لقد كان عمر ديدرو 52 عاماً، وكانت ابنته توشك أن تتزوج، لكنَّه لم يستطع تحمُّل تكاليف زواجها؛ ورغم أنَّه لم يكن ثريَّاً، إلَّا أنَّه كان معروفاً بكونه أحد الأشخاص الذين شاركوا في تأسيس موسوعة إنسيكلوبيدي (Encyclopédie) التي كانت تُعَدُّ في ذلك الوقت واحدة من أكثر الموسوعات شمولاً.
حينما سمعت إمبراطورة روسيا كاترين الثانية (Catherine the Great) بالمشكلات المالية التي يعانيها ديدرو، عرضت عليه شراء مكتبته مقابل ألف جنيه إسترليني، أي ما يعادل 50 ألف دولار تقريباً في وقتنا هذا؛ وفجأة أصبح لدى ديدرو فائض من المال؛ ثم بعد فترة قصيرة من هذه الصفقة التي حالفه فيها الحظ، حصل على رداء قرمزي، ومنذ ذلك الحين بدأ كل شيء يسوء.
تأثير ديدرو:
لقد كان رداء ديدرو جميلاً جداً، لدرجة أنَّه لاحظ فوراً كيف أنَّه يبدو غير متناسق مقارنة ببقية مقتنياته العادية؛ فقال لنفسه أنَّه لم يَعُد يوجد تناسق ولا تناغم ولا جمال بين ردائه وبقية مقتنياته، وأحسَّ سريعاً بالحاجة إلى شراء بعض الأغراض الجديدة حتى تناسب جمال ردائه.
استبدل ديدرو السجاجيد البالية بسجاجيد دمشقية جديدة، وزيَّن منزله بتماثيل وطاولة مطبخ أفضل، واشترى مرآة جديدة، ونقل كرسي القش إلى البهو، ووضع مكانه كرسياً مصنوعاً من الجلد.
لقد أضحت عمليات الشراء التي تتحكم بها ردود الأفعال هذه تُعرَف باسم "تأثير ديدرو"، والذي يدور حول أنَّ الحصول على مقتنيات جديدة يُولِّد غالباً رغبة غير منضبطة في الاستهلاك تدفع الشخص إلى شراء مزيدٍ من الأغراض الجديدة؛ ونتيجة لذلك نشتري أغراضاً لم نكن نحتاج إليها سابقاً لنُحِسَّ بالسعادة أو الرضا.
لماذا نريد أشياء لا نحتاج إليها؟
لقد وقع العديد من الأشخاص ضحية تأثير ديدرو، إذ يوجد أشخاص اشتروا مؤخراً سيارات، واشتروا جميع أنواع الأكسسوارات الإضافية التي تُوضَع في داخلها، كمقياس ضغط الإطارات، وشاحن لشحن الهاتف الخليوي في السيارة، ومظلَّة إضافية، وحقيبة إسعافات أولية، وسكين يُطوَى ويُوضَع في الجيب، ومصباح يدوي، وبطانية لحالات الطوارئ، وأداة لقطع حزام الأمان.
ومنهم من اقتنى سيارته السابقة مدة 10 سنوات تقريباً ولم يشعر في أيِّ وقتٍ بأنَّ أيَّاً من الأغراض التي ذُكِرت سابقاً تستحق الشراء؛ لكن بعد شراء السيارة الجديدة الزاهية، وقع في الفخ نفسه الذي وقع فيه ديدرو.
تستطيع رؤية سلوكات مشابهة في العديد من جوانب الحياة الأخرى، فمثلاً:
- اشتريت ثوباً جديداً، وأنت الآن مضطر إلى شراء حذاء وإكسسوارات جديدة تلائم ذلك الثوب.
- سجلت في نادٍ رياضي، ويجب عليك قريباً أن تدفع ثمن معدات للتمرُّن وطعام يلائم النظام الغذائي المطلوب اتباعه.
- اشتريت دمية للأطفال، ثمَّ وجدت أنَّك اشتريت إكسسوارات للدمية أكثر من التي كنت تظنُّ في يوم من الأيام أنَّها تُشترَى لدمية.
- اشتريت أريكة جديدة، ثمَّ بدأت فجأة التفكير في تغيير تصميم غرفة المعيشة كلها.
يوجد في نفوسنا ميل طبيعي إلى اقتناء مزيد من الأغراض، ونادراً ما يحاول أحد تبوء مكانة أدنى من التي كان يتبوَّؤها، أو إضفاء طابع أبسط على حياته، أو التخلص من مقتنيات موجودة لديه؛ فنحن نميل دائماً إلى جمع مزيد من المقتنيات، وإضافة مزيد منها إلى التي نمتلكها أساساً، وتطويرها، ودمجها مع غيرها.
تقول أستاذة علم الاجتماع "جولييت شور" (Juliet Schor): "تسير الرغبة في تحديث مجموعة المقتنيات التي نمتلكها في اتجاه وحيد لا يقبل التغيير: الصعود دائماً".
شاهد بالفيديو: كيف تضع ميزانية تساعد على الادّخار؟
التحكم بتأثير ديدرو:
يخبرنا تأثير ديدرو أنَّ حياتنا كلها ليست إلَّا مزيداً من الأشياء التي نتنافس على الوصول إليها؛ لذلك يجب عليك أن تعي كيف تجمع الأمور الهامة وتركز الاهتمام عليها، وتتخلص من الأمور غير الهامة.
