هل ستجعلك الحياة المثالية أكثر سعادة؟

يتعلق الكثير مما أكتبه بالسعي وراء الحياة المثالية، حيث توجد عدة مشكلات ينطوي عليها هذا السعي؛ فالكمال أمر مستحيل، إضافةً إلى القيود التي تحكمنا، وصعوبة تحديد تعريفٍ للمثالية.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب سكوت إتش يونغ (Scott H Young)، ويشرح فيه تجربته في السعي إلى تحقيق حياة مثالية.

لكنَّني أظن أنَّ التفكير بطريقة مثالية للعيش، والتقدم بضع خطواتٍ إلى الأمام، عادةً ما يكون أمراً جيداً، والكمال قد يكون مستحيلاً، وقد تعترضه عقبات، لكنَّنا نستطيع على الأقل السعي جاهدين إلى العيش بهناء.

بعيداً عن المشكلات، ثمة تحدٍّ أعمق: ماذا لو لم تستمتع فعلاً بالأشياء التي تسعى جاهداً من أجلها؟

الرغبة والإعجاب أمران متباينان:

تُظهر الأبحاث الحديثة أنَّ الرغبة والإعجاب عمليتان يُتحكَّم بهما تحكُّماً منفصلاً في الدماغ: "الإعجاب يتم بواسطة أنظمة المواد الأفيونية - مستقبلات أشباه الأفيون في الدماغ - والمناطق الحسية، ومناطق التقييم الأولية، في حين يتم ترميز الرغبة بواسطة نشاط الدوبامين في الدماغ المتوسط، ​​في المناطق العلوية مثل النواة المتكئة".

يشير هذا إلى أنَّه يمكنك تحفيز شخص ليرغبَ في أمرٍ بشدة وعلى نحوٍ غير طبيعي، مع تناقص إعجابه به. وقد أثبت الباحثون حقيقة ذلك من خلال تجربةٍ ذكية؛ إذ يُتحكَّم بالأشخاص الذين تعرضوا للفشل لزيادة رغبتهم في الجائزة، وبذل المزيد من الجهد من أجلها، بينما يفقدون في نفس الوقت تقديرهم لقيمتها، عند استلامها فعلياً.

هذا الاكتشاف مذهل؛ نظراً لأنَّ "الإعجاب" المتناقص أظهره المشاركون الذين أعربوا عن "رغبة" أكبر في الحصول على بطاقة هدايا معينة، والحدث نفسه - بعد الفشل في الفوز بالبطاقة في المحاولة الأولى - أثَّر في نفس الوقت في رغبة المشاركين في الحصول على بطاقة الهدايا، وإعجابهم بها تأثيراً مناقضاً".

الرغبة الشديدة بأشياءَ لا تعجبك:

في حين اعتمدت الدراسة بطاقات الهدايا بوصفها موضعَ رغبةٍ للمشاركين، فمن السهل تخيل حدوث ذلك في سياق أكثرَ أهمية؛ تخيل مثلاً أنَّك تواعد شريك الحياة المُقبل، وتبدو الأمور كأنَّها تسير على ما يرام، ثم يرفض فجأة أحدكما الآخر، أو ينقطع الاتصال بينكما.

أنت الآن مشتت، وعدم القدرة على الحصول على هذا الشخص يزيد من رغبتك به، لكن في الوقت نفسه، فإنَّ الرفض أو التجاهل يقلل من إعجابك به، وقد تقول إنَّه ليس شخصاً لطيفاً كما كنت تعتقد، لكن تظن أيضاً أنَّه قد يكون الشخص الذي لطالما انتظرته.

