سنجيب عن هذه الأسئلة وغيرها في مقالنا الآتي المخصص للحديث عن كل ما يتعلق بمفهوم العلمانيَّة ونشأتها وتعريفها وأهدافها ومبادئها وموقف الإسلام منها، فتفضلوا بالقراءة.
نشأة العلمانيَّة وتعريفها:
في الحقيقة لا يخفى على أحد ما فعلته السلطة الكنسية في أوروبا خلال العصور الوسطى، ولا يخفى على أحد عصور الجهل والتخلف والفساد التي سادت أوروبا في تلك الفترة بسبب سيطرة الكهنة على كل جوانب الحياة في أوروبا، وهذا كله جعل عامة الشعب يبحثون عن طريقة للخلاص فيها من سلطة الدين وتدخُّله بغير حق في كل شؤون حياتهم وتفضيل الغيبيات والحياة بعد الموت والعبادات على الاهتمام بالحياة الدنيوية بغرض بسط نفوذ رجال الدين بشكل أكبر وأوسع.
بدأت العلمانيَّة بالظهور وتحديداً في أوروبا بوصفها رد فعل ديني، وكان الهدف الأساسي لنشأتها هو مقاومة الكنيسة وكف يدها عن التدخل في كل مؤسسات المجتمع، ومحاربة ما كان سائداً وقتها من تنظيم للمجتمع على أساس الدين والطوائف والمذاهب، بِعَدِّ أنَّ المجتمع وأمر تنظيمه يجب أن يكون خارج سلطة الكنيسة والدين.
الإنسانية وحدها هي الحاكم في كل ما يتعلق بتنظيم المجتمع، أما الدين فعلاقته الأساسية يجب أن تكون مع الفرد شخصياً وكيفية تنظيم هذه العلاقة مع الخالق عز وجل، وبخلاف ما يشاع عن معاداة العلمانيَّة للدين يمكننا القول ببساطة بعيداً عما يمكن استغلاله لمصلحة أطراف معينة إنَّ العلمانيَّة بصفتها فكراً لا تعادي الأديان؛ وإنَّما تدعو إلى فصله عن أيَّة نشاطات داخل الدولة.
لكن في الوقت نفسه لا يمكننا أن ننفي استغلال الكثيرين لهذه الحركة وتطويع أفكارها لخدمتهم وخاصة أعداء الدين، وهذا في الحقيقة ساهم كثيراً في اتخاذ مواقف من العلمانيَّة وتحميلها أحياناً ما لا علاقة لها به من انحلال أخلاقي وسلوكات غير مقبولة سيطرت على المجتمع خلال السنوات الأخيرة.
يمكننا تعريف العلمانيَّة إذاً بأنَّها حركة اجتماعية قائمة بشكل أساسي على مبدأ استبعاد الاعتبارات الدينية وفصلها عن الاعتبارات السياسية، رافضةً ارتباط الدين بالسياسة لأي سبب من الأسباب، لذلك تصب العلمانيَّة جهودها على تنمية النزعة الإنسانية مع التركيز على الإنجازات الثقافية والإنسانية دون النظر إلى الدين أو التطرق إليه، والعلمانيَّة هي نظام اجتماعي يسعى إلى التأسيس لمجتمع قائم على الأخلاق المستمدة من الحياة بحد ذاتها للنهوض بالمجتمع من كل نواحيه السياسية والاجتماعية والثقافية دون الرجوع إلى الدين.
تعد كل من أمريكا وفرنسا من أوائل الدول التي انتشرت بها العلمانيَّة انتشاراً كبيراً وواسعاً، ويرجع هذا إلى التنوع الكبير الموجود في كلا الدولتين، الأمر الذي جعل من اتجاه كالعلمانيَّة حلاً جذرياً لمشكلات التمييز على أساس الدين والمعتقد، إضافة إلى القبول الكبير الذي لاقته الحركة العلمانيَّة في الغرب من قِبل العديد من الدول التي اتخذت من العلمانيَّة منهجاً وأسلوباً تتبعه في نظامها وحياتها السياسية والاجتماعية.
تطور العلمانيَّة عبر التاريخ:
بعد أن تعرفنا إلى بدايات نشأة العلمانيَّة وإلى مفهوم العلمانيَّة سنتعرف إلى المراحل التي مرت بها حتى وصلت إلى مفهومها اليوم.
أول من تحدَّث عن العلمانيَّة هو "سبينوزا" الفيلسوف الهولندي الشهير الذي كان يعيش في (هولندا) أكثر الدول تحرراً في ذلك الوقت، وقد وصل الأمر إلى حد تغيير طريقة التعامل مع الأقليات غير المسيحية كاليهود واللادينيين الموجودين في (هولندا) وعَدِّهم مواطنين هولنديين، وقد تطورت الفكرة بعدها على يد كثيرٍ من الفلاسفة الذين وجدوا في هذه الحركة ما يشبع رغبتهم للحرية والمساواة، ومن هؤلاء الباحث "كارن أرمسترونج".
