معرفة الذات: ميزة أم مجرد وهم؟

يبدو للوهلة الأولى أنَّنا على دراية بما يدور في أذهاننا؛ فمثلاً، نحن نعلم أنَّنا نريد لعائلتنا وأصدقائنا أن يكونوا على ما يرام، ونريد أن ندفع فاتورة الكهرباء لهذا الشهر، ونظن أنَّ دولة "ميانمار" كانت تدعى في السابق بـ "بورما"، وأنَّنا نشعر بإحساس معين مثل الألم.



يعتمد الفلاسفة مصطلحاً لمعرفة الحقائق المزعومة، التي في أذهاننا، وهو: "معرفة الذات". وبالعودة على الأقل إلى زمن الفيلسوف "رينيه ديكارت" (René Descartes) في القرن السابع عشر، كان يبدو لبعضٍ من الفلاسفة أنَّنا نمتلك معرفة ذاتية، ونمتلك أيضاً شيئاً مميَّزاً عن طبيعة بعض تلك المعرفة التي نمتلكها، ويمكننا أن نبدأ بمعرفة السبب من خلال التحقق من معرفتنا بعقول الآخرين.

لذا ضع في حسبانك، على سبيل المثال، كيف يمكنك أن تعرف أنَّ صديقك يعاني من الصداع؛ إذ إنَّ الطريقة التي ستعرف بها هذه الحقيقة هي من خلال ملاحظة سلوكه أو من خلال قوله، أو ربما من وضع يديه على رأسه، أو تناوله بعض المسكنات، أو إخبارك بوضوح أنَّه يتألم.

لكنَّ الأمر لا ينطبق على كيفية معرفة صديقك أنَّه يتألم هو نفسه؛ فليس عليه أن ينتبه لنفسه وهو يمسك رأسه بيده، ويتناول الأدوية، أو يسمع نفسه ينطق بعبارة: "أنا أتألم" من أجل امتلاك هذه المعرفة الذاتية، ومهما كانت الوسائل التي يستخدمها كي يعلم أنَّه يختبر إحساساً ما - سواء كان ذلك ما يسميه الفلاسفة بالتأمل، أم أي وسيلة أخرى - فيبدو أنَّها تزوده بطريقة أكثر شخصية لمعرفة ما يدور في ذهنه.

وبعبارة أخرى، لدينا طريقة لمعرفة الحقائق التي تتعلق بما يدور في أذهاننا، مثل أحاسيسنا أو بعض مواقفنا، عبر وسيلة لا يمكن لأي شخص آخر استخدامها لمعرفة تلك الحقائق ذاتها؛ لذا دعونا نطلق على هذه الميزة الخاصة بمعرفتنا الذاتية الميزة الشخصيَّة الأولى الفريدة.

إقرأ أيضاً: فن إدارة الذات: الدليل الأكيد للنجاح والسعادة

أهمية معرفة الذات:

يوجد جانب آخر لبعض معرفتنا الذاتية والذي أدى بالفلاسفة للاعتقاد أنَّها مميَّزة: وهي أنَّها موثوقة جداً؛ إذ إنَّ معرفة أنَّنا نتألم أكثر موثوقية من المعرفة التي يمتلكها أي شخص آخر عن هذا الموضوع؛ فإذا قال صديقك إنَّه يتألم، فلا جدوى من الشك بالأمر لأنَّه مصدر معرفي يؤكد على ذلك، ولديه مصداقية معرفية عالية بهذا الأمر أكثر من أي شخص آخر، وهذه ميزة السلطة المعرفية لمعرفة الذات، فما الذي يجعل امتلاك هذه الميزة أمراً ذا قيمة؟

الفلاسفة الذين يظنون أنَّنا نمتلك شيئاً مميزاً عن بعض معرفتنا الذاتية، قد وضعوا في أذهانهم بعض المتغيرات إما من التفرد الشخصي الأول أو السلطة المعرفية، أو مزيج من هاتين الميزتين، واستخدموا مصطلح "امتياز الوصول" (privileged access) للحديث عن مثل هذا التخصص، وهذه مجرد مسألة امتلاك معرفة موثوقة للحقائق عن عقل الفرد عبر وسائل فردية فريدة.

