هل أصبحت الهواتف الذكية سجائر عصرنا الحالي؟!

بما أنَّ الهواتف الذكية أضحت في خضمِّ الحياة اليومية للكثير من الناس في كل ساعةٍ ووقت، فإنَّ استخدامها أصبح نوعٌ من التَّطفل.



ملاحظة: هذا المقال مترجم عن مارك مانسون، مؤلف كتاب "فن اللامبالاة".

مقدّمة:

أذهبُ في بعض الأحيان لأحْضُرَ حصَّة تدريبٍ رياضي أشبه بمعسكرات التدريب العسكري، في صالة الألعاب الرياضية بالقرب من شقتي. إنَّها واحدة من تلك الحصص التي يقف المدرب فيها ويصرخ فيك لكي تقوم بالمزيد من تمارين القرفصاء والضَّغط إلى أن تشعر بالغثيان. لتعودَ بعدها إلى منزلك غير قادرٍ على الجلوس في كرسي المرحاض لعدَّةِ أيامٍ متتالية. إنَّه لأمرٌ رائع، وأنا أحبه لدرجة أنَّني لا أتغيب عن أيَّة حصة.

اليوم، وكما يحدث كل يوم، هرع شخصان بين التمرينات لالتقاط هواتفهم والتحقق من... لأكون صادقاً، لا أعلم ما الذي قد تحققوا منه!! هل تُراهم قد تفقدوا بريدهم الإلكتروني، أو الإنستجرام؟ أم أنَّهم قد أرسلوا صور حبات العرق التي تقطر منهم حتى يتمكن جميع متابعيهم من رؤيتها؟ بصراحة، لا أعلم. لكن كل ما أعلمه هو أنَّهم كانوا يستخدمون هواتفهم. ذلك ما أثار غضب المدرّب الذي صاح فيهم لكي يضعوا هواتفهم "اللعينة" جانباً، مما وَضَعَنَا جميعاً في موقفٍ مُحرج.

حدث هذا الأمر مرتين أو ثلاث في تلك الحصة، كما يحدث في كل حصة تقريباً. ومهما يكن من سبب، فقد قررت اليوم أن أعبر عن رأيي في ذلك إلى تلك المرأة التي التصقت بهاتفها بينما كان بقيتنا يتدربون:

"هل حقاً لا يوجد شيء في حياتك لا تستطيعين تأجيله لمدة 30 دقيقة؟ أم أنَّك تعالجين السَّرطان باستخدام هاتفك؟"

ملاحظة للقراء: هذه طريقة سيئة لتكوين صداقات.

كنت غاضباً، لكن تباً لكل شيء. فقد شعرت بأنَّني على صواب، وأنَّني أقول ما كان يفكر فيه بصمت كل شخصٍ آخر في الغرفة. في وقت لاحق من ذلك اليوم، وما إن ذهبنا جميعاً إلى منازلنا، وبينما كنت أجلس متألماً على كرسي المرحاض، كنت أستعرض هذه الحادثة في رأسي. وبدأت أسأل نفسي: "لم أزعجني ذلك كثيراً؟، ولم يبدو أنَّ الهواتف بشكل عام، تزعجني كثيراً؟ ولمَ أنزعج عندما تسحب زوجتي هاتفها بينما نسير في الشارع معاً؟ ولمَ أكره بشدة من يحملون هواتفهم ويسجلون نصف الحفل الموسيقي؟ ما خطبي يا ترى؟" وهل أنا من يقع عليه اللوم؟

أنا أعلم أنني لست كذلك. لدينا جميعاً علاقة حب أو كراهية غريبة بهواتفنا هذه الأيام. ونصبح في كل عام أكثر التصاقاً بها من أي وقت مضى. ومع ذلك، وفي كل عام أيضاً، يبدو أنَّنا نشعر بالاستياء لأنَّنا ملتصقون بهم. لم يحدث هذا؟

إقرأ أيضاً: تعرّف على أضرار إدمان الهواتف الذكية وعلى أهم طرق علاجه

تلوّث الانتباه

إن أنتَ تمعّنت بالأمر قليلاً، لوجدتَ أنَّ الانتباه هو الشيء الوحيد الذي نملكه فعلياً في حياتنا. فممتلكاتنا يمكن أن تذهب أدراج الرياح. وأجسادنا قد تبلى. وعلاقاتنا يمكن أن تنهار. حتى ذكرياتنا وقدراتنا الفكرية قد تذهب طيَّ النسيان. لكن تلك القدرة البسيطة على اختيار ما يجب التَّركيز عليه، دائماً ما ستكون بين أيدينا.