استمرت العلمانيَّة بمعناها الأساسي فصل الدين عن الدولة خلال القرنين السابع والثامن عشر، وزاد بعدها ابتعاد العلمانيين عن الدين بِعَدِّ أنَّ العقل والطبيعة هما الحاكمان الرئيسان للعالم، وهذا ما زاد الخلاف بين علماء الدين والعلمانيين وزادت المناداة بالفصل بين الدين والدولة حتى تم في القرن التاسع عشر فصل الدين عن الدولة نهائياً في أوروبا.
بعدها بدأت العلمانيَّة بالمغالاة بمعاداة الدين، ومع بداية القرن العشرين انتشرت العلمانيَّة لتصل إلى أغلب دول العالم، وقد أخذت بشكل أو بآخر منحى معادياً للدين حتى تم الوصول في كثير من الدول إلى الإلحاد بشكل كلي وتم ربط هذا الإلحاد بالعلمانيَّة.
أنواع العلمانيَّة:
نظراً للمفهوم الواسع للعلمانية وعلاقتها بكل جانب من جوانب الحياة؛ تعددت أنواع العلمانيَّة لتشمل معظم جوانب الحياة في دولة من الدول، وفيما يأتي سنذكر أنواع العلمانيَّة:
1. العلمانيَّة السياسية:
تعني العلمانيَّة السياسية كف يد السلطات الدينية عن كل ما يتعلق بالأمور السياسية؛ أي الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية.
2. العلمانيَّة الفلسفية:
آراء الفلاسفة فيما يخص الأمور الدينية كانت دائماً سبباً لتعرضهم لكثير من الضغوطات الاجتماعية والرفض وحتى المقاطعة في بعض الأحيان، وتعني العلمانيَّة الفلسفية تقبُّل واستيعاب كل ما يصدر عن الفلاسفة من آراء وأبحاث تتحدث في نقد الأديان أو الإدلاء بأفكار وتصريحات مخالفة للسائد، ويمكن ذكر ما تعرض له الفيلسوف "نيتشه" من اضطهاد من قِبل السلطات الدينية عند الحديث عن فكرته الفلسفية التي أعلن فيها موت الإله بوصفها مثالاً عن عدم احترام رأيه فقط لارتباطه بالدين.
3. العلمانيَّة الاجتماعية والثقافية:
يعني هذا النوع من العلمانيَّة أنَّه يجب على الإنسان التقليل من سيطرة الطقوس الدينية على حياته اليومية وعدم إظهار هذه الطقوس لتصبح جزءاً من هوية الشخص الاجتماعية بِعَدِّ أنَّ الدين علاقة شخصية بين الإنسان وخالقه وليس بالضرورة أن تصبغ هويته الاجتماعية أو الثقافية بالصبغة الدينية.
شاهد بالفيديو: 10 معتقدات إيجابية يجب أن تتبناها
صور العلمانيَّة:
إضافة إلى الأنواع السابقة للعلمانية توجد صورتان لا بد من ذكرهما والتطرق إليهما:
1. العلمانيَّة الملحدة:
يتم في هذه الصورة من العلمانيَّة إنكار الدين إنكاراً كاملاً وعدم الاعتراف بوجود إله وحتى الوقوف ضده ومحاربة كل من يدين بدين معين، وفي هذا معاداة لمبادئ العلمانيَّة التي سنذكرها فيما بعد.
2. العلمانيَّة غير الملحدة:
في هذه الصورة من العلمانيَّة يتم الحفاظ على مبادئ العلمانيَّة التي تدعو إلى احترام الحرية لكل شخص، لكن مع التأكيد على ضرورة الفصل بين الدين والدولة، وبهذه الصورة لا ترفض العلمانيَّة الدين ولا تحاربه ولا تقول بعدم وجود الله؛ وإنَّما فقط تسعى إلى إبعاد الدين عن الدولة وعن مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية.
أهداف ومبادئ العلمانيَّة:
لا توجد حركة أو نظام وحتى حزب إلا ولديه أهداف يسعى إلى تحقيقها، والعلمانيَّة أيضاً لديها العديد من الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، ومن أهداف العلمانيَّة:
- الحرية يجب أن تكون للبشر جميعاً دون أي تفريق بينهم على أي أساس وخاصةً على أساس الدين.
- تطبيق الديمقراطية في المجتمع مع احترام الحرية الدينية للجميع دون التدخل في طقوسهم الدينية أو شعائرهم.
- الوصول إلى مبدأ المساواة بين الجميع دون أيَّة اعتبارات دينية.
- إبعاد السلطات الدينية نهائياً عن إدارة أيَّة مؤسسة من مؤسسات الدولة.
- تطبيق مبدأ المنفعة الذي يعني تقييم السلوك بناءً على مدى المنفعة التي يقدمها للفرد أو المجتمع، علماً أنَّ المذهب البراغماتي هو مذهب اجتماعي وليس دينياً.
تشكل مبادئ العلمانيَّة جوهر الحركة العلمانيَّة، ويمكننا إيجاز مبادئ العلمانيَّة بما يأتي:
- الاعتماد على الأبحاث العلمية وعلى العلم في تفسير الكون ونشأته والقوانين التي تحكمه مستبعدين أي قصص دينية تفسر شكل العالم.
