مفهوم الوفاة النفسية وأسبابها وتأثيرها

في فيلمٍ (Collateral beauty) لـ "ويل سميث" يفقد البطل ابنته الوحيدة بحادث مؤلم، وهذا ما يسبب له صدمة عنيفة جعلته يفقد أيَّة رغبة بالحياة والاستمرار في العيش، فهو يتنفس ويأكل ويشرب ويتفوه ببضع كلمات بين الحين والآخر، ولكنَّنا إن تمكَّنَّا من تجاوز المعنى الحرفي للكلمة، يمكننا القول دون تردد إنَّه كان بمنزلة جثة على قيد الحياة.



من جهة أخرى، وفي الواقع نجد أنَّنا كثيراً ما نستخدم في حياتنا اليومية جملة "يبدو كالميت" إذا أردنا وصف شخص يعيش حياته دون أيَّة رغبة أو تفاعل مع محيطه واضعاً كل شعورٍ أو عاطفةٍ على الرف.

الموضوع حقيقةً يتجاوز كونه فكرة في فيلم أو تعبيراً مجازياً نستخدمه؛ بل هو حالة مُشخَّصة في علم النفس الذي يرى أنَّ الإنسان لا يموت مرة واحدة، فمصطلح الوفاة النفسية يشير إلى وصول الشخص إلى درجة كبيرة من اليأس تمنعه من الاستمرار بحياته؛ إذ يصل إلى درجة عالية من السأم الداخلي تجعله يشعر أنَّ لا شيء يستحق الحياة، كما ينعدم الدافع نهائياً وتموت الرغبة وتتلاشى أيَّة استجابة مع المحيط الخارجي، حتى يصل في النهاية إلى موته النهائي.

فإذا أردت معرفة معلومات أكثر عن هذه الحالة وأسبابها، وهل من الممكن إعادة الشخص الميت نفسياً إلى الحياة مجدداً وإعادة الشغف إليه، فتابع القراءة.

أولاً: ما هي :؟ وما هي أعراضها وأسبابها؟

لا يختار الإنسان متى يموت جسدياً، ولكنَّه بطريقة ما يستطيع أن يذهب بنفسه إلى موته النفسي؛ فهي حالة تشبه انسحاب الفرد نهائياً من الحياة التي يعيشها ولم تعد تُرضيه؛ بل بخلاف ذلك صارت عبئاً ثقيلاً لم يعد قادراً على احتماله، وهي رغبةٌ كبيرةٌ بالهرب من الواقع إلى الموت الذي يظهر في تلك اللحظة السبيل الوحيد للراحة.

حقيقة الكلام السابق ليس مجازياً فقط؛ وذلك لأنَّ سطوة العقل على الإنسان أكبر بكثير مما يمكننا توقعه، حتى إنَّ الكثير من الدراسات النفسية والطبية تحدثت عن هذه الحالة التي يموت فيها الإنسان لأسباب عقلية وعاطفية، حتى يصل الأمر بالشخص إلى الوفاة العضوية فعلياً بعد فترة دون وجود خلل عضوي أو حالة طبية جسدية تستدعي الموت.

من الجدير بالذكر عدم وجود علاقة بين الوفاة النفسية والاكتئاب، على الرغم من كونه يحدث بشكل ما بإرادة الشخص، فهذه الحالة لا تُعَدُّ انتحاراً، وهذا ما أكده "جون ليتش" الذي أجرى دراسة منشورة على موقع "ساينس دايريكت" العلمي "فعل التخلي عن الحياة والموت عادة خلال أيام قبل الوفاة الحقيقية، وهي حالة حقيقة للغاية يرتبط حدوثها غالباً بصدمة حادة".

الوفاة النفسية استجابة مختلفة لما يتعرض له الإنسان من ظروف صعبة في حياته ومشاعر قاسية تفوق قدرته على الاحتمال؛ إذ يوجد في الدماغ جزء يُعَدُّ مسؤولاً عن دافع الشخص وتنظيمه لمعلوماته وأفكاره بحيث يتوجه سلوكه لتحقيق هدف معين، وهذا الكلام يشمل دافع البقاء الموجود لدى الإنسان السوي بشكل فطري.

الصدمات الشديدة تسبب خللاً في هذا الجزء الذي يسمى الدائرة الحزامية الأمامية المتمركزة تحت القشرة الدماغية، وهذا ما يجعل الإنسان يفقد دافعه نحو البقاء، فأفكاره وسلوكاته ومشاعره كلها تأخذ الآن هدفاً واحداً هو عدم الاستمرار بالعيش.