شاهد بالفيديو: 8 طرق مثبتة علمياً لنيل السعادة

الدافع ليس عقلانياً دائماً:

تشير الأبحاث إلى أنَّ الناس غالباً ما يكونون أكثر سعادةً في العمل، على الرغم من أنَّهم يسعون جاهدين إلى تجنبه، وقد اقترح طبيب النفس المجري الأميركي ميهالي سيكزينتميهالي (Mihály Csíkszentmihályi)، أنَّ هذا كان سببه التدفق الذهني: العمل يدفعنا إلى حالةٍ من التدفق الذهني، والتلفزيون غالباً لا يفعل ذلك؛ وذلك قد يفسر اكتشافه الغريب هذا.

لكنَّ إعادة صياغة المشكلة من خلال مسألة الرغبة والإعجاب، تجعل من السهل فهمها، وإذا تحكَّمنا بالرغبة والإعجاب بشكل منفصلٍ في الدماغ، بحيث من الممكن دفعهما في اتجاهين متناقضين، فلا عجب أن يكون دافعنا تجاه بعض الأمور منخفضاً أحياناً - مثل الحالة الذهنية الصعبة والممتعة في نفس الوقت للتدفق - مع أنَّها تمنحنا أكبر قدرٍ من السعادة.

الأحلام المضللة والسعي وراء الحياة المثالية:

قد تكون بطاقات الهدايا والتدفق الذهني والحب من طرفٍ واحدٍ ثلاثة أمثلة واضحة، لكنَّني أعتقد إلى حدٍّ ما، أنَّ الفرق بين الرغبة والإعجاب يقف عائقاً حتى أمام سعينا إلى عيشِ حياة مثالية.

إنَّ التفكير في الحياة المثالية ينبع أساساً من أحلامنا ورغباتنا؛ فهل تساءلت إن كان ما ترغب فيه هو ثلاث سياراتٍ في مرآبك الخاص وزوجة جميلة جداً، أم تحلم بإدارة عمل تجاري عبر الإنترنت، وتكون قادراً على العيش في أي مكان في العالم؛ إنَّ أيَّ نقاش عن السر الذي يجعل الحياة مثالية، سيتضمن حتماً السؤال عما تريده.

لكن إذا كان من الممكن أن تتأثر دوافعنا بشكل منفصل عن شعورنا بالمتعة، فهناك سؤال مشؤوم بالرغم من كل جهودنا: ماذا لو وصلنا إلى الحياة المثالية ولكنَّنا لم نستمتع بها في الواقع؟

الجدوى من حل مفارقة الدافع:

نحن لا نرغب دائماً فيما نستمتع به، ولا نستمتع دائماً بما قضينا وقتاً طويلاً متلهفين للحصول عليه، وهذا ليس بخبرٍ سار، فالأدب مليء بالشخصيات التي وصلت إلى أحلامها ثم أبدت استياءً منها، وقد أصبحت هذه فكرة مبتذلة. أليس السير خلف سرابٍ مجرد مخاطرةٍ لا مفر منها، نقبل بها عندما نسعى إلى هدفٍ صعب؟

لست متأكداً من قدرتك على تفادي الخطر، لكن بالنظر إلى آلاف الساعات التي نقضيها طوال حياتنا، سعياً إلى الحصول على تعليمٍ جيد، وإيجادِ الزوج المناسب، والنهوض بحياتنا المهنية، أليس من المنطقي قضاء بعض الوقت في الكشف عما إذا كانت هذه المساعي مصوَّبةً نحو الهدف؟

ترك أثر للفصل بين الرغبات والمتعة:

إنَّ معرفة المكان الذي كنت فيه هو أفضل طريقة لتجنب الضياع، وكان جزءاً من إجابتي على مفارقة الدافع هو الاحتفاظ بدفتر يومياتٍ على مدى السنوات العديدة الماضية؛ إنَّه ليس سجلاً يومياً للأحداث، بل مجرد فسحةٍ يمكنني الكتابة فيها كل بضعة أيام، والتفكير ملياً في قضايا هامة في حياتي.

كانت إحدى فوائد الحفاظ على هذه العادة على مر السنين، هي وجود سجلاتٍ شاملة لكل الأمور التي كانت تدور في ذهني في مراحل مختلفة من حياتي، والتي أصبحت لاحقاً دليلاً يمكنني تتبعه، عندما أحاول معرفة ما أسعى إليه في المستقبل.

