ممارسة الوعي المنفتح

تتفعَّل قدرتنا الشخصية على السيطرة عندما نستطيع تغيير علاقتنا بأفكارنا وعواطفنا؛ وهذا يتيح لنا تحقيق الانسجام بين ردود أفعالنا ومشاعرنا، إلى جانب مشاعر الآخرين؛ إذ يتطلب تطوير القدرة على الارتباط بصورة مختلفة بتجربتنا الداخلية، أن نعي وندرك ما يحدث في الوقت الحالي ابتداءً؛ فما أن ندرك أفكارنا وعواطفنا، يمكننا تطوير القدرة على تجنب الانجرار إلى دوامة تلك التجربة بصورة لا شعورية أو كرد فعل، قد نقول أو نفعل خلالها شيئاً نأسف عليه لاحقاً.



قد يكون تعلُّم ملاحظة أنماط تفكيرنا وعواطفنا أمراً صعباً، لكن لحسن الحظ ليس مستحيلاً، وهنا يأتي دور التأمل أو تدريب الذهن، الذي يساعدنا على التعرف والتعود على طريقة تفكيرنا، وكيف تتكشف أفكارنا وعواطفنا من خلال تجربتنا.

هناك طرائق عديدة لممارسة التأمل وتدريب الذهن بغية التعرف إلى أنماط تفكيرك وعواطفك، وإحداها هي الجلوس قائماً في وضع مريح، بحيث يكون عمودك الفقري مستقيماً، وبدلاً من إغلاق عينيك، من الأفضل تركمها مفتوحتين؛ لأنَّ ذلك يمكِّنك من استعمال هذه الممارسات في الظروف اليومية بصورة أكبر؛ فلا يعني هذا أن تحرم نفسك من أيِّ عوامل حسية؛ وإنَّما التدرب في ظروف تشبه إلى حد كبير واقعك في أثناء اليقظة.

إقرأ أيضاً: كيف تمارس التأمل؟

بدلاً من التركيز على شيء بعينه، راقب ودع عقلك يستقر في حالة من اليقظة الطبيعية؛ وهذا يسمح لك بإدراك كفاءة العقل الذي وُهِبناه جميعاً، وذلك الجانب منه القادر على إدراك وفهم كل ما يتلقاه (إمَّا داخلياً أو من خلال المدخلات الحسية المختلفة)؛ الأمر الذي يشار إليه أحياناً باسم إدراك الإدراك.

عبر مراقبة قدرة ذهنك على التيقظ والوضوح والإدراك، لن تركز باهتمام على هذا أو ذاك؛ بل كل ما عليك فعله هو السماح لذهنك بالراحة في حالته الطبيعية من الانفتاح؛ إذ إنَّك لستَ مضطراً إلى تخيل أو استحضار أيِّ شيء في ذهنك، ولا إلى التدخل فيما يحدث أمام ناظريك، أو ما قد تسمعه من حولك، أو حتى مع ما يتكشف في أفكارك ومشاعرك.

عندما تشتت المدخلات الحسية أو فكرة أو عاطفة انتباهك، راقب ذلك بلطف بشيء من الانفتاح، مثل تجربة المرور بمناظر طبيعية جميلة في أثناء ركوب السيارة؛ حيث نلمحُها برهة من الزمن، ثم ما تلبث تختفي؛ لذا، بدلاً من الانشغال بالفكرة أو العاطفة، دعها تمرُّ مرَّ سحابة تتحرك في السماء في يوم مشمس، فالسحاب لا يعير أيَّ اهتمام لنفسه؛ بل يروح جيئة وذهاباً من دون إحداث جلبة، كما يشبه الأمر أيضاً انتظار القطار على الرصيف؛ حيث نراقب القطارات تأتي وتذهب، لكنَّنا نتركها تمر لأنَّنا نعرف بأنَّها ليست قطارنا الذي علينا اللحاق به.

بحلول الوقت الذي تلاحظ فيه أنَّك مشتت، تكون قد عدت بوعيك بالفعل؛ وهذا يعني أنَّك جاهز ومستعد لإدراك ما سيحدث بعد ذلك في مساحة وعيك وإدراكك، فالأمر أشبه بركوب حصان مُدرَّب جيداً؛ إذ إنَّك لست مضطراً إلى التحكم باللجام؛ بل تنحني، فيستشعر الحصان ما تريده أن يفعله.

إقرأ أيضاً: كيف ترفع مستوى انتباهك وتركيزك؟

تعمل عقولنا بالطريقة نفسها تماماً، فكل ما تحتاج إليه هي بعض اللمسات اللطيفة، ولكن إذا حاولت السيطرة عليه، وخاطبتَه بقسوة في كل مرة يعمل فيها، فاستعد لتحمُّل رد فعله السلبي.

في بعض الأحيان، يتصرف وعينا كما تتصرف هرة تجلس منتظرة على أهبة الاستعداد للانقضاض على كل ما يظهر أمامها، وذيلها يروح جيئة وذهاباً؛ لذا حينما نلاحظ أنَّ وعينا في انتظار ظهور الفكرة أو العاطفة التالية، أو على العكس من ذلك، عندما نلاحظ أنَّ فكرة معيَّنة قد التصقت كالصمغ في عقولنا، علينا التخلي عن ذلك أيضاً، وبدلاً من ذلك، حاول أن تأخذ نفساً عميقاً، أعمق قليلاً من المعتاد.

اتخذ من الأمر تذكيراً لطيفاً يمنح عقلك الإذن بالاسترخاء والتخفيف من السيطرة، ثم في أثناء عملية الزفير، تحرَّر من أيَّة رغبة ملحة تشعر بها للقيام بأيِّ عمل يتطلب طاقة ذهنية، فوظيفتك الوحيدة في هذه اللحظة هي الإدراك؛ وهذا يسمح للعقل بالاستقرار في حالته الطبيعية من اللطف والهدوء والوضوح.

تشبه كفاءة العقل بوضوحه وهدوئه أخذ نفس من الهواء البارد المنعش، عندما تخرج أول مرة في يوم شتاء بارد، أو الشعور الذي ينتابك في عقلك بعد الانتهاء من الركض السريع، عندما تنهار على الأريكة بعد الوصول إلى المنزل، ففي تلك اللحظة، ينعم الذهن بصفاء تام، ولا ينشغل بأيِّ شيء.

إنَّ التمسك بأمر غير ملموس، ولكن لا يزال من الممكن تجربته (مثل حالة اليقظة والوعي في الذهن التي تركتَها من دون أن تعبث بها)، مقابل التركيز باهتمام على شيء بعينه، هو أكثر فائدة عندما يتعلق الأمر بالقدرة على تغيير علاقتك بأفكارك ومشاعرك في الوقت الحالي؛ إذ إنَّ من السهل أن تتخلى عن أمر ما، إذا كنت بالأصل لا تتمسك به بإحكام شديد.

المصدر




مقالات مرتبطة