وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية في العمل

غالباً ما كانت الصحة النفسية موضوعاً يتم الحديث عنه بنبرة هادئة في العمل، لكنَّ الوباء غيَّر ذلك فجأة؛ إذ أصبح ذلك وعلى نحو متزايد موضوعاً مستمراً لا مفر من الحديث عنه، خاصة بعد أن أضحت الحياة المنزلية والمهنية واحدة؛ وذلك بسبب العمل عن بعد في أثناء الحجر الصحي.



وفقاً لدراسة حديثة صادرة عن قاعدة بيانات "أوراكل" (Oracle) وشركة "ورك بليس إنتيلجنس" (Workplace Intelligence)، فإنَّ 78% من القوى العاملة العالمية يؤكدون أنَّ هناك تأثيراً سلبياً تركته الجائحة في صحتهم العقلية.

لذا، فإنَّ التساؤل الذي يجب طرحه الآن ليس حول سبب وجود وصمة عار مرتبطة بالصحة العقلية ومكان العمل فحسب؛ وإنمَّا عن سبب استمرار هذه الوصمة.

عدم منح الأولوية للصحة العقلية:

تُعَدُّ الإجابة - على الرغم من سهولتها - محبِطةً في الوقت نفسه، فحيث نجد أنَّ العديد من المؤسسات تتشدق بتقديم أو حتى إظهار اهتمام حقيقي برفاهية الموظفين، إلا أنَّها مع ذلك لا تجعلها أولوية لها. والأسوأ من ذلك، أنَّهم يستمرون في نشر الثقافات والأفكار التي تقوض الصحة العقلية، وتثني الناس عن الحديث عنها؛ بعبارة أخرى، إنَّ تفهُّم الشركات لأهمية الصحة العقلية للموظفين لا يتوافق مع الإجراءات المتخذة لتحسينها.

ما يزال يُنظَر إلى النقاش حول طلب المساعدة أو تلقِّيها على أنَّه نقطة ضعف. إضافةً إلى ذلك، غالباً ما تشير ديناميات النوع الاجتماعي والتوقعات المجتمعية إلى أنَّ الرجال لا يناقشون المخاوف المرتبطة بالصحة العقلية أو أعراضها أو علاجاتها مع الأصدقاء، ناهيك عن زملاء العمل أو الرؤساء؛ إذ إنَّه في الثقافة النمطية المنتشرة في أمكنة العمل، ما يزال من الخطأ مناقشة أمور الصحة العقلية في الأوساط المهنية، على الرغم من أنَّ الظروف المرتبطة بالصحة العقلية تؤثر في واحد من كل خمسة بالغين.

أضف إلى ذلك، أنَّ عالم الشركات الناشئة يعمل وفقاً لجدول زمني صارم للغاية بهدف الوصول إلى تقييم يبلغ حد مليار دولار في أسرع وقت ممكن، وبكل الوسائل الضرورية المتاحة؛ الأمر الذي يعني ساعات عمل أطول ومزيداً من العمل الذي يُكلَّف به عدد أقل من الموظفين. إنَّ العمل مدة 80 ساعة واستنزاف الطاقة بكل الوسائل، أصبح بطريقة ما مُعادِلاً للنجاح.

وفي حين أنَّه قد تكون هناك حاجة إلى فعل ذلك أحياناً، إلا أنَّه لا يمكن لأيِّ شخص الحفاظ على هذا المستوى من النشاط والمشاركة، ومن ثمَّ، لا يوجد شركة أو مكان عمل قادر على الاستمرار بهذه الطريقة. وفي حال وُجِدَت أمكنة عمل كهذه، فيجب أن يكون هذا استثناءً وأمراً نادر الحصول، وليس القاعدة.

إقرأ أيضاً: كيف تتجاوز مشاكل الصحة العقلية في مكان العمل؟

الاحتراق الوظيفي:

يُعَدُّ الاحتراق الوظيفي للعمال والموظفين أمراً شائعاً، تماماً مثل زيادة التغيُّب عن العمل ومعدل دوران العمالة. ومع ذلك، يُنظر إلى جميع هذه الجوانب على أنَّها شر لا بُدَّ منه وجوانب مُبرَّرة في سوق العمل. في الحقيقة، هناك 25% من العمال في جميع أنحاء العالم يتحدثون عن احتراقهم وظيفياً، و42% آخرون أبلغوا عن انخفاض حاد في الإنتاجية.

تستمر هذه التوقعات بالانتشار بسبب عدم حثِّ الموظفين على مناقشة أيِّ صعوبات أو تغييرات تحصل في حياتهم.