لسوء الحظ، فإنَّه مع وجود التكنولوجيا في أيامنا هذه، يتم شدُّ انتباهنا في اتجاهات شتَّى أكثر من أي وقت مضى، مما يجعل الاختيار من بين الأمور التي يجب أن تحظى باهتمامنا، أمرٌ أكثر صعوبة وأهمية من أي وقت مضى.

في كتابه "العمل العميق - Deep Work"، يدَّعي كال نيوبورت بأنَّ القدرة على التركيز بعمق على مشروع أو فكرة أو مَهَمَّة واحدة لفترة طويلة من الزمن، ليست فقط واحدة من أهم مهارات النجاح في عصر المعلومات، ولكنَّها قدرة يبدو أنَّها تتضاءل بين النَّاس أيضاً.

لكنَّني سأذهب أبعد من ذلك. سأقول بأنَّ قدرتنا على صقل انتباهنا والتَّركيز على ما نحتاج إليه، هي عنصر أساسي في عيش حياة سعيدة وصحية. إذ مررنا جميعاً بتلك الأيام التي شعرنا فيها بتشتتِ انتباهنا، وبأنَّنا فقدنا السَّيطرة على واقعنا، ووقعنا باستمرار في فجوة معلومات لا طائل منها، ودراما تشتمل على نقرات على شاشات هواتفنا وإشعارات لا تنتهي.

لكي نكون سعداء ونتمتع بصحة جيدة، يجب أن نشعر كما لو أنَّنا نسيطر على تصرفاتنا ونستغل قدراتنا ومواهبنا بفعالية. ولكي نقوم بذلك، يجب أن نسيطر على انتباهنا.

أعتقد أنَّ هذا هو السَّبب الذي جعلني أغضب من استخدام جهاز الهاتف الخلوي في صالة الألعاب الرياضية. فتلك التدريبات هي تدريباتٌ شاقَّةٌ جداً. فهي لا تتطلب مني التركيز وممارسة الانضباط البدني فحسب، بل تتطلب مني الانضباط العقلي أيضاً. وأن تتوقف كل 10 دقائق لأنَّ أحدهم بحاجةٍ لأن يرسل بريد إلكتروني إلى رئيسه، أو رسالة نصية إلى صديقته، يخرجني عن تركيزي. والأسوأ من ذلك، إنَّه يخرجني عن طوري.

إنَ الأمر لهوَ تلويث للانتباه عندما تتداخل عدم قدرة أحدهم على التركيز أو السيطرة على نفسه، مع انتباه وتركيز النَّاس من حوله.

ومع الانتشار غير المسبوق للأجهزة الذكية والإنترنت في كل مكان تقريباً، فإنَّ تلوث الانتباه يتسلل إلى حياتنا اليومية أكثر فأكثر، ومن دون أن ندرك ذلك حتَّى.

هذا هو سبب غضبنا عندما يقوم أحدهم باستخدام هاتفه في السينما. وسبب انزعاجنا عندما يبدأ شخص ما بإرسال رسائل نصية أثناء العشاء. ولهذا نغتاظ عندما يتحقق أحدهم من بريده الإلكتروني بدلاً من أن يركز معنا على مشاهدة مباراة كرة القدم. إذ إنَّ عدم قدرة الآخرين على التركيز تتداخل مع قدرتنا (الهشة مسبقاً) على التَّركيز.

وبنفس الطريقة التي يَضُرُّ بها التَّدخين السَّلبي بالأشخاص الذين يحيطون بالمدخن، تضر الهواتف الذكية باهتمام وتركيز من يحيطون بمستخدميها. إنَّها تسرق حواسنا. إنَّها تجبرنا على إيقاف محادثاتنا ومضاعفة أفكارنا بشكل لا داعي له. وتجعلنا نفقد سلسلة أفكارنا وننسى تلك النقطة الهامَّة التي كنا نصوغها في أذهاننا. كما أنَّها تقوِّض قدرتنا على التواصل، وأن نكون ببساطة مع بعضنا البعض، وهو ما من شأنه أن يدمر الألفة في ذلك.

