هل تنبع السعادة من الداخل؟

ابتكر حكيم يُدعى باتانجالي (Patanjali) منذ حوالي 2000 عام، واحداً من أول مسارات التنمية الذاتية في العالم. لا يُعرف أي شيء عن باتانجالي كشخص ويشك بعض العلماء في أنَّه كان موجوداً أصلاً، ويشيرون إلى أنَّ مجموعة من علماء مختلفين جمعوا تعاليمه؛ ومع ذلك، إذا كان موجوداً، فلا شك في أنَّ باتانجالي كان طبيباً نفسياً استثنائياً ويشار إلى مساره باسم "مسار اليوغا ذو الثمانية أطراف"، وهو مشروح وموصوف في كتب اليوغا سوترا (Yoga Sutras).



المرحلتان الأوليتان من المسار هما قواعد أخلاقية، بينما المرحلة الثالثة هي وضعيات بدنية، وأصبحت تُعرف بالممارسة الحديثة لليوغا، على الرغم من أنَّ وضعية الجسد التي تُعرف باسم أساناس (asanas) ليست سوى طرف واحد من المسار ككل، المرحلة الرابعة هي التحكم بالتنفس، وتتعامل المراحل الأخيرة مع القدرات العقلية، مثل "حالة هدوء العقل" (one-pointedness of mind)، والتي تعادل ما يسميه علماء النفس الحديثون بـ "التدفق الذهني".

بعد ذلك، تأتي مرحلة التأمل، وتقود إلى المرحلة الأخيرة من مسار اليوغا ذي الثمانية أطراف، والتي تُعرف باسم سمادهي (samadhi) أي عندما يبلغ الشخص حالة من الوحدانية مع العالم، ومع ذلك، فإنَّ أهم مرحلة في مسار باتانجالي (Patanjali) هي المرحلة الخامسة، براتياهارا (Pratyahara)، والتي يمكن ترجمتها على أنَّها "سحب الحواس"، أو ببساطة الكينونة الداخلية؛ أي هي القدرة على العيش داخل أنفسنا، والراحة ضمن فضاءنا الذهني، دون تشتيت انتباهنا إلى الأمور الخارجية؛ وتعني الكينونة العيش في حالة وجود دون الحاجة إلى النشاط المستمر، والعيش في حالة تواصل مع كياننا بدلاً من حالة دائمة من التهرب من الذات.

تصف كتب يوجا سوترا الكينونة بأنَّها بداية الحياة الروحية، كما أنَّها بداية السعادة الحقيقية أيضاً؛ حيث تُمثل تحولاً كبيراً عندما نبدأ بالبحث عن السعادة داخل أنفسنا بدلاً من الخارج، وبالتأكيد، من المستحيل أن نصل إلى أي اطمئنان داخلي دائم دون القدرة على الانخراط في ذواتنا.

الكينونة الخارجية، العيش خارج أنفسنا:

لسوء الحظ، يفتقر الكثير من الناس إلى القدرة على التمتع بالهدوء الداخلي، ويشعرون بعدم الارتياح حتى عندما يختلون بأنفسهم دون أي مؤثر خارجي يشغل تفكيرهم، ويبدو الأمر كما لو أنَّ هناك نوعاً من الصراع النفسي في داخلهم، يواجهونه عندما لا ينشغلون بأي شيء؛ حيث يشعرون بدافع للهروب من هذا الصراع؛ لذلك يبحثون على الفور عن المشتتات أو النشاطات.

ربما يكون التلفاز هو أفضل طريقة ابُتكِرَت على الإطلاق لتشتيت انتباه البشر بعيداً عن أنفسهم والهروب من الصراع النفسي؛ لهذا السبب، منذ الخمسينيات من القرن الماضي فصاعداً، أصبح التلفاز أكثر أشكال التسلية شيوعاً في العالم، وأصبح أقل شعبية مع بداية عصر الإنترنت، ولكن عندما كان في ذروته، كان الناس في الولايات المتحدة يشاهدون التلفاز بمعدل 35 ساعة في الأسبوع، أو خمس ساعات في اليوم.