لا تحظى سلامة وعافية الموظف غالباً بالأولوية في مكان العمل، على الرغم من ارتباطها وتأثيرها في الأداء والربح؛ لذلك، نجد أنَّه من الأسهل بالنسبة إلى الشركات العمل مع "نموذج التعزيز الإيجابي" (Positive Reinforcement Model)؛ إذ يُكافأ الموظفون الذين لا يثيرون المشكلات، ولا يشعرون بالإرهاق، وغالباً ما يكونون مؤيدين لكلِّ ما يحصل، أمَّا أولئك الموظفون الذين يطلبون المساعدة بأيِّ شكل كان، فيجدون أنفسهم في نهاية المطاف قد اعتادوا الصمت، ومن ثم يختفون تماماً.

تُعَدُّ هذه الممارسة الشائعة سبباً إضافياً في حصول العديد من الشركات على سمعة سيئة، ناهيك بأن تصبح قوة عملها غير مستقرة، وتفقد خيرة موظفيها وأكثرهم قيمة، وتفشل في النهاية. قد يكون من السهل نسيان أو تجاهل حقيقة أنَّ ما يصنع الشركات هم الأفراد، وأنَّ نجاح أيِّ عمل يعتمد على صحة وسلامة موظفيه.

شاهد بالفيديو: 7 علامات للاحتراق المهني

إحداث تغيير:

أظهرت الدراسات أنَّ وجود موظفين أكثر سعادة وصحة يزيد الإنتاجية. فعلى سبيل المثال، وجدت "جامعة أكسفورد" (Oxford University) أنَّ هناك زيادة في الإنتاجية بنسبة 13% عندما يكون الموظفون سعداء، وتُلبَّى احتياجاتهم العاطفية والعقلية الأساسية. وفي الوقت نفسه، تثبت التقارير بشكل مستمر أنَّ الثقافات السامة في أماكن العمل التي تفتقر إلى الموارد الداعمة للصحة العقلية، هي أكثر ضرراً على معنويات العمال، ناهيك عن الإنتاجية والأرباح الإجمالية.

ولكن لنتذكر مرة أخرى أنَّ مجرد وجود هذه الحقائق والنتائج ومعرفة العديد من الشركات عنها، لا يعني أنَّ هذه المنظمات تتخذ خطوات هادفة لخلق ثقافات تمنح الأولوية للصحة العقلية.

وفي حين أنَّ وجود طاولات مخصصة لـ "تنس الطاولة" (Ping Pong) وزجاجات العصير في غرفة العمل هي مزايا ممتعة، إلا أنَّ أماكن العمل تحتاج إلى الاستثمار في إجراءات أكثر استدامة لمساعدة الموظفين على الازدهار، كتوفير خدمات استشارات سرية خاصة بالأزمات والصحة العقلية، بالإضافة إلى زيادة التغطية التأمينية للموظفين، التي تشمل الأطباء النفسيين وعلماء النفس وغيرهم من المتخصصين المُدرَّبين في مجال الصحة العقلية والخدمات.

إقرأ أيضاً: 3 طرق لتحديد أولويات ثقافة الشركة خلال فترات التغيير

تغيير ثقافة الشركة:

ما نحتاج إليه هو تغيير ثقافة الشركة، وخلق مساحة تُشجِّع على الحوار المفتوح والإنصاف والدعم. ليس ذلك بالأمر السهل، ولن يتم إصلاح هذه الأخطاء بين عشية وضحاها، لكن مع هذا، ستكون هذه الحاجة إلى التغيير غير قابلة للتفاوض أو النقاش عندما تأخذ بالحسبان العديد من الطرائق التي تؤثر بها الذكورة السامة والقدرة التنافسية والمفاهيم القديمة للاحتراف المهني سلباً في نجاح موظفيك وشركتك.

وبوضوح أكثر، لن يحدث التغيير من خلال تنس الطاولة، ولا عبر جميع الحلول التقنية الأخرى في العالم؛ فلن يظهر التغيير الحقيقي ما لم تعمل على تغيير العقلية المنتشرة لدى الناس حول الصحة العقلية في العمل.

من الجدير بالذكر أيضاً، الأخذ في الحسبان أنَّ الجائحة ليست السبب الوحيد وراء المعاناة في حياة الناس؛ إذ إنَّ الجميع يخوضون معركتهم الخاصة داخل وخارج أوقات العمل. ثم إنَّه لأمر ضروري جداً أن تُعزَّز الأجواء التي يمكن للموظفين التحدث فيها عن التوقعات المستحيلة، والبيئات الحرجة، والسلامة العامة؛ لذا من الهام بمكان ما إنشاء بيئة خالية من الخوف والعمل على تعزيزها، التي تبدأ بتقديم العون والوقت والمساعدة والتعاطف مع الآخرين.

قد تكون هذه المحادثة صعبة في البداية، لكنَّها قد تفتح الباب أمام نمو شخصي ومهني مستديم وحقيقي وقابل للتطوير.

المصدر




مقالات مرتبطة