شاهد بالفيديو: 6 عادات خاطئة تقضي على صحتك النفسيّة

أعراض الموت النفسي:

حتى نجزم بأنَّ الشخص قد مات نفسياً لا بد أن يظهر عليه عدد من الأعراض والعلامات، ويمكننا القول بطريقة أخرى إنَّ هذه الأعراض هي المراحل التي يمر بها الشخص قبل إعلان موته نفسياً:

1. الانعزال:

لم يعد الشخص نتيجةً للصدمة التي تلقاها قادراً على التواصل مع الآخرين أو التفاعل معهم، وهذا ما يدفعه للانسحاب والانعزال بعيداً عن الجميع، فالمشاعر التي من المفترض أن تؤثر فيه وتدفعه للتفاعل مع محيطه لم تعد موجودة الآن؛ وذلك لأنَّه قد وصل إلى مرحلة انعدام العاطفة والمشاعر نهائياً.

2. عدم الاكتراث:

بفعل حالة الانعدام العاطفي التي وصل إليها الشخص يفقد قدرته على التفاعل مع أي شيء مهما بلغت درجة أهميته، ويعامل كل ما يحيط به بعدم اكتراث ولا مبالاة حتى في حالة أمور الحياة الطبيعية، كالاستحمام وتناول الطعام وممارسة الأعمال، فكل شيء الآن لا طعم له ولا لون حتى لو كان في السابق سبباً من أسباب السعادة.

3. فقدان الدافع:

لم يعد أي أمر يثير رغبة الشخص في المتابعة، وأي قرار مهما كان بسيطاً هو حمل ثقيل عليه ولا يستطيع القيام به، فالأمر ليس فقداناً للطاقة فقط؛ بل فقداناً كاملاً للمحتوى الذهني الذي يُعَدُّ أساسياً في اتخاذ القرارات، وهنا يجب الإشارة إلى أنَّ الحافز الداخلي للعيش لم يعد موجوداً، لكن يمكن التدخل وإعطاء حافز خارجي للشخص لمساعدته على تخطي حالته تلك، وكلما كان التدخل أسرع كان مُجدياً أكثر.

4. الخمول:

يفقد الإنسان القدرة على التحكم بعضلات جسمه، كما يفقد نشاطه تماماً، وقد تصل به الأمور لدرجة عدم الاكتراث للجلوس مع قذارته في ذات المكان.

5. الوفاة النفسية:

تكون بمنزلة إعلان من قِبل هذا الشخص عن موته النفسي، فهو فاقد لكل رغبة وشعور وحافز يدفعه للاستمرار.

ثانياً: ما هي أسباب الموت النفسي وأنواعه؟

كما ذكرنا آنفاً فإنَّ الصدمات النفسية القوية أو حالات المعاناة الشديدة والتجارب القاسية أو فقدان أشخاص هامين ومؤثرين في حياتنا، قد توصلنا إلى حالة الوفاة النفسية، ثم الوفاة الحقيقية بعدها عن طريق استجابة قلبية لضغط العواطف تلك وحدوث نوبة قلبية مثلاً، لكن من الناحية النفسية فإنَّ السبب الرئيس هو فقدان دافع العيش.

أنواع الموت النفسي:

كما رأينا الموت النفسي يرجع إلى أسباب عدة أهمها الحزن الشديد والخذلان الذي يعاني منه الشخص، لكن إضافةً إلى ذلك تم اكتشاف أسباب أخرى تؤدي إلى النتيجة ذاتها وتُحدِث حالة الموت النفسي؛ وبذلك نجد ثلاثة أنواع أخرى للموت النفسي وهي:

1. الموت حسب الموقع:

يحدث هذا الموت نتيجة افتراض وتوقع الشخص لموته الحتمي، ويمكن أن نذكر هنا قصة الجنديين اللذين وقعا في الأسر في أثناء الحرب العالمية الثانية؛ إذ تم إيهامهما أنَّ المياه التي تنزل عليهما من السقف فيها غاز سام، ليموتا بسبب التوتر والخوف الذي أصابهما، فالمياه التي كانت تنزل عليهما كانت نظيفة ولا وجود لأي غاز فيها.

يمكن أيضاً ذكر قصة الرجل الذي صعد القطار خفيةً بسبب عدم امتلاكه لنقود كافية لسعر التذكرة، ليكتشف فيما بعد أنَّه في مقطورة ثلاجة اللحوم، وبعد محاولات عدة استسلم لواقعه ومات نتيجة شعوره بالبرد الذي لم يكن موجوداً إلا في خياله؛ لأنَّ الثلاجة كانت متوقفة عن العمل منذ أسبوعين، وقد تم تناول هذه القصة في السينما والتلفزيون.

