ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن "ديفيد وينبرغر" (David Weinberger)، ويُحدِّثنا فيه عن آرائه فيما يخص التعلُّم الآلي.
يكشف تعلُّم الآلة أنَّ حياتنا اليومية اعتباطية أكثر منها محكومة بالقوانين؛ وإن كان الأمر كذلك، فهو بسبب أنَّ تعلُّم الآلة يكتسب قوَّته المعرفية من تحرره من العموميات التي نفهمها نحن البشر ونطبقها.
إنَّ عدم شفافية تعلُّم الآلة يثير القلق فيما يخص موثوقيته وانحيازه. ولكنَّ الحقيقة القاسية المرتبطة بنجاحه يمكن أن تغير من طرائق فهمنا وتجربتنا لماهية العالم ودورنا فيه.
يعمل تعلُّم الآلة عملاً مختلفاً جداً عن البرمجة التقليدية. وفي الواقع، تُعَدُّ البرمجة التقليدية تمجيداً للفكرة التي تقول إنَّ العالم وما نشهده من تجارب محكومان بقواعد محددة. لنقرِّب الأمر بمثال لنوع بارز جداً من تعلُّم الآلة، وهو كتابة برنامج يفهم الأرقام المرسومة بخط اليد.
سيقوم المبرمج بتلقين الحاسب أنَّ الرقم "1" يُرسَم خطاً عمودياً مستقيماً، وأنَّ الرقم "8" يُرسَم دائرةً كبرى فوقها دائرة صغرى، وهكذا. ولكنَّ اعتمادها على المُثُل الأفلاطونية للأرقام المكتوبة بخط اليد يعني أنَّ البرنامج سيخطئ بنسبة عالية من الأرقام المرسومة بيد بشرية في هذا المجال القابل للخطأ.
أمَّا نماذج تعلُّم الآلة، فهي برامج مكتوبة عن طريق برامج قد تعلَّمت كيف تتعلم من الأمثلة. ولإنشاء نظام تعلُّم آلة لتمييز الأرقام المرسومة بخط اليد، لا يلقِّن المبرمجون الآلة أي شيء فيما يتعلق بمعرفتنا البشرية عن أشكال الأرقام المرسومة؛ بل إنَّه في إحدى الطرائق السائدة، سيعطي المبرمجون صوراً لآلاف الأمثلة عن أرقامٍ مرسومة بخط اليد، كلٌّ منها مختلف عن الآخر ومرسوم رسماً صحيحاً بالنسبة إلى الرقم الذي يمثله.
ثم يميز البرنامج بواسطة خوارزمية العلاقات الإحصائية بين بكسلات الصور التي تشترك بعلامة ما. ترتبط سلسلة من البكسلات بطريقة ما بخط عمودي بالرقم 1، وتقلل من احتمالية أن تكون رقم "3" وهكذا. إنَّ الشكوى القائلة: "إنَّنا لا نعلم كيف يعمل تعلُّم الآلة" تعترف بأنَّ هذه النماذج تنجح بالفعل.
عند تطبيق تعلُّم الآلة على أرض الواقع، فإنَّ عدد الإجابات المحتملة يمكن أن تتعدى الـ 10 أرقام، إنَّ كمية البيانات التي يجب مراعاتها كثرى جداً، والعلاقة بين نقاط البيانات معقدة لدرجة لا يمكننا نحن البشر فهمها بسهولة.
على سبيل المثال، تتكون عملية الأيض عند البشر من مجموعة معقدة من التفاعلات والتأثيرات المترابطة؛ لذا تخيل أنَّه اختُرِع نظام تعلُّم آلة جيد يتوقع كيفية استجابة أجهزة الجسم البشري لمجموعات معقدة من الحالات. سيصبح هذا النظام المكانَ الذي سيلجأ إليه الأطباء والباحثون، والعامة، والمتوجسون ليطرحوا الأسئلة، ويكتشفوا الأفكار، وليطرحوا تجارب من نوع "ماذا لو" على الكائنات البشرية. سيصبح أهم مصدر للمعرفة المتعلقة بالجسم البشري، حتى لو لم نستطع فهم كيف يعثر على تلك النتائج.
ولأنَّنا نعتمد على نماذج تعلُّم الآلة التي لا نفهمها مثل النظام، يمكننا أن نبدأ بإقناع أنفسنا بأحد السيناريوهين:
- يقول السيناريو الأول إنَّ التعقيد هو عقبة يجب التأقلم معها لكي نحصل على النتائج المفيدة والمحتملة التي تأتي بها نماذج تعلُّم الآلة.
