التقليد الأعمى: دروس وعبر

متاجر أهلاً وأغنام بانورج:

يسرد الكاتب زياد ريس في كتاب "تجربتي لحياة أفضل" رواية من الأدب الفرنسي للكاتب الفرنسي "فرانسوا رابلي" قصة رجل يُدْعَى "بانورج" (Panurge) كان في رحلة بحريَّة على متن سفينة، وكان على نفس تلك السَّفينة تاجر الأغنام "دندونو"، ومعه قطيعٌ من الخرفان المنقولة لغَـْرض بيعهــا.

كان "دندونو" تاجراً جشعاً لا يعرف معنى الرَّحمة، ووصفه الأديب الكبير رابليه (Rabelais) بأنَّه يُمثِّل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانيَّة.

حدَث أنْ وقَع شِجَار على سطح السفينة بين "بانورج"، والتاجر "دندونو".

صمَّم "بانورج" على إثر ذلك على أن ينتقم من ذلك التاجر الجَشِع؛ فقَرَّر شراء خروف من التاجر بسعرٍ عالٍ وسطَ سعادةِ "دوندونو" بالصَّفَقةِ الرَّابحةِ.

في مشهد غريب يمسك "بانورج" بالخروف من قرنيه ويَجره إلى طرف السفينة، ثمَّ يدفعـه إلى البحــر، فما كان من أحد الخرفان إلا أنْ اتَّبَعَ خُطَى الخروف الأوَّل، ورمَى بنفسـهِ في البحــر ليَلْقَى مصيره، ليلحقه الثَّاني فالثَّالث فالرَّابع وسط ذهول التَّاجر وصدمته، ثم اصطفَّت الخرفان الباقية في طابور مَهِيب " لتُمارِس دَوْرها في القفـــز"!!!

جُنَّ جُنُون تاجر الأغنام "دندونو"، وهو يُحاول مَنْع القطيع من القَفْز إلى البحر، لكنَّ محاولاته كلها باءت بالفشل.

فقد كان إيمان الخِرْفان بما يفعلونه على قَدْر من الرُّسُوخ أكبر من أنْ يُقاوَم.

بدافعٍ قويٍّ من الجَشَع اندفع "دندونو" للإمساك بآخر الخرفان الأحياء؛ آملاً في إنقاذه من مصيره المحتوم، إلا أنَّ الخروف المُؤمِن كان مُصِرَّاً على الانسياق وراء الخرفان، فكان أنْ سقطا كلاهما في البحر ليموتا معاً غرقاً.

من هذه القصَّة صار تعبير "خرفان بانورج" (moutons de Panurge) مصطلحــاً شائعاً في اللُّغَة الفرنسيَّة، ويعني: انسياق الجماعة بلا وعي أو عقـل أو تفكيـر أو إرادة وراء آراءِ أو أفعالِ الآخرين.

شاهد بالفديو: 10 أمور تجعلك مميزاً عن الآخرين

ليس أخطر على مجتمعٍ ما مِن تنامِي روح ثقافة القطيع لَدَيْــه:

عادت بي هذه القصة إلى عشرين عاماً للوراء حين انتشرت فكرة الاستثمار في إنشاء سلسلة المحلات الصغيرة التي تحمل نفس الاسم التجاري "سلسة مني ماركت"، وظهرت مجموعة كبيرة من الأسماء التجاريَّة بالسُّوق لسلسلة المحلات "مني ماركت" بأسماء مُتعدِّدة؛ وذلك تقليداً لمحلات بتسكو البريطانيَّة "tesco"، ومحلات 7/11 الأمريكيَّة، ولكنَّ معظمها، إن لم يكن جميعها، باءَ بالفشل والخسائر الكبيرة؛ وذلك لأسبابٍ كثيرةٍ لستُ بصددِ ذِكْرها هنا، وكان لنا نصيب بخَوْض التجربة بعدَّة دُوَل وبمحاولاتٍ وطرائق كثيرة أيضاً دون جَدْوَى.

حينها قال لي أحدهم: إنَّ ما يحصل هو أنَّنا نرى طابوراً من الخرفان يجري بسرعة، والناس تذهب وتقف بالدور أملاً بأن يأخذوا نصيباً من الكعكة، وهم لا يعلمون أنَّ الخروف الأَوَّل يَشُك ويَهْوي على رأسه بالوادي.

نَعَم! كثيراً ما تُصادفنا في حياتنا الآن قُطعانٌ كاملةٌ من "خرفان بانورج" تُردِّد كلاماً أو تَفْعل أفعالاً لمُجَرَّد أنَّها آمنت أو سَمِعَتْ أو رأت مَن يقوم بذلك.