والأذن تعشق قبل العين أحياناً

"والأذن تعشق قبل العين أحياناً" قالها الشاعر بشار بن برد منذ عصر الدولة الأموية في إحدى قصائده. كان والدي يستمع كلّ صباحٍ إلى محاضرة شيخٍ يقدّم برنامجاً على محطةٍ فضائية. أقولها بكلّ صراحة، كنت وإخوتي ننزعج من صوت هذا الشيخ، بيد أنَّنا ومن منطلق احترام أبينا، لم نكن نُعبّر عن امتعاضنا ذاك. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي طفح فيه الكيل، فأظهرَ أخي انزعاجه الشديد وعدم قدرته على سماع صوت هذا الشيخ. لم نستطع جميعاً أن نتقبّل صوته وطريقة إلقائه، وذلك رُغمَ عدم معرفتنا به شخصياً.



ولأنَّنا نحبّ الاطلاع، فدائماً ما كنا نتابع محاضرات الدكتور أحمد ديدات (رحمه الله)، وهو ما من شأنه أن يَطرح السؤال الآتي: كيف لنا أن نتقبّل صوت أحمد ديدات، ولا نستطيع تقبّل صوت ذاك الشيخ؛ على الرغم من أنَّ محاضرات الشيخ ديدات قد تطول لتصل إلى مدة ساعتين!! في حين أنَّ مدة برنامج الشيخ الذي لم نستطع تحمّل صوته كان 45 دقيقة فقط؟

وبناءً عليه، يجول في خاطري سؤالين هامَّين: "ما هو تأثير الصوت على المُستمع؟ وما هي الطريقة الأمثل لتوظيف الصوت؟".

ينجحُ كثير من المحاضرين في جذب اهتمام آذان المستمعين وعقولهم، ولا يكون ذلك إلا بامتلاكهم المهارة الكافية في "فن الإلقاء الفعّال"، الذي يجعل المستمع في وضع إنصاتٍ وتركيزٍ على كلّ كلمةٍ تخرج من شفاههم.

على الرغم من أنّ فنّ الإلقاء قد يكون موهبةً فطريّةً تولد مع الإنسان، إلاّ أننا لا يمكننا إنكار أنَّه مهارةٌ مُكتسبةٌ يمكن للفرد التدرب عليها وإتقانها.

إقرأ أيضاً: 5 نصائح مهمة لاكتساب فن ومهارة الإلقاء

كيف لي أن أبدأ تعلّم مهارة الإلقاء بشكلٍ ذاتيّ؟

يمكن للمرء أن يضع قدمه الأولى في طريق اكتساب هذه المهارة عن طريق التعلم الذاتي، فقد تضطر يوماً للوقوف على منصّة إلقاءٍ معيّنة؛ لذا من الضروري أن تمتلك بعض المهارات الأولية التي تساعدك على تجاوز الأمر؛ خاصة أنّ الوقوف أمام الجمهور ليس بالأمر الهيِّن.

ولكي يكون إلقاؤك ناجحاً، نقدم إليكَ مجموعة نصائح تساعدك في هذا الأمر، وهي كالآتي:

  • تدرَّب على إلقاء كلمةٍ أو قراءة قصّةٍ من خلال الوقوف أمام المرآة في المنزل، أو أمام أفراد أسرتك أو مجموعةٍ من أصدقائك.
  • حاول أن تتحكم بطبقات صوتك، فلا ترفعه كثيراً أثناء الإلقاء فيصبح عالياً ومزعجاً، ولا تُخفضه ليصبح غير مسموع.
  • تدرَّب على نطق الحروف بشكلٍ صحيح، وراقب مخارجها. واحرص على أن تنطُق بصورةٍ سليمة.
  • تدرَّب على استخدام الكلمات السهلة والواضحة أثناء الإلقاء، وابتعد عن الحشو والبلاغة اللفظية المعقدة.
  • تحكَّم في تعابير وجهك وحركات جسدك، كحركات اليدين والقدمين. واحرص على أن تكون تعبيراتُك وحركاتك متناسقةً ومتناغمةً مع الموضوع الذي تلقيه على الناس.

إنّ اتباعك لتلك النصائح السابقة، هو من بدايات تعلّمك مهارات الإلقاء الفعّال الذي يُعَدُّ من أهم عناصر نجاح المحاضرة والمحاضر.

ولبيان تأثير الإلقاء الفعّال على الناس، أُقَدِّمُ قِصَّةً مميزةً بطلها المخرج العالمي المبدع مصطفى العقاد (رحمه الله)، مخرج فيلم الرسالة. حيث أنَّه عندما وصل إلى "حجة الوداع" أثناء تمثيل الفيلم. قرّر أن يجعل الممثلين يبكون بكاءً حقيقياً، لا بكاءً مُصطنعاً. لم يكن الأمر سهلاً، لأنّ استخراج المشاعر الحقيقية من الشخص المتلقي أمرٌ صعبٌ للغاية، ولابُدَّ من أن يكون مُلقي هذا الحديث متحدثا بارعاً. ومع مرور أحداث الفيلم، وفي هذا المقطع تحديداً ترى الدموع تُذرَفُ من عيون الممثلين، وترى الوجوه متأثرة بشدة.

