشكيل الفريق:
قبل أن تبدأ العمل على الخطوات الجزئيّة بُغيةَ الوصول إلى هدفك، يحتاج فريقك إلى فهم الهدف الكبير الذي تسعى إليه. كُنْ واضحاً بشأن الهدف النهائي وكيف تأمَلُ في تحقيقه، ثمَّ أشِرْ إلى كلّ عضوٍ في الفريق بالدور القيِّم الذي يلعبه في مساعدة الفريق في الوصول إليه.
2- وضع الأهداف الفردية:
بعد أن تمّ توضيح الصورة الكبيرة؛ يحتاج كلّ فردٍ من أعضاء الفريق إلى فهم الأهداف التي تضعها موضع التنفيذ. ويجب عليهم أيضاً فهم أدوارهم التي ستساعد على تحقيق هذه الأهداف (سيتم تغطية ذلك تفصيلاً من خلال نظرية بلبين)، وكذلك العمل مع كلّ عضوٍ من أجل تحديد أهدافه ومواعيد التسليم النهائية التي تسهم في الصورة الكبيرة للإنجاز. لذا احرص على متابعة التقدم المحرز نحو تحقيق الأهداف المتفق عليها، ومراقبة العمل لضمان أنَّ الجميع يسيرون على المسار الصحيح.
3- وضعُ نقاط علَّام للهدف النهائي (Milestone):
قد يتهيّب الكثير من أعضاء الفريق من فكرة الصورة الكبيرة التي تبدو هائلة؛ فبدلاً من جعل الفريق أكثر حماسةً للعمل بجهدٍ أكبر لتحقيقها، قد يؤدي ذلك أحياناً إلى شعورهم بالتيه الذي قد يؤدي بدوره إلى انخفاض مستويات الإنتاجيّة بدلاً من زيادتها. ورغم أنَّ الفريق قد يفهم الصورة العامة الكليّة، إلا أنَّ وضعَ بعض نقاط العلام على طول الطريق يساعد الآخرين على رؤية المُنجزات الجزئيَّة التي تكون على شكل خطواتٍ قابلة للإنجازِ تساعدهم على تحقيق أهدافهم النهائية.
4- تفويض المهام مع ربطها بالصورة الكبيرة:
لا فائدة من القيام بعمل فريقٍ بأكمله بنفسك عندما يكون لديك فريقٌ تحت تصرفك؛ وهذا يُناقِضُ مفهوم الفريق ويضاعف الإرهاق لدى القائد. لذا ابحث عن طرائق لتفويض المهام والمسؤوليات؛ مع ضرورة ربطها بوضوحٍ بالصورة الكبيرة الكليّة. وبما أنَّه قد يكون لدى أعضاء فريقك مهارات وسمات متفاوتة، فاعمل على تفويض المهام بما يتناسب وإيَّاها.
5- توفير الموارد التي تُناسبُ أداء المهام:
بصرف النظر عن طبيعة المشروع، عليك دائماً العمل على إيجاد طرائق تزوِّد من خلالها أعضاء الفريق بالأدوات المناسبة والموارد الكافية لإنجاز المهمة. قد يكون هذا على شكل موارد بشرية أو مالية أو أدوات ومعدات فنية أو معلومات قيمة، أو عبر ربطهم بشبكة علاقات العمل. تضمن هذه الموارد أن يمتلك كلّ عضوٍ في الفريق ما يحتاجه لإكمال دوره في المشروع ككل.
6- مكّن أعضاء الفريق:
التمكين هو واحدةٌ من أهمّ أدوات التحفيز والتنشيط في فرق العمل. لذا اطلب من كلّ عضوٍ في الفريق تقديم اقتراحاتٍ وأفكار تساعد على الإنجاز بسلاسةٍ أكبر. إذا لم يكن أحدٌ على استعدادٍ للتقدّم بهذه الأشياء، فلا تتردّد من سؤالهم عن آرائهم وأفكارهم حول المشروع؛ فمن شأن هذا أن يمنحهم الشعور بالتمكين، ويزيد فيهم الثقة المتبادلة. اخلقْ شعوراً عاماً بأنَّ هذه الأفكار والمبادرات من بنات أفكارهم؛ لكي يدفعهم ذلك إلى تنفيذها بشكلٍ أفضل وثقةٍ أعلى.