عندما نعيش خارج كينونتنا الداخلية، ولا نكون قادرين على التنعم بالصفاء الداخلي، فإنَّنا نشعر بحالة من عدم الرضا، ونصبح معرَّضين للشعور بالوحدة والملل بشكل مزمن، فنعتمد كالمدمنين على المحفزات الذهنية باستمرار، والتي عادةً ما تكون نشاطات ومشتتات ذهنية، وعندما يتوقف ذلك، نجد صعوبة في التأقلم، فهناك شعور مستمر بالتململ؛ مما يعني أنَّه لا يمكننا أبداً الاسترخاء حقاً.

أصبح الوصول إلى المحفزات الذهنية في عصر الإنترنت أسهل من أي وقت مضى؛ حيث يركز الكثير من الناس انتباههم على هواتفهم الذكية وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم لدرجة أنَّهم أصبحوا أكثر ابتعاداً عن داخلهم من أي جيل سابق، وحتى الأجيال التي كانت تقضي ساعات طويلة في مشاهدة التلفاز.

إقرأ أيضاً: 8 نصائح ذهبية للتخلص من الحزن والعيش بسعادة

فوائد الكينونة الداخلية (الاتحاد مع الذات):

يعني أن نعيش ونتحد مع ذواتنا أنَّنا لم نعُد مدمنين على المحفزات الذهنية، ولم نعد نعيش حياة من العمل المستمر التي يتخللها بعض من فترات التشتيت، فالاتحاد مع الذات يجلب شعوراً باليُسر والرضا؛ حيث نكون سعيدين تماماً حتى لو لم يكن هناك وسائل للترفيه أو نشاطات تشغل اهتمامنا، ويمكننا أن نستريح بسلام مع أنفسنا ونراقب أفكارنا ومشاعرنا.

بعبارةٍ أخرى، نحن قادرون على السكون، ونستطيع الجلوس دون أن نقوم بأي عمل دون الشعور بالملل، وقضاء الوقت وحدنا دون الشعور بالوحدة، وفي الواقع، عندما نتَّحد مع ذواتنا، فإنَّنا نستمتع بالعزلة كفترة من الاسترخاء العميق والتواصل مع أنفسنا.

كيف تتحد مع ذاتك؟

لحُسن الحظ، ليس من الصعب تنمية الاتحاد مع ذواتنا وعدم الاكتراث بالعالم الخارجي؛ حيث إنَّها مسألة اكتساب عادة إلى حدٍ كبير، فمنذ اللحظة الأولى التي نولد فيها تقريباً، يتم تشجيعنا على إبقاء أذهاننا منشغلة، بدلاً من مجرد السكون، وفي العالم الحديث، هناك الكثير من الأمور التي تدفعنا إلى أن نشغل تفكيرنا وانتباهنا في الأجهزة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بحيث أنَّ الكثير منا يفقد القدرة على التواصل مع ذاته، ونشعر بعدم الارتياح، والخوف من حالة الفوضى والضياع الذي يعصف داخلنا؛ لذلك نهرب من أنفسنا بأسرع ما يمكن.

ولكن بمجرد الاتحاد مع أنفسنا، يتلاشى هذا الشعور بعدم الارتياح عادة، وسرعان ما نتعود على مساحتنا الداخلية، ويبدأ الصراع النفسي بالتبدد، وتكمن هنا الفوائد العظيمة للتأمل كطريقة لتنمية الذات، فهو نوع من العلاج الذي يساعدنا على التغلب على إدماننا على الانشغال، ويعالج الصراع في أذهاننا حتى نتمكن من الوصول إلى السلامة والاستقرار في أعماق كياننا.

إقرأ أيضاً: إن كنت في حالة ضياع فعليك بتفقد قيمك!

وكما كان يعرف باتانجالي (Patanjali)، هذه ليست سوى البداية فقط، وبمجرد أن ننمِّي اهتمامنا بداخلنا وكينونتنا، فإنَّنا نتعمق أكثر في أنفسنا؛ حيث سيسهل علينا أن ندخل في حالة من التدفق الذهني، ونعيش في حالة من الوجود، وبعد ذلك، قد نصل إلى الحالة التي أطلق عليها باتانجالي (Patanjali) اسم سمادهي (Samadhi)، وهي عندما يتلاشى إحساسنا بالانفصال، ونصبح مدركين لوحدتنا الأساسية مع الكون.

المصدر




مقالات مرتبطة