- الاعتماد على المنهج التجريبي بِعَدِّه قائماً على الشك في كل شيء فهو المنهج الوحيد المقبول لديهم؛ وذلك لأنَّه يتخذ من العقل والمنطق أسلوباً للوصول إلى الحقيقة.
- رفض الماورائيات والغيبيات رفضاً مطلقاً.
- فصل الدين عن الدولة بشكل كامل وشامل لكل جوانب الحياة.
موقف الإسلام من العلمانيَّة:
يوجد في الإسلام أدلة واضحة وصريحة لربط الدين بالحكم والقيادة والإدارة، وبهذا رفض لأهم مبدأ من مبادئ العلمانيَّة والجوهر الأساسي لها، وهذا يجعل موقف الإسلام واضحاً وضوح الشمس من العلمانيَّة، لكن على الرغم من ذلك يمكننا القول إنَّ رجال الدين المسلمين قد بنوا موقفين واضحين من العلمانيَّة؛ الموقف الأول يتعلق بالصورة الأولى من العلمانيَّة وهي العلمانيَّة الملحدة التي يرى الإسلام أنَّها وصلت من الفجور إلى المرحلة التي أعلنت فيه عن فجورها، ويرى أنَّ مثل هذه الصورة خطرها ضعيف على المسلمين وعلى قراراتهم.
في حين يرى أصحاب الموقف الثاني أنَّ العلمانيَّة بالصورة الثانية أكثر خطراً على الإسلام والمسلمين؛ وذلك بسبب مواربتها وخداعها وعدم الاعتراف العلني بمعاداتها للدين الإسلامي، وهذا قد يسبب حالة من التشتت والضياع عند بعض المسلمين الذين ينخدعون بها ويتبعونها دون معرفة حقيقتها.
إذا كنت تتساءل عن حقيقة وجود علمانيين ومسلمين فالإجابة هي لا؛ وذلك لأنَّ المسلم الملتزم والمتبع لتعاليم دينه يعرف جيداً أنَّ إبعاد الدين عن مظاهر الحياة ليس إلا نوعاً من التقليد والسير خلف الأهواء دون ضوابط أو قواعد، وهو ما رفضه الدين الإسلامي رفضاً تاماً.
في الختام:
لقد تحدَّثنا عن العلمانيَّة ولا بد من التأكيد على أنَّ المقال لم يتطرق للموضوع من كل جوانبه وأنَّ مصطلح أو مفهوم العلمانيَّة واسع جداً ويحتاج إلى كثير من الدراسات والأبحاث للوقوف على حقيقته وتغطية جوانبه كافة، وحرصاً من فريقنا على توخي الصدق في تقديم المعلومة سنقدم لكم أسماء مجموعة من الكتب التي قد يكون في قراءتها ما يساعدكم ويعينكم على تكوين صورة أوضح وأشمل عن العلمانيَّة، فعلى سبيل التعداد لا الحصر يمكن قراءة كتاب (العلمانيَّة هي الحل) للدكتور "فاروق القاضي"، وكتاب (حوار حول العلماني) للكاتب "فرج فودة"، وكتاب (العلمانيَّة والدين) للكاتب "أركون".
التعليقات
سماح صابر
قبل 4 شهرفعلا ظهرت العلمانية للتخلص مما نتج عن حالة البذخ و الرفاهية التي تميز بها اباء الكنيسة ،و التي كانت السبب الرئيسي في هزم المجتمعات الغربية امام الفتوحات الاسلامية بالسيف، و كانت غايتها الرئيسية هي اعادة توحيد قوة الغرب الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية و السياسية لمواجهة الفتوحات الاسلامية ،حيث ركزت كل جهودها على الانجازات الثقافية و الانسانية دون الاستعانة بالدين او التطرف الديني، و كانت النتيجة جد ايجابية لصالح الغرب، لكنها في الوقت نفسه ،و للاسف الشديد ،استمرت في استخدام الفكر الديني المسيحي المتطرف ،و المطرود بالقوة من الساحة الاجتماعية و الثقافية و السياسية و الاقتصادية الغربية ،تحت شعار اشنقوا اخر ملك بأمعاء اخر قس،في سياستها الخارجية ،حيث جاءت على رأس حربة الغزو الفكري الاسلامي،أو على الاقل حربة الغزو الفكري السياسي المتأسلم، مما جعل حالة الرافهية و البذخ التي كانت تميز اباء الكنيسة، تنتقل طبق الاصل الى حالة البذخ و الرافهية التي يتميز بها الحكام و النخب العربية، و جاء دلك عن قصد و دارسة انثربولوجية محكمة ,,بحيث لا يمكن ان نفرق بين حالة البذخ و الرفاهية التي تميز بها اباء الكنيسة و بين حالة البذخ و الرفاهية التي يتكيز بها الحكام و النخب العربية اليوم، و لا يمكن ان نفرق بين اسباب ضعف الغرب امام الفتوحات الاسلامية و بين اسباب ضعف العرب امام التوسع و الاستعمار الصهيوني اليوم,,,
أضف تعليقاً