وترتكز هذه الدعوة على عدة اعتبارات, لعل أهمها: ان الفراغ هو أساسا نتاج للمجتمع الصناعي, فهو الوجه الاخر للعمل في هذا المجتمع, ترتب على ارتفاع مستوى الانتاجية ومن ثم اصبح يمثل نظاما اجتماعيا له خصائصه المتميزة, ولقد اوضحنا طبيعة العلاقة بين الفراغ والثقافة والنظم الاجتماعية الاخرى, وكشفت هذه المعالجة عن نوع التداخل القائم بين الفراغ كنظام اجتماعي وبين هذه النظم, مما يمثل شواهد تدلل على وجود مجتمع الفراغ .
ولقد اهتم تراث علم الاجتماع بمناقشة هذه القضية من زوايا مختلفة, ولعله قد اتضح على طول هذه الدراسة النظرية لقضايا الفراغ والترويح مبلغ تنوع التراث وتراكمه في هذا المجال, ففي عام 1975 تساءل كينث روبرتز فيما يتصل بنمو وقت الفراغ تساؤلا مؤداه , هل نحن على ابواب العصر الذهبي لوقت الفراغ, كما كتب ايضا في عام 1980 يقول : ( ان المعلومات التي لدينا ... تشير الى ان الانشطة التي يمارسها الناس خلال وقت الفراغ تؤثر تأثيرا واضحا في تطوير احساسهم بذاتهم, مما جعل وقت الفراغ يمثل نظاما – شأنه شأن النظم الاجتماعية الاخرى – يتبادل التأثير والتأثر مع هذه النظم ). كذلك تناولت دراسات جوفردي مازدييه و الن تورين ذلك الاتجاه نحو تزايد وقت الفراغ, الذي لا يقاس فقط في ضوء كمية الوقت المتاح لأنشطة وقت الفراغ, وانما الظاهرة الملاحظة ان ( وقت الفراغ قد اكتيب هوية او ذاتية واضحة, فالفراغ لا يساعد بالضرورة على فقدان قيم العمل, وانما قد لا يشغل الفراغ اهتماما رئيسيا في حياة الناس, خاصة حينما تكون الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لهم لا تسمح بنمو هذه الاهتمامات, ونستطيع ان نعتمد على اعمال الن تورين ذاته حين كتب يقول : ( لقد ادهشتني حقا تلك الحقيقة التي مؤداها ان انشطة الفراغ لا تنطوي على اهمية كبيرة في حياة العمال ) . واذن , فقد ينصرف الناس الى البحث عن المزيد من من مصادر الربح والكسب المادي لكي يستطيعوا الوفاء بمتطلبات حياتهم و ولا تمثل انشطة وقت الفراغ بالنسبة لهم ادنى اهتمام, ومع ذلك فأن ثمة فراغا في حياة هؤلاء, ويتداخل هذا الفراغ مع مختلف جوانب حياتهم , ويختلط باعمل في كل صورة و وهكذا فأن التنبؤ باتجاهات سلوك الفراغ في المستقبل, ورسم السياسات الملائمة لخذخ الانماط السلوكية امر مرتبط بتحليل علاقة الفراغ بكافة النظم الاجتماعية الاخرى .
ومن بين القضايا الهامة التي ترتبط بمعالجة الفراغ تلك القضايا الثقافية , وتقع القيم في محور هذا الاطار الثقافي , وتظهلر اهمية القيم في تناول معنى الفراغ , ومضمون هذه الخبرة التي يعيشها الانسان في الوقت الحر , كذلكك تحتل القيم اهمية خاصة حين نتسائل عن دور الفراغ في حياة الافراد والمجتمع, واخيرا تظهر القيم مرة اخرى عند مناقشة المسائل المتعلقة بتخطيط انشطة وقت الفراغ وتنظيمها. ونستطيع في هذا الصدد ان نضيف موقفا اخر يتعلق بطبيعة علم اجتماع الفراغ في ضوء هذه المواقف الثلاثة . الى اي حد نستطيع ان نعالج سلوك الفراغ والانظمة المرتبطة به معالجة موضوعية ؟ ان فهم الموضوعية , فهما ضيقا على انها التزام بتعريف وقت الفراغ تعريفا كميا, خاليا من المعنى الكامن وراء الاختيارات التي ينطوي عليها سلوك الفراغ, انما يجعل بحو الفراغ مجرد رصد كمي لا معنى له, ذلك ان فهم الفراغ من منظور اوسع يقتضي الاهتمام بالقيم والمعاني والاتجاهات, التي تمكننا من تحقيق صيغة اجتماعية للواقع وهي صيغة تجعلنا نتجنب الجوانب السطحية التي ينطوي عليها البحث الاحصائي, وفي هذه الصيغة سنجد ان سلوك الفراغ ومنظماته ظاهرة مرتبطة بنائيا ووضيفيا بكافة انظمة المجتمع الاخرى وظواهره الثقافية على نحو ما اوضحنا ذلك خلال التحليل النظري .
اما فيما يتعلق بدور الفراغ في المجتمع المعاصر, فان فهم هذا الدور مرتيط بمفهومنا عن الفراغ, فهل الفراغ مجرد وقت ينبغي استغلاله من اجل مزيد من العمل, ام انه الوقت الحر الذي يتعين استثماره على نحو يضفي على الحياة ككل معنى خاصا . ان النظرة الشائعة للفرغ تميل اما الى تأكيد اهميته كوسيلة لتحقيق الضبط الاجتماعي, او بوصفه التعبير المتسامي عن الثقافة, وبين هذين القطبين المتعارضين هناك ظائفة من المواقف المتنوعة التي تنطوي على قيم مختلفة , وفي ضوء ذلك , ينبغي ان تناقش مسألة تخطيط انشطة وقت الفراغ من خلال الاطار السياسي الاشمل و وعلى اساس الفهم الفلسفي للقيم التي تحقق في انشطة الترويح وقضاء وقت الفراغ . وهنا سنجد في علم اجتماع الفراغ عونا مباشرا لنا من اجل وضع السياسات الملائمة لمواجهة حاجات الناس ورغباتهم , اذ سيمكننا علم الاجتماع في هذه الحالة من تناول تساؤلات محورية مثل , الى اي حد علينا ان نحقق قيم الفراغ في العمل ؟ وما هي الطرق التي يجب ان تستخدمها الاسرة في التاثير على اتجاهات ابنائها نحو الفراغ وسلوكهم ؟ وهل يجب ان نضع برامج الاعداد لقضاء وقت الفراغ وتعليم الناس كيفية قضاء هذا الوقت ؟ وهل يمكن ان يساعدنا هذا النظام الديني في اكتشاف طرق مشبعة لقضاء وقت الفراغ ؟ ان الاجابة على هذه التساؤلات تقتضي خيالا سوسيولوجيا يضع الفراغ في الاطار الاوسع للحياة والمجتمع , من خلال جمع الحقائق عن الماضي والحاضر , ومحاولة استكشاف صورة المستقبل .
المصدر: شباب عنت
أضف تعليقاً