عندما نحلل كلاً من المسارات التي سلكتها الكيانات العظيمة لتحقيق النجاح والصعوبات التي واجهتها، ندرك أنّنا ربما نصبح عظماء ذات يوم. وهذا ينطبق على بعض أكبر العلامات التجارية في العالم اليوم، مثل Apple وMicrosoft وWalmart.
تُعد صحيفة "هافينغتون بوست" عملاقة وسائل الإعلام الإخبارية على الإنترنت التي بدأت ذات يوم بأقل من قلم وورقة وكاتبين اثنين، إحدى الأمثلة على هذه الكيانات العظيمة. تُعتبر هافينغتون بوست اليوم واحدة من أبرز المنصات الإعلامية في العصر الرقمي؛ حيث أدّت دوراً محورياً في تغيير كيفية استهلاك الأخبار والمحتوى عبر الإنترنت.
تأسست هذه المنصة عام 2005 على يد أريانا هافينغتون وكينيث ليرر، بهدف تقديم بديل ليبرالي لتقارير الأخبار المحافظة. منذ بداياتها، استندت هافينغتون بوست إلى شبكة من المدونين والمساهمين المتنوعين، مما مكّنها من جذب جمهور واسع من القراء. ومع مرور الوقت، تطورت لتصبح مؤسسة إعلامية رائدة، حيث جمعت بين الصحافة الأصلية والمحتوى المجمّع، مما ساهم في إعادة تشكيل مشهد الأخبار الرقمية.
سنستكشف في هذا المقال رحلة تأسيس هافينغتون بوست، والتحديات التي واجهتها، وكيف أثّرت في صناعة الإعلام عموماً.
قصة نجاح هافينغتون بوست من الصفر إلى القمة
بدأت صحيفة هافينغتون بوست في مايو 2005 على يد سيدة تدعى أريانا هافينغتون. رأت أريانا أنّ إنشاء خدمة إخبارية مخصصة من شأنه أن يقدم بديلاً لمدونات إخبارية سابقة مثل The Drudge Report، فأسستها مع كينيث ليرر، المدير السابق في AOL.
طُوّر موقع هذه الصحيفة عن موقع سابق معروف باسم Ariannaonline.com، والذي كان يمثّل خدمة إخبارية مخصصة. كما جلبت هافينغتون الكثير من محتوى موقعها السابق المعروف باسم Resignation.com، والذي كان غرضه الوحيد هو دفع الرئيس بيل كلينتون، آنذاك، إلى الاستقالة. قدمت الصحيفة بديلاً أكثر تحفظاً للصحافة الإلكترونية الأكثر ليبرالية، وحاولت الحفاظ على السيطرة على القصص الإخبارية الإلكترونية التي شعرت أنّها ذات توجه ليبرالي.
كان هدف المؤسسين هو جعل الموقع بمنزلة الرد الليبرالي على تقارير درادج (Drudge)، الموقع الإخباري المحافظ الشهير الذي يجمع العناوين من جميع أنحاء الإنترنت. في البداية، استند موقع هافينغتون إلى المشاهير والأصدقاء المؤثرين؛ حيث طُلبت مساهمات مبكرة من أمثال لاري ديفيد، وديان كيتون، وأليك بالدوين. لكن سرعان ما فتح الموقع أبوابه لعدد أكبر بكثير من المدونين من جميع الأطياف السياسية والثقافية. لم يتلقَ أي من المدونين أجوراً، لكن قُدّمت آلاف المشاركات رغم ذلك، وأصبح الموقع رائداً في جذب الكتّاب للعمل عبر الإنترنت مجاناً مقابل إمكانية الوصول إلى جمهور واسع.
في الوقت نفسه، بَنت هافينغتون بوست سرعتها وقوتها كمجمع أخبار؛ حيث كانت تبحث عن المحتويات من آلاف المواقع عبر الإنترنت وتنشر روابط للمقالات التي تتناسب مع نهجها التحريري المائل لليسارية، كما أضافت حصة كبيرة من أخبار المشاهير لتحفيز القرّاء للعودة. نظراً إلى أنّ هافينغتون بوست، أو "هافبو" كما يُطلق عليها، غالباً ما كانت تستعير وتعيد نشر أجزاء من مقالات من وسائل إعلام أخرى، فقد تعرضت لانتقادات بسبب جذبها للجماهير بعيداً عن وسائل الإعلام التقليدية، مما ساهم في بيئة أصبحت فيها الأخبار عبر الإنترنت أقل ربحية مما كان يأمل فيه قطاع الأخبار.