يقول العقاد: "من أجل تمثيل هذا المقطع بحرفيّةٍ عالية، ذهبت أتمشى في الساحات العامة لمدينة مراكش، لأجد ساحراً يُرَقِّص الأفاعي. اقتربت منه وسألته: "هل تقدر على إضحاك الناس وإبكائهم في وقتٍ واحد؟" فردَّ عليَّ قائلاً: "على قدر نقودك، أفعل لك ما تريد".

فذهب هذا الشخص معه إلى مكان التصوير وألبسه ثياباً تُناسب ذلك المشهد، وأخفى كاميرات التصوير تحت المنصة التي سيقف عليها هذا الخطيب، وبدأ ذلك الشخص إلقاء كلمات حجة الوداع، ومن شدّة إتقانه الفطري وبراعته في الإلقاء، بدأت دموع الممثلين تنهمرُ في مشهدٍ حقيقيٍ يُظهر قوَّة تأثير الإلقاء الفعّال الناجح على عقل المتلقي وعواطفه.

ماهي الفوائد المحقّقة من تعلم واكتساب مهارة الإلقاء؟

يُمكِّنُ اكتسابُ مهاراتِ الإلقاءِ الفرد من تحقيق الفائدة في أصعدةٍ ثلاث، وهي:

  • الصَّعيد الشخصي.
  • الصَّعيد الاجتماعي.
  • الصَّعيد المهني.

أما على الصَّعيد الشخصي، فتزيد مهارة الإلقاء من الثقة في النفس وتقدير الذات، إذ تتحدث معظم دورات الإلقاء ودورات إعداد المدربين عن قهر رهبة التكلّم أمام الجمهور؛ حيث يجري التركيز خلال هذه الدورات على تحويل هذا الخوف والارتباك، إلى ثقةٍ في قدرات الذات.

كما ويرفع اكتساب مهارة الإلقاء من مستوى درجات التحصيل الأكاديمي للفرد، فحسب آخر الدراسات التي أُجريت، يستطيع الإنسان أن يتذكر 10 بالمئة مما يقرأ، و20 بالمئة مما يسمع، و70 بالمئة مما يتحدث به.

فمثلاً: لو كنت مُقبلاً على اختبارٍ في مادّةٍ ما، وأردت الحصول على درجاتٍ أعلى؛ فما عليك سوى أن تقف في غرفتك وتتظاهر بأنَّك تشرح المادة بصوتٍ مسموعٍ لمجموعةٍ من الطلاب. فأنت بحسب إحصاءات الدراسة السابقة؛ ستتذكر 70% من المادة التي سَتُختَبَرُ فيها.

كما يُعدُّ اكتساب مهارة الإلقاء على الصَّعيد الاجتماعي، جزءاً مهمّاً من إتقان مهارة التواصل مع الآخرين؛ إذ إنَّ استخدام الكلمات استخداماً صحيحاً، وكذلك الثقة بالنفس أثناء التحدث مع الآخرين؛ هما جزآن أساسيان من عملية التواصل مع باقي الأفراد المحيطين بك.

أمَّا على الصعيد المهني، فإنّ أفضل ما يُمكنُ قوله، هي مقولة دوسكو دروموند: "لو قُدِّرَ لي أن أفقد كلّ مواهبي وملكاتي، وبقيَ لي حقّ الاختيار في أن أحتفظ بواحدةٍ فقط؛ فلن أتردّد في أن تكون القدرة على التحدث؛ ذلك لأنَّني أستطيع من خلالها أن أستعيد البقية بسرعة".

كثيرةٌ هي الدراسات التي تشير إلى الارتباط الوثيق بين النجاح المهني وفن الإلقاء، فعلى مستوى إجراء المقابلات الوظيفية، تشير الإحصاءات إلى أنّ من يتقنون مهارة الإلقاء (فن التحدث أمام الآخرين) تكون نسبة حصولهم على الوظيفة أكبر من أولئك الذين لا يُجيدونها.

إقرأ أيضاً: كيف أعلّم طفلي فن الإلقاء؟

أين نحن الآن من تعلم واكتساب مهارات الإلقاء؟

عند العودة إلى واقعنا الحالي، نجد أنَّنا تأخرنا في إعطاء موضوع اكتساب مهارات الإلقاء أهميته اللازمة، فمعظم المدارس والمؤسسات التعليمية في عالمنا العربيّ، لم تُعِر تَعَلُّم تلك المهارة الأهمية التي تُمكِّن الطلاب من إتقانها. إلاّ أنّ الفوائد التي يمكن أن نحققها من ذلك، تدفعنا نحو وضع خطةٍ لبدء اكتسابها؛ كي نُطوّرَ من تعلّمنا وتعليمنا ومهنتنا. وليس غريباً أن تجد أنَّ تعلُّمَ فنَّ الإلقاء ومهاراته، قد أصبح ضمن المناهج التعليمية في معظم جامعات العالم ومدارسها.




مقالات مرتبطة