مضار الهواتف الذكية

لكنَّ الشبه بين الهواتف الذكية والتدخين لا ينتهي عند هذا الحد. فهناك أدلة تشير إلى أنَّنا نُلحق أذىً بعيد المدى بذكرياتنا وفترات انتباهنا (أقصى مدة نستطيع أن نركز انتباهنا فيها). وبنفس الطريقة التي ينال بها التدخين من صحتنا على المدى الطويل في سبيل الحصول على سلسلة قصيرة الأجل من النَّشوة؛ فإنَّ اندفاعات الدوبامين التي نحصل عليها من هواتفنا تضر بقدرة عقولنا على العمل على المدى الطويل. وكل ذلك في سبيل الحصول على مجموعة من الإعجابات على تلك الصورة الجديدة "الرائعة" التي صورناها لطعامنا الذي طلبناه للتَّو.

قد يبدو الأمر الآن كما لو أنَّني أبالغ في ردِّ فعلي. وكأنَّني قد مررت بجلسة تدريب سيئة وأريدُ أن ألقيها على كاهل مئات الآلاف من القراء. لكن أنا جادٌّ فيما أقوله إذ أعتقد أنَّ هذا الأمر يؤذينا أكثر مما قد نُدرك. إذ لاحظت أنَّني ومع مرور السنين، قد أصبح الجلوس وكتابة مقال مثل هذا أصعب عليَ مما كان عليه قبل ثلاث أو أربع سنوات. هذا ليس فقط لأنَّ حجم الملهيات قد تضاعفَ على مرِّ السِّنين، بل لأنَّ قدرتي على مقاومة تلك الانحرافات يبدو أنَّها تراجعت إلى حدٍّ لم أعد أشعر فيه بأنَّني أتحكم بتركيزي بعد الآن.

شاهد بالفديو: كيف تطور مقدرتك على التركيز

وذلك النوع من الأمور يخيفني. ليس الأمر أنَّني أستاء من تلك المرأة التي تتمرن في صالة الألعاب الرياضية ولا تقدر على أن تقاوم الرغبة بالتحقق من رسائلها كل 10 دقائق. بل أنا مستاءٌ لأنَّني أتحول إلى ذلك الشخص الذي لا يقدر على أن يتمرن لـ 10 دقائق في صالة الألعاب الرياضية من دون أن يتحقق من رسائله. وأنا على ثقةٍ من أنني لست وحدي في هذا.

لقد قابلت أناساً في السنوات القليلة الماضية، ممَّن يشعرون بقلق شديد إذا لم يتمكنوا من التحقق من هواتفهم في إحدى المناسبات الاجتماعية. إذ تراهم يحملون هواتفهم معهم أثناء إجراء النقاشات بالطريقة التي يحمل بها بعض الناس كلابهم على متن الطائرات. إنَّه بمثابة مُتَنَفَّسٍ دائم لهم إذا ما أضحت ضرورة التفاعل مع أفكار ومشاعر شخص آخر شديدةَ الأهميَّة.

لقد بدأت أنتبه لوجود البعض ممن يشعرون أنَّهم بحاجة إلى أن يتحققوا دائماً من بريدهم الإلكتروني أو رسائلهم، ليشعروا بأنَّهم موظفون جيدون ومنتجون. ولا يهتمون إن حدث ذلك أثناء عزف طفلهم على الكمان في حفلٍ موسيقي، أو إن كانوا في سياراتهم عند إشارة المرور، أو في سريرهم عند منتصف ليلِ يوم السبت. فهم دائماً ما يشعرون وكأنَّه عليهم أن يكونوا دائماً على دراية بكل المعلومات التي تعترض طريقهم، وإلا فإنَّهم سيفشلون لا محالة.

لقد لاحظت أصدقاءً لي لم يعد بمقدورهم أن يجلسوا لمشاهدة فيلم بأكمله -أو إحدى حلقات مسلسل تلفزيوني- من دون أن ينظروا لهواتفهم عدة مرات أثناء مشاهدتهم له. كما انتبهت لوجود بعضٍ ممن لا يقدرون على تناول وجبة طعامٍ من دون أن يضعوا الهاتف بجوار طبقهم.