- أما الثاني فيقول إنَّ التعقيد هو عقبة لكن حقيقة؛ إذ تعمل نماذج تعلُّم الآلة جيداً؛ وذلك لأنَّها أنجح في قراءة العالم منا نحن البشر؛ إذ تنتج عن الإحصاءات المترابطة من بيانات دقيقة جداً مما يمكن للأنظمة الأخرى أن تتعامل معها، ودون أن تضطر إلى القلق على شرح ذلك لنا نحن البشر.
لقد فرض تعلُّم الآلة نفسه في حياتنا اليومية وبقوة، بدءاً من ساعة اليد التي نرتديها، والسيارات التي نستقلها، وأجهزة الكاميرا وصولاً إلى أجهزة التكييف. نحن نستعمله لاقتراح مقاطع الفيديو، ولتسيير المركبات على كواكب أخرى، وللحد من انتشار الأمراض، وهو ضروري للتخفيف من أزمة المناخ. إنَّه غير مثالي ويمكن أن يعزز من الانحيازات الاجتماعية، ولكنَّنا ما زلنا نتابع استعمالها في كل الأحوال؛ وذلك لأنَّه يؤدي هدفه.
لقد اعتدنا على اتباع القواعد بحيث بات من الجنون برمجة نظام تعلُّم آلة ليقوم بدوره دون تلقينه القواعد؛ بل بإعطائه مئات آلاف اللوائح والحركات ليحللها. وفي الواقع، عندما يعطي المطورون النظام بيانات متعلقة بمجال ما، فإنَّها تحجب عن عمد كل ما نعرفه عن الترابط بين البيانات.
على سبيل المثال، إنَّ تعلُّم الآلة الخاص بالرعاية الصحية قد تدرَّب ذاتياً على نقاط بيانات من ملايين السجلات الصحية التي تتضمن معلومات عن مرضى، مثل أوزانهم، وأعمارهم، وتاريخهم مع التدخين، وضغط الدم لديهم، ومعدل ضربات القلب، والأمراض السابقة، وكيف عُولِجوا ونتائج تلك المعالجة.
لا يلقِّن المطورون النظامَ بالعموميات، مثل تلك التي تقول إنَّ أعراضاً معينة هي علامة على المرض الفلاني، أو إنَّ الأمراض يمكن معالجتها بأدوية معينة، إلا أنَّه في بعض الأحيان عندما يكون لدى المريض حساسيات أو مرض قلبي؛ لا نلقِّن الآلة بوجود علاقة بين التدخين وأمراض الرئة، أو بين البروتين الدهني منخفض الكثافة ودواء معين، أو بين سعة الرئة ومستويات الأوكسجين في الدم.
لا تبدأ عملية تدريب نموذج تعلُّم الآلة من التعميمات، وعادةً لا تنتج التعميمات، وقد لا يكون هناك تعميمات قابلة للتفسير فيما بين المرحلتين. الأمر أشبه بأن تَعجب كيف لسيارتك أن تنجو من خطر محدق بحادث تصادم السيارات.
والآن، ما يزال الناس المتوجسون من تعلُّم الآلة خائفين منه؛ وذلك لأنَّ نموذج تعلُّم الآلة ينشأ بدقة من خلال التعميم من البيانات. على سبيل المثال، إذا لم يُعَمَّم معرِّف الكتابة اليدوية في نماذج تعلُّم الآلة مما تعلمته من العينات المقدَّمة، فسوف يفشل فشلاً ذريعاً في تصنيف الحروف التي لم يرها من قبل. وفشله في التعميم سيجعله نموذجاً بلا فائدة.
ولكنَّ تعميم نموذج تعلُّم الآلة يختلف عن التعميم التقليدي الذي نستعمله لشرح الخصوصيات. نحن نفضل التعميم التقليدي لأنَّنا نفهمه، ويمكِّننا من الخروج بنتائج، ويمكننا تطبيقه على التفصيلات؛ أما التعميم الخاص بنماذج تعلُّم الآلة فهو غير مفهوم على الدوام، ويتسم باعتماده على الإحصاءات، والاحتمالات، والاستقراء في المقام الأول، ولا يمكننا عملياً وحرفياً أن نطبِّق التعاميم الخاصة بنماذج تعلُّم الآلة باستثناء تشغيل نموذج تعلُّم آلي ينتج من تلك التعاميم.
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للتعاميم الخاصة بنماذج تعلُّم الآلة أن تكون خاصة جداً؛ إذ إنَّ نمط الأوردة في فحص الشبكية العينية يمكن أن ينذر بالتهاب في المفاصل، ولكنَّ هذا فقط في حال وجود 50 عاملاً آخر بقيمة معينة في السجل الصحي ككل. ويمكن أن تتنوع هذه العوامل الـ 50 اعتماداً على طريقة ارتباطها ببعضها بعضاً.