يمكنني تفحُّص نوعين من المدخلات، ومنها النوع الذي أكتب فيه عن السعي إلى تحقيق الهدف، وعندها أستطيع ملاحظة شيئين: مقدار الدافع الذي أريده للهدف، وكم الضغط أو المتعة التي يخلفها السعي وراءه.

والنوع الثاني هو استعراض المدخلات التي تتحدث عن حالتي الذهنية الحالية؛ إذ إنَّ رؤية تواتر حالات الحماسة التي كنت أشعر بها مقابل حالات الاكتئاب، تعطي صورة تقريبية عن مدى استمتاعي بحياتي، وعن أسباب ذلك.

فالمعادلة بسيطة: هل تؤتي الدوافع التي لدي ثمارها؟ هل جعلتني أكثر سعادة من الناحية العملية؟

إقرأ أيضاً: 6 خطوات سهلة للحصول على السعادة الأبدية

استنتاجات مذهلة من تتبع اليوميات:

كان الاكتشاف المثير للاهتمام من مراجعة يومياتي، هو أنَّ وجودي ضمن مجموعة اجتماعية كبيرة، لم يكن أفضل من وجودي ضمن مجموعة أصغر؛ فالأوقاتُ التي كنت فيها محاطاً بالعديد من الأشخاص، كانت غالباً أسوأ من تلك التي قضيتها مع عدد أقل، ولكنَّهم مقربون أكثر.

على الرغم من ذلك، كنت مدفوعاً دائماً إلى توسيع محيطي الاجتماعي، والتركيز على لقاء أشخاص جدد، ونادراً ما كان تقليص مجموعتي الاجتماعية أولويةً، على الرغم من كونه خطوةً ذكيةً في بعض الحالات.

أما الاكتشاف الآخر المثير للاهتمام، فيتعلق بالسفر، والأمر ببساطةٍ أنَّني أستمتع عادةً بالعمل في المنزل أكثر من السفر، وأتطلع بشغفٍ إلى السفر لمدة قصيرة، لكن قليلاً ما أستمتع به حين يحدث فعلاً.

كان الحل هنا إعادة التفكير بطريقة سفري، وأن أركز على قضاء الوقت مع الناس أكثر من مشاهدة المعالم السياحية، والسفر لمدةٍ طويلةٍ حيث أعيش في مكان لعدة أشهر، قد يكون أيضاً بديلاً أفضل بالنسبة إلي.

ليست رسالتي بالطبع أنَّه يجب عليك تقليص محيطك الاجتماعي أو التقليل من السفر، فتلك كانت مجرد أمثلةٍ طرحتها من تجربتي الشخصية، والدرس الحقيقي هو الاحتفاظ بدفتر يومياتٍ يمنحك القدرة على العودة بالزمن إلى الوراء، وتصحيح الأخطاء التي ارتكبتها، ساعياً وراء الحياة المثالية.

إقرأ أيضاً: 5 تطبيقات فعالة تساعدك على تتبع عاداتك اليومية

إحياء الحماسة:

مع تقدمك في العمر تتعب وتصبح أكثر تهكماً من العالم، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ السعي وراء الرغبات التي لا ترضينا يسحق الروح.

لذا قد يبدو الاحتفاظ بدفتر يوميات وإعادة النظر ببعض دوافعك أمراً تحليلياً أكثر من اللازم، لكنَّ الهدف من ذلك ليس التشكيك أو وضع كل شيء محط المساءلة، بل بخلاف ذلك تماماً؛ إنَّها إعادة اكتشاف للدوافع التي ترضينا بالفعل، والسعي إليها بكل صدق، لنعيد إحياء الحماسة اللازمة لتحقيق أحلامنا، غير آبهين إن كان هذا ينهكنا.

المصدر




مقالات مرتبطة