2. الفودو:

هو الموت الذي يحدث نتيجة اعتقاد الشخص أنَّه قام بكسر أحد المحرمات أو اقترب من المقدسات أو أنَّه تحت تأثير سحر أسود، ولا يطال هذا الموت إلا من يؤمنون به.

3. الموت بسبب فصل الطفل عن والديه (الاستشفاء):

فصل الطفل عن والديه يسبب شعور الطفل بكثير من القلق والحزن والخوف الشديد لإحساسه بفقدان الأمان، وهذا ما يفسر وفاة العديد من الأطفال في المخيمات بعد فقدانهم لأفراد عائلاتهم.

إقرأ أيضاً: نصائح مهمة لوقاية الأبناء من الأمراض النفسيّة

ثالثاً: هل يمكن تخطي حالة الوفاة النفسية؟

على الرغم من قسوة هذه الحالة وسيطرتها على حياة المصاب لدرجة تسبب موتاً حقيقياً له فيما بعد، إلا أنَّ تقديم المساعدة للشخص المتوفى نفسياً ما زال ممكناً، وخاصةً في المراحل الأولى لها.

فيما يأتي سنقدم مجموعة من الاستراتيجيات المفيدة في ذلك:

  • قبل كل شيء يجب مساعدة الشخص على تقبُّل الصدمة التي سببت له هذه الحالة، وتجاوز الموقف المؤلم مهما كان صعباً، ولا يجب أن نسمح لهؤلاء الأشخاص بالانسحاب النهائي من الحياة الاجتماعية لكن دون الضغط عليهم لدرجة الإساءة لهم أكثر من إفادتهم.
  • يجب أيضاً مد يد العون لهم ومساعدتهم على العودة إلى نشاطاتهم المعتادة، من خلال مشاركتهم إياها في البداية وتحفيزهم على العودة إلى ممارستها ومساعدتهم على إنجاز أعمالهم المتراكمة.
  • الهدف هو الدافع الذي يجعل لأي إنسان رغبة في العيش، وعندما يضيع الهدف يفقد الإنسان البوصلة، وفي حالتهم هذا ما حدث بالضبط وهو فقدان الهدف؛ لذلك يجب الوقوف بجانبهم حتى يجدوا هدفاً آخر لحياتهم، ولا يجب تركهم يقاسون حالة الضياع هذه وحدهم، وعلينا أن نعيد لهم الرغبة بالحياة بطريقة ما.
  • اطلاعهم على تجارب أناس آخرين وصلوا إلى حالة مماثلة، فقد يكون من المفيد سماع قصص الناس الذين فقدوا أعزاء على قلوبهم ومشاركتهم مشاعرهم والبحث عن المعنى من الحياة في هذا الفقد ذاته، فالتجارب القاسية ليست فقط سبباً للإحباط والحزن والألم؛ بل هي سبب أيضاً لإخراج إنسان آخر قوي يعيش داخلنا.
  • إقناع الشخص الذي يمر بمرحلة الوفاة النفسية بزيارة الطبيب المتخصص والخضوع لجلسات العلاج وتناول الأدوية المحسِّنة للمزاج والمهدِّئة للأعصاب.
إقرأ أيضاً: 9 نصائح لتنجح في تحقيق السعادة النفسيّة

في الختام:

ربما لو سمعنا بمفهوم الوفاة النفسية من قبل لكان الأمر مثيراً جداً للاستغراب، لكن للأسف بعض الظروف المأساوية التي بدأت تجتاح العالم من قرابة عشر سنوات وحتى الآن، ومع انتشار وباء كورونا أيضاً الذي زاد الأمر سوءاً من حيث التضييق أكثر على الناس وخاصة من الناحية الاقتصادية والنفسية، فإنَّ حالة الوفاة النفسية لو لم نكن نعرفها بصفتها مصطلحاً فإنَّنا عرفناها بالتأكيد بصفتها حالات لكثير من الناس الذين مروا في حياتنا خلال هذه السنوات، حتى إنَّ بعضهم كانوا من المقربين لنا.

هذا كله يردنا إلى شيء واحد فقط، وهو ضرورة العناية بصحتنا النفسية؛ وذلك لأنَّ الإنسان القوي والصلب من الداخل سيكون أكثر قدرة على مواجهة الظروف الصعبة التي يمر بها، وستكون قدرته على التحمل أعلى من غيره.

المصادر: 1،2،3




مقالات مرتبطة