لا ينكر ما ذكرناه عن نموذج تعلُّم الآلة واقع وجود تعاميم، وقوانين، ومبادئ؛ بل ينكر أنَّها كافية لفهم ما يحدث في كونٍ معقد كالذي نعيش فيه. تطغى التفاصيل المحتملة على قوة القواعد التفسيرية، ويؤثر كل واحد منها في الباقي، وستظل كذلك حتى لو كنَّا على دراية بكل هذه القواعد.
إن كنت، على سبيل المثال، على دراية بالقوانين التي تسيِّر الجاذبية ومقاومة الرياح، وإن كنت تعلم كثافة العملة المعدنية والكرة الأرضية، والارتفاع الذي ستسقط منه تلك العملة، فيمكنك حينها حساب المدة التي ستستغرقها لترتطم بالأرض، وسيكون ذلك على الأرجح كافياً لتحقيق هدفك العملي.
ولتطبيق القواعد تطبيقاً كاملاً، يجب أن نعرف كل العوامل المؤثرة في عملية السقوط، ومن ذلك الحمَام الذي سيحرك التيار الهوائي حول العملة المتدحرجة، وتأثير جاذبية النجوم البعيدة التي تسحبها من جميع الاتجاهات في آنٍ واحد. ولتطبيق القوانين تطبيقاً دقيقاً كاملاً، يجب أن نحصل على المعرفة المطلقة والشاملة والمستحيلة عن الكون.
إنَّ هذا ضروري ودقيق كفاية لاحتياجاتنا؛ حتى وإن كانت درجة الدقة العملية تشكِّل بصمت ما نعدُّه من ضمن احتياجاتنا. ولكن يجب أن تجعلنا نتساءل عن سبب معاملة الغرب للنظرية الفوضوية التي تقول إنَّنا لا يمكننا الغوص في النهر نفسه مرتين بوصفه مفهوماً ظاهرياً؛ إذ تكمن وراءه مبادئ النظام التي تشرح ذلك التدفق.
نحن إلى حد ما قد انجذبنا إلى الطريقة التي تسهِّل بها القوانين الثابتة العالم بحيث نفهمه، ومن ثَمَّ نتنبأ به ونسيطر عليه. وفي الوقت ذاته، فإنَّ القوانين السهلة والأنيقة تخفي عنا فوضى الخصوصيات التي تحددها القوانين، كما تحددها كل حالة لكل أمر خاص.
ولكن بوجود التكنولوجيا التي تمكِّننا من التنبؤ والتحكم فهذا يأتي مباشرة من الترابط الفوضوي المستمر للأمور الكلية. تزيد هذه التكنولوجيا من إتقاننا، وليس من فهمنا، ويلفت نجاحها الانتباه إلى ما يستعصي على فهمنا.
وفي الوقت ذاته، ولأسباب عدة، ربما كان التعلُّم الآلي يقوض من ولعنا باليقين بوصفه علامة على المعرفة؛ وذلك لأنَّ نتائجه تعتمد على الاحتمالات. وفي الواقع، فإنَّ اليقين المطلق للنتائج التي تأتي من نموذج تعلُّم الآلة هو سبب للشك بالنموذج بحد ذاته. إنَّ مخرجات تعلُّم الآلة، بصفته احتمالياً، تتصف بدرجة من قلة الدقة؛ إذ إنَّ التقرير الاحتمالي الحقيقي هو الذي يتوقع بدقة عدد المرات التي سيخطئ بها.
والآن، وبوجود الآليات التي تدهشنا بسلطتها المستخلصة من دوامات الخصوصيات المرتبطة بالشبكات الدقيقة والعصية على الفهم، ربما لم نعد ندوِّن تلك الدوامات الفوضوية بوصفها مجرد ظواهر يجب اختراقها.
ربما ما سنعدُّه حقيقةً مطلقةً هو التعقيد غير المعقول لأسهل ما يمكن أن يحدث؛ وأنَّ أولوية الأحداث والوقائع، وعدم كفاية عقلنا الذي يزن 1.4 في وجه التحديات التي نستعد لها، والمجهول القاسي لعالمنا هو ما يصقل فهمنا. وإن حدث هذا فلأنَّنا نستطيع الآن الإصغاء إلى أصوات تفاصيل أكثر مما يمكننا إحصاؤه، فكلٌّ منها يُعَدُّ إشارةً صغيرةً من قراءاتنا الجديدة للعالم، وهي قراءة ينتج عنها معرفة مفيدة ومدهشة من التأثير غير المفهوم للجميع دائماً وأبداً.
أضف تعليقاً