مفهوم عدم التعلق وأثره على تحقيق السلام الداخلي

ينتشر مفهوم الزهد في كثيرٍ من الفلسفات، والمقصود به التخلي عن رغباتك؛ كي تتحرر من هذا القيد وتعيش بسلام.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب داريوس فوروكس (Darius Foroux)، ويشرح فيه عن تجربته في العثور على السلام الداخلي.

إنَّه مفهومٌ دقيقٌ للغاية يمكن تفسيره بطرائق عديدة، ومن الهام عند الحديث عن عدم التعلق تجنُّب الخلط بينه وبين التجرُّد، حيث يشرح الكاتب والمعلم "جوزيف غولدشتاين" (Joseph Goldstein) الذي يُعَدُّ واحداً من أوائل معلِّمي تأمل اليقظة الذهنية في الولايات المتحدة الفرق بين هذين المفهومين. ويُقدِّم سلسلةً من المحاضرات على تطبيق ويكنغ آب (Waking Up) بناءً على جلسات التأمل الخاصة به، وفي درسٍ بعنوان "حكمة الزوال" يتحدث عن عدم التعلق، وأهمية السَّعي إليه أكثر من التجرُّد.

كما يصفه غولدشتاين، فإنَّ مبدأ عدم التعلق يقوم على التخلي عن كلِّ ما يحدث في الحياة ويشمل ذلك التجارب أو الأحداث أو الأفكار على حدٍّ سواء، وهذا ما يُميِّزه عن التجرُّد؛ والمقصود به النأي بنفسك عن أمر ما، وسيُحدِث تطبيق هذا المفهوم فرقاً كبيراً في حياتك.

دعني أعطِكَ مثالاً على ذلك: عندما بدأت الاطِّلاع على الفلسفة الشرقية وفكرة التأمل، ظننتُ أنَّ السبيل إلى الحرية وتحقيق السعادة يكمن بالنأي بنفسك بعيداً عن الأمور، فعندما واجهت أمراً لا يتوافق مع قيمي كنت أنأى بنفسي عنه، كما أجريت مناقشات مع بعض الأشخاص المقربين فيما يتعلق بالفلسفة والمعتقدات، ولطالما وجدت نفسي أشرح أفكار الفلسفة الشرقية لغير المهتمين بها.

منذ عدة سنوات علَّقَتْ صديقتي بأنَّني أُمضي كثيراً من الوقت في القراءة، أنا لم أفهم قصدها في ذلك؛ لذا أجرينا نقاشاً مستفيضاً عن أهمية القراءة تحوَّل لاحقاً إلى حلقة محتدمة من برنامج مناظرة، كانت تعارض القراءة بقوة في حين أنَّني كنت من المؤيدين لها.

أردت النأي بنفسي عن الموقف، ولكن كلَّما حاولت ذلك تورطت في الجدال أكثر، حتَّى سئِمنا بعد بُرهة واتفقنا على أنَّني أقرأ أكثر من الأشخاص العاديين.

إذا كنت تعتمد عقلية عدم التعلق فلن تتورط في جدال كهذا؛ فعدمُ التعلق يعني أن تدعَ الأمور تمرُّ مرور الكرام، أن تعترف بها ببساطة، وتوافق الآخر على رأيه، وتستوضحَ عمَّا يدور في ذهنه؛ فصديقتي أرادت أن تناقش ببساطة كيفية قضاء المزيد من الوقت معاً في ممارسة نشاطات مشتركة.

شاهد بالفديو: 9 قواعد مهمة لتنعم بالسلام الداخلي

تبنِّي عقلية حرة:

عندما تكون متعلقاً بأفكارٍ ومعتقداتٍ معينةٍ قد تحاول التحرر منها؛ لكنَّك تفشل؛ لهذا السبب لا يُدرك معظم الناس فوائد ممارسة اليقظة الذهنية، إنَّهم متعلقون بصورةٍ مبالغٍ بها.

بدلاً من النأي بنفسك عن الأمور تبنَّى عقلية مختلفة، وهي التدرَّب على عدم التعلق، لا تتمسك بشيء ولا حتى الأمور التي تظنُّ أنَّها هامة، فنحن نرسم جميعاً صورةً ذهنيةً لأنفسنا، وغالباً ما نسعى إلى حمايتها؛ كأن تغرس في ذهنك هذه الصورة: "أنا شخصٌ ذكيٌّ ومراعٍ لمشاعر الآخرين وأهلٌ للثقة" وما إلى ذلك.

إذا كنتَ ترى نفسك شخصاً يراعي مشاعر الآخرين دائماً، ووَصَفَكَ أحدهم باللؤم فقد تعترضك مجموعة من المشاعر والأفكار، وستندفعُ بالفطرة لإثبات خلاف ذلك فتحاول نزع تلك الصفة عنك بأن تُظهِر مدى مراعاتك لمشاعر الآخرين.

عندما تُدرِّب نفسك على عدم التعلق، تستطيع تجاوز هذه التجربة ببساطة دون أن تُعطي الأمر أكبرَ من حجمه، عندما تُمارس التأمل تتعلم مراقبة أفكارك دون القيام بأي رد فعل أو إطلاق الأحكام، أنت فقط تُركِّز على الفكرة حتَّى تزول من تلقاء نفسها بطريقة سحرية.

هكذا أمضي في حياتي بصفتي شخصاً يختبر الحياة ببساطة، ولقد ساعدني القيام بذلك على العثور على السلام الداخلي على مر السنين؛ فإذا قال أحد الأشخاص أمراً لا يعجبك، راجع أفكارك ودوِّن التصرف بناءً عليها، وعندما يعجز ذهنك عن التفكير وتكرر الأفكار نفسها التي تتردد على مسمعك عن مستقبلك - لنفترض - لا تُبدِ رد فعل، وتجنَّب تغذية الأفكار التي تدور في عقلك.

عندما لا تتمسك بشيء تستطيع العيش بسلام، وهذا لا يعني ألَّا تُبدِ أيَّ رد فعل؛ فإذا سرق شخصٌ ما أغراضك ما زال بإمكانك ملاحقته قضائيَّاً، أو إذا احتجت إلى المساعدة تستطيع طلبها بقوة.

إقرأ أيضاً: كيف تعثر على ذاتك الحقيقية؟

في الختام:

إنَّ عدم التعلق من المفاهيم الهامة في حياتنا اليومية، خصوصاً عندما نميل إلى المبالغة في ردود الفعل؛ لذا عليك أن تُجرِّب ذلك، وفي المرة المقبلة التي تواجه فيها أمراً يُسبب لك اضطراباً داخلياً، تجنَّب الاستسلام إلى الرغبة في محاربته أو النأي بنفسك عنه، ولا تُبدِ أيَّ رد فعل إطلاقاً، ودعه يمرُّ فقط كالسُّحب في يومٍ عاصف.

المصدر




مقالات مرتبطة