ومع ذلك، أظهر الموقع أنّ جمع العناوين من مصادر متعددة يمكن أن يكون خدمة يقدّرها العديد من القراء؛ حيث يساعدهم في التصفية والإنتقاء من بحر الأخبار عبر الإنترنت. وقالت الشركة إنّها توجّه القرّاء إلى المصادر الأصلية من خلال تقديم روابط للمقالات التي تُستخرج منها بعض المقتطفات.
منذ تأسيس هافينغتون بوست، ظهرت العديد من المواقع الأخرى لجمع الأخبار في مجالات التكنولوجيا والإعلام والرياضة ومواضيع أخرى، وازدهرت صناعة صغيرة من تجميع الأخبار.
مع نمو الموقع، وظّفت الشركة مجموعة من مراسليها، وكتّاب الأعمدة فيها، وصحفييها الاستقصائيين لإنتاج صحافة أصلية بالإضافة إلى المحتويات التي تجمعها. كان الموقع يحظى بشعبية كبيرة بين مجتمع القرّاء النشطين، وكان يحظى بأكثر من مليون تعليق شهرياً حتى منذ بداياته الأولى. بعدها، حظروا التعليقات مجهولة المصدر في عام 2013 حتى يتمكن المستخدمون المعروفون فقط من التعليق، الأمر الذي خلق شعوراً قوياً بالمسؤولية من جانب المستخدمين، وأحبط اللعب غير النزيه.
في أغسطس 2006، أعلنت المجلة الإلكترونية أنّ شركة "سوفت بنك كابيتال" ستستثمر 5 ملايين دولار للمساعدة في خطط التوسُّع، وتضمنت الخطط توظيف موظفين أكثر لتحديث المجلة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، ومراسلين داخليين للحفاظ على الأخبار حديثة ومحدثة، وفريق إنتاج الوسائط المتعددة لإنشاء تقارير الفيديو.
حيث كانت مدونات الفيديو قد بدأت لتوّها في اكتساب شعبية في ذلك الوقت، وكانت صحيفة هافينغتون بوست ترغب في أن تكون جزءاً من هذا. وقد نجحت الصحيفة في التوسع لتشمل المزيد من الصحفيين المتفانين، والعاملين في مجال الإعلام، ومراسلي الأخبار المحلية، لرفع سويّة شركتها إلى آفاق جديدة كسلطة في الصحافة والأخبار عبر الإنترنت.
في عام 2011، استحوذت شركة (AOL) على صحيفة (The Post) مقابل 315 مليون دولار، واحتفظت بأريانا هافينغتون كرئيسة تحرير. في العام التالي (2012)، أصبحت (The Post) أول صحيفة تجارية على الإنترنت تفوز بجائزة (Pulitzer) المرموقة. لم يقتصر نجاح هافينغتون على صنع التاريخ فحسب، بل امتد أيضاً إلى تصنيفات الويب. ففي يوليو 2012، تصدرت قائمة أكثر 15 موقعاً سياسياً شهرةً وفقاً لـ (eBizMBA)، الذي يستخدم معايير (Alexa) العالمية. لم تقتصر شعبية هافينغتون بوست على الإنترنت فحسب، بل امتدت عالمياً أيضاً، حيث أطلقت إصدارات كندية وبريطانية وفرنسية، بالإضافة إلى "هافينغتون بوست شيكاغو" في يونيو 2009 و"هافينغتون بوست نيويورك" في نفس العام.
من الأمور التي تحدث دائماً مع نمو أي شركة أنّها تكتسب شخصية كل المستثمرين والرعاة المعنيين. وهذا أمر لا مفرّ منه. لذا، في عام 2011، بعد أن استحوذت شركة (AOL) على الصحيفة، بدأ القراء يرون تغييرات في موضوعاتها. وعلى الرغم من بداياتها المحافظة في وقت مبكر، والتي كانت تهدف إلى إجبار رئيس ليبرالي معتدل على الاستقالة، إلا أنّها أصبحت الآن تتبنى قضايا ليبرالية تهدد الأساس الذي بُنيت عليه الشركة.