تبدأ كل عادة تقريباً بدافع أو إشارة، وإحدى أسرع طرائق التخفيف من سطوة أثر ديدرو هي تجنُّب العوامل المحفزة التي تؤدي إلى اكتساب العادات، والتي تكون قبل غيرها السبب في اكتسابها؛ لذلك، ألغِ الاشتراك برسائل البريد الإلكتروني التجارية، واتصل بالمجلات التي ترسل لك فهارس (كاتالوجات) واطلب منها عدم إرسال مزيد من منها، وقابل أصدقاءك في الحديقة عوضاً عن مقابلتهم في المُجمَّع التجاري، واحجب مواقع التسوق المفضلة بالنسبة إليك باستخدام أدوات مثل فريدوم (Freedom).
من الخطوات التي يمكن اتباعها أيضاً لتجنب الوقوع في مصيدة تأثير ديدرو:
- اختيار ما يلائم مقتنياتنا الحالية: ليس ضرورياً أن تبدأ من الصفر كلما اشتريت غرضاً جديداً؛ فحينما تشتري ثياباً جديدة، ابحث عن قطع تلائم لباسك الحالي؛ وحينما تبتاع جهازاً إلكترونياً جديداً، اختر الأنواع التي تناسب القطع الموجودة لديك حالياً حتى تتجنَّب شراء شواحن أو وصلات كهربائية أو أسلاكاً جديدة.
- وضع ضوابط ذاتية: احرص على عيش حياة منضبطة من خلال وضع قيود تنظمها، وتقدم لنا الكلمات التالية المُقتبَسة من "جوليت شور" (Juliet Schor) مثالاً رائعاً عن هذه القيود: "تخيَّل السيناريو التالي: دَعَت مجموعة من الناس الأهالي إلى التوقيع على تعهُّد يوافقون فيه على عدم إنفاق أكثر من 50 دولاراً على الأحذية الرياضية التي يرتديها أطفالهم، ثمَّ طلب الموظفون الذين يعملون في مركز الرعاية الذي يذهب إليه الطفل أن يكون حد الإنفاق على حفلات أعياد الميلاد 75 دولاراً، وأطلق بعد ذلك مجلس إدارة المدرسة حملة لدعم التحول إلى اللباس المدرسي الموحد، ثمَّ تمكَّن مجلس أولياء الأمور والمدرسون من الحصول على موافقة 80% من الآباء على وضع ضوابط تمنع تجاوز المدة التي يقضيها الأطفال في مشاهدة التلفاز أكثر من ساعة. هل تعتقد أنَّ أي أحدٍ حولك أو في مدرسة الأطفال سيُبادر إلى بذل مثل هذه الجهود أو جهودٍ مشابهة؟ أعتقد أنَّ ملايين الآباء في أميركا يفعلون ذلك؛ إذ يُعَدُّ كلٌّ من التلفاز، والأحذية، والثياب، وحفلات أعياد الميلاد، والثياب الموحدة التي يلبسها الأطفال في أثناء ممارسة الرياضة من الأشياء التي يُحِسُّ الأهل أنَّهم مجبرون على السماح للأطفال باقتنائها بمستويات تفوق أفضل ما كانوا يعتقدون، وتفوق المبالغ التي كانوا يريدون إنفاقها، والتكاليف التي يستطيعون تحمُّل أعبائها".
- واحدة بواحدة: كلما اشتريت غرضاً ما، تبرع بغرض آخر؛ فمثلاً: هل اشتريت تلفازاً جديداً؟ تبرع بالتلفاز القديم عوضاً عن نقله إلى غرفة أخرى؛ فالهدف من ذلك هو أن تمنع مقتنياتك من الازدياد، وترتب حياتك دائماً بطريقة تتيح لك الاحتفاظ فقط بالأشياء التي تبهجك وتسعدك.
- شهر دون مشتريات جديدة: لا تشترِ أي غرض جديد لمدة شهر؛ فعوضاً عن شراء آلة جز عشب جديدة، استأجر واحدة من جارك؛ وأحضر قميصاً جديداً من محل الألبسة المستعملة عوضاً عن شرائه من متاجر الألبسة الجديدة؛ إذ كلما وضعنا قيوداً تنظم حياتنا، ازددنا حنكة في التعامل مع الحياة.
- التخلي عن الرغبة في الاقتناء: لن تصل في أيِّ وقتٍ من الأوقات إلى مرحلة تتوقف عندها عن الرغبة في الاقتناء؛ إذ يوجد دائماً مستوى أعلى ترتقي إليه، ويجب عليك أن تعرف أنَّ الرغبة في الاقتناء عبارة عن خيارات يقدمها لك العقل، وليست طلباً يجب عليك أن تُنفِّذه.
كيف تتغلب على الرغبة في الاستهلاك؟
يميل البشر بطبيعتهم إلى استهلاك المزيد، وليس إلى الحد من الاستهلاك؛ وبالنظر إلى وجود هذا الميل، يُعتقَد أنَّ اتخاذ خطوات فعلية للحد من سيل الاستهلاك الذي لا يخضع إلى المساءلة يُحسِّن حياتنا؛ إذ ليس الهدف هو أن نصل إلى الحد الأدنى من الأشياء التي يمكن اقتناؤها في الحياة، بل أن نقتني في حياتنا الكمية الأمثل من الأغراض التي نحتاج إليها.
يقول ديدرو: "اتخذني قدوة وتعلم هذا الدرس: في الفقر حريات تنالها، وفي الثراء عقبات تقف في طريقك".
أضف تعليقاً