إنَّ ذلك يحدث في كل مكان، وقد أصبح بالتالي عُرفاً اجتماعياً سائداً. مثلما أضحت قلة الانتباه أمراً مقبولاً من النَّاحية الاجتماعية، ونحن جميعاً ندفع ثمن ذلك.

إقرأ أيضاً: 7 حقائق مفاجِئة عن الأشخاص المدمنين على التكنولوجيا

المستقبل

مستقبل الهواتف الذكية

لدي حلم يا أعزائي. أحلم بعالم يمكن للناس فيه أن يجلسوا في محادثات طويلة مملة، من دون أن يشعروا أنَّهم بحاجة إلى الانغماس بذلك النَّوعِ من المتعة الفورية التي تأتيهم من "شاشات بلاستيكية متوهجة".

أحلم بعالم لا يدرك فيه الناس محدودية انتباههم وحسب، بل قيمة انتباه الآخرين أيضاً. في عالمٍ لا يقوم به بعض الحمقى بإرسال رسائل نصية في دور السينما، بحيث يقضون بذلك تماماً على الحالة المزاجية التي تَنتُجُ عن إحدى المشاهد الدراميَّة.

أحلم بعالم نستخدم فيه أجهزتنا بسهولة كملحق عرضي لحياتنا، لا أن نستخدمها كبديل ضعيف لها. عالم يدرك الناس فيه أنَّ تقديم المعلومات بشكل مستمر وفوري له عواقب خفية مرتبطة به، لا تقل أهميَّةً عن فوائده الأكثر وضوحاً.

أحلم بعالم ينظر فيه الناس لانتباههم وتركيزهم كموردٍ هام، كشيء يجب غرسه والعناية به ورعايته لكي ينموَ بنفس الطريقة التي يعتنون بها بأجسادهم أو بثقافتهم. وهذه الزراعة الجديدة لانتباههم ستحررهم بطريقةٍ عجيبة، ليس من شاشات هواتفهم وحسب، ولكن من نوازعهم اللاإرادية أيضاً.

أحلم بعالمٍ يمتد فيه احترام الناس للانتباه والتَّركيز ليشملَ من حولهم، ليشملَ أصدقائهم وعائلتهم، أحلم بعالمٍ يُعترف فيه بأنَّ عدم القدرة على التَّركيز لا يضر بالفرد وحسب، بل يضر أيضاً بعلاقاته وقدرته على الحفاظ على مشاعر المودة مع الآخرين.

أحلم بأنَّ هؤلاء النسوة لن يتفقدن هواتفهنّ اللعينة عندما أقوم بتمارين الإحماء يوم الأربعاء القادم. حُباً بالله، إن كُنتنَّ ستذهبنَ إلى صالة الألعاب الرياضية، لم لا تَقُمنَ عندئذٍ بما يقوم به النَّاس في صالة الألعاب الرياضية؟؟!!

وعندما يحدث هذا، عندما نسمح للتحرر من هواتفنا بإسماع صوته، وعندما ندعه يصدح من كل مدينة وقرية، ومن كل ولاية وكل بلد، سنكون قادرين عندئذٍ على الإسراع بمجيء ذلك اليوم الذي يقوم فيه جميع خلق الله، على اختلاف أعراقهم وألوانهم ومعتقداتهم وثقافاتهم، بإمساك أيدي بعضهم البعض وترديد تلك الأغنية الروحانية القديمة التي رددها الزنوج المحررون فيما مضى: "أخيراً تحررت! أخيراً تحررت! ألف حمدٍ وشكرٍ لله ربِّ العالمين، لقد تحررنا أخيراً (من نِيْرِ عبوديتنا لهواتفنا الذكية)!"

حسناً، ربما أكون قد بالغت في هذه الفقرة الأخيرة، لكن في المرة القادمة التي تلتقط فيها صورة سيلفي على العشاء، اسأل نفسك: كيف أرادني الدكتور مارتن لوثر كينج أن أكون؟

المصدر




مقالات مرتبطة