ومع ذلك، حاولت أريانا وفريقها معادلة التوجُّه الليبرالي من خلال استضافة ضيوف خاصين مثل المدونين والكتاب مثل المؤلف الروحي كريج تارو جولد، وخبير اللياقة البدنية والصحة جيف هاليفي.
واصلت المجلة تحقيق النجاح ولم تواجه سوى القليل من النكسات المالية، وبدا أنّها تناولت القضايا التي اهتم بها الجميع، وطورت لاحقاً علامة تجارية على الإنترنت يصعب التغلب عليها.
التحديات التي واجهتها هافينغتون بوست
عند النظر إلى هذه الأحداث، يبدو أنّ صحيفة هافينغتون بوست كانت تسير على نحو سلس في الأيام الأولى. ولكن كما يحدث دائماً مع أي عمل أو أي نشاط، هناك بعض العقبات التي يجب أن تتجاوزها.
بدأت المجلات العلمية والعلماء من المجتمع الطبي في التشكيك في بعض المعلومات التي كانت صحيفة هافينغتون بوست تنشرها، ووصفها بأنّها "علم زائف". وقد لفَتَ ذلك الانتباه إلى منشورات الطب البديل والعلاجات البديلة التي نشرتها صحيفة هافينغتون بوست في الماضي لمعالجة المخاوف الطبية التي أبلغ عنها الناس.
كانت دانا أولمان، تكتب عموداً منتظماً في صحيفة هافينجتون بوست؛ حيث كانت تقدم علاجات بديلة وعلاجات طبيعية لأمراض شائعة، وقد أشار هذا إلى فكرة مفادها أنّ الصحيفة ربما تجاوزت الحد أخيراً ودخلت مجالاً لا يمثل الأخبار، بل الرأي والنظرية. في عالم الصحافة، لا بد وأن تنتصر النزاهة، وقد حدث هذا بالفعل مع صحيفة هافينجتون بوست، عندما قررت الصحيفة مقاومة انتقادات المجتمع العلمي والسماح لخبرائها في الطب البديل بمواصلة إخبار الناس عن العلاجات المنزلية والطب الطبيعي. فقد اعتقدوا في نهاية المطاف أنّ ما هو خبر، لا بد وأن يُقال للناس، سواء كان شائعاً أم لا.
إنّ هذا التفكير الذي يحتضن كل الآراء، وليس وجهة نظر واحدة فقط، أكسبهم العديد من الجوائز والأوسمة على مرّ السنين، على الرغم من الضغوط من الغرباء الذين أرادوا إسقاطهم.
على نحو مماثل، في ما يتعلق بالقضايا السياسية، صرّحت مؤسسة صحيفة هافينغتون بوست ورئيسة تحريرها الآن، أريانا هافينغتون، بأنّ الصحيفة لن تتخذ موقفاً سياسياً محدداً في كيفية تغطيتها للأخبار، على الرغم من أنّ رأيها الأصلي كان يحمل ميلاً محافظاً.
في الختام
تظل صحيفة هافينغتون بوست واحدة من أبرز السلطات الإخبارية على الإنترنت. ومع العديد من الجوائز التي حصلت عليها، بما في ذلك جائزة بيبودي، وجائزة بوليتسر، وجوائز ويبي للصحافة المصورة، وغيرها، تظلّ الصحيفة عملاقة في فئتها من الأخبار على الإنترنت، والتي يبدو أنّها تلقي بظلالها على بقية الصحف. لقد نجحوا من خلال المثابرة والتفاني في الحفاظ على قضيتهم وموقفهم، ولم يتراجعوا، وربما تغيروا مع مرور الوقت وتبنّوا أفكاراً ومعايير كانت سابقاً غير محببة. لكنّهم في النهاية حافظوا على سلامة جذورهم، ولم يخضعوا لضغوط الغرباء أبداً.
أضف تعليقاً