7- تقديم التغذية الراجعة وإظهار الامتنان:
إذا كنت تعمل من أجل تحقيق هدفٍ عظيم، فلا ينبغي لك أن تتوقّف عن تقديم الثناء والمديح وإظهار التقدير والامتنان. اعترف بمساهمتهم بصراحةٍ ووضوحٍ وبشكلٍ منتظم. يقطع هذا شوطاً طويلاً في مساعدة الفريق على الشعور بأنَّ مجهوداتهم مقدّرة ومحترمة من قِبَلِ قائدهم؛ ما يعطي دفعةً هائلةً من التحفيز التي يُعزَّزُ وجودها بارتفاع مستوياتهم.
كيف تعزّز الصورة الكبيرة من قوة الفريق؟
يعمل كثيرٌ من أعضاء الفريق على ما يسمّى خطّ المواجهة (Front line) وينشغلون بالمهام اليوميّة سواءً في خدمة العملاء أم المبيعات أم العمليات. هؤلاء هم واجهة المؤسسة، وغالباً ما يكونون المساهم الأكبر في إيراداتها؛ لذا ينصبّ جلّ تركيزهم على إنجاز مهامهم فقط، فلا يفكرون في التأثيرات الأوسع نطاقاً لعملهم.
من خلال القيام بالخطوات السابقة؛ فإنَّنا نمنح الفريق فرصةً مثاليّةً للتعبير عن المساهمة التي يقدّمها العمل الذي يقومون به في تحقيق مهمّة المؤسسة وصورتها الأكبر. كما يوفّر إليهم الإحساس بالهدف والمغزى لكلّ جانبٍ من جوانب عملهم أيضاً.
وبالمثل، فإنَّ توضيح الكيفية التي تساهم قرارات الإدارة فيها في رسم ملامح الصورة الكبيرة وتحقيق ما تحاول المؤسسة الوصول إليه، يُسهِّلُ فهمَ وقبولَ هذه القرارات؛ فالتعبير والشفافية يؤديان إلى الوضوح، والذي يؤدي بدوره إلى التفاهم والانسجام بين الإدارة والفريق.
وأخيراً؛ في حين يمكن أن ينتج عن القيام بكلّ ما سبق تحسُّناً على المدى القصير، لكن إن لم تتمّ متابعته؛ فسيعودُ أعضاء فريق العمل في النهاية إلى عقليتهم الأصلية؛ إذ سيشغل روتين العمل والمهام العاجلة عقولهم ويدفعهم إلى تفسير الإجراءات والقرارات التنظيمية ورسائل الإدارة بناءً على منظورهم هم، دوناً عن الصورة الكبيرة. لذا يحتاج القادة إلى تعزيز الرؤية بانتظامٍ وبشكلٍ متكرّر، وإلى توضيح قيمة المساهمة التي يقومون بها وتذكيرهم بالصورة الكبيرة بطرائق مختلفة ومتنوعة.
من خلال هذه الممارسات؛ فإنّ القادة يمهّدون الطريق لفريق العمل لفهم وقَبول القرارات التنظيمية. ليس هذا فقط؛ بل وتشجيعهم على تبني هذه القرارات والإيمان بها والدفاع عنها أيضاً. والأهمُّ من ذلك، إنّهم يقومون بتطوير موظفيهم من خلال تشجيعهم على توسيع منظورهم، والتفكير بشكلٍ استراتيجيٍّ أكثر، وإعدادهم لتقديم أداءٍ أرقى في المؤسسة.
المراجع:
أضف تعليقاً