يختلف الفلاسفة فيما إذا كان لدينا امتياز المعرفة على الإطلاق، وإذا كان الأمر كذلك، فكم لدينا منه؟ تاريخياً، كانت الإجابة الأكثر شهرةً هي أنَّ لدينا مثل هذا الوصول إلى بعض الحقائق عن عقولنا، وذلك عندما يتعلق الأمر بالأحاسيس التي يمر بها الشخص حالياً، كالألم، أو بعض المواقف التي نمتلكها، ولا يوجد عائق، من حيث المبدأ، لامتلاكنا امتياز الوصول إلى مثل هذه الحالات.

لكن في الآونة الأخيرة، كان يوجد شك متزايد فيما يتعلق بامتياز الوصول، وتتنوع أسباب هذا الشك التي يقدمها كل من الفلاسفة وعلماء النفس، وهي دقيقة ومعقدة في بعض الأحيان؛ إذ يقدِّم بعضهم، على سبيل المثال، بيانات تجريبية من تجارب علم النفس الاجتماعي التي يُزعَم أنَّها تثبت أنَّ الناس يخطئون روتينياً في فهم محتويات عقولهم، بينما يركز بعضهم على الادعاءات الميتافيزيقية عن طبيعة مواقفنا، بحجة أنَّه، بالنظر إلى ماهية هذه الحالات، فإنَّنا نعجز عن امتلاك امتياز الوصول إلى معظمها.

لن نقوم هنا بالتحقيق فيما إذا كان لدينا امتياز الوصول إلى بعض الحقائق التي في أذهاننا؛ بل ما هي القيمة التي نفقدها، إذا لم يكن لدينا مثل هذا الامتياز؛ وبعبارة أخرى، ما هي القيمة التي نفشل في امتلاكها إذا كان المشككون في امتياز الوصول على صواب؟

شاهد بالفيديو: 10 عادات تُدمّر الذات والثقة بالنفس

السيطرة على الحقائق:

إذا افتقرنا إلى امتياز الوصول إلى الحقائق التي في أذهاننا، فسنفقد شيئاً ذا قيمة كبيرة من حياتنا المعرفية، وبشكل أكثر تحديداً، قد نفشل في امتلاك نوع من التحكم القوي بالحقائق المتعلقة بأذهاننا، والتحكم الذي يساعدنا على تحقيق أهدافنا بفاعلية.

ولدعم هذا الادعاء، فلنقم بتجربة ذهنية؛ تخيَّل مستقبلاً يكتشف فيه علماء الأعصاب طريقة لزرع شريحة في دماغك تتمثل وظيفتها الوحيدة في تزويدك بمعلومات عن محتويات عقلك، ودعونا نطلق على هذه الشريحة اسم "سوبر سيري" (Super Siri)، والآن اسأل "سوبر سيري" عما إذا كنت تظن أنَّها تمطر بالخارج أو تخشى أن تُراقَب أو تأمل أن تفوز باليانصيب، وتقدِّم "سوبر سيري" رداً: "نعم، أنت تفعل"، أو "لا، أنت لا تفعل".

على عكس برنامج "سيري" (Siri) الذي على الهاتف، فإنَّ "سوبر سيري" موثوقة جداً؛ إذ إنَّها تقدم حقائق باستمرار عن عقلك عندما تطرح عليها سؤالاً، وأنت تعلم أنَّها موثوقة جداً، ولكنَّ المشكلة هنا هي: تجعل "سوبر سيري" أيضاً هذه المعلومات متاحة للآخرين، ومن ثمَّ مع القليل من الجهد، يمكن للآخرين تعلُّم الحقائق نفسها بالطريقة نفسها التي تتعلمها.

إنَّ امتلاك معرفة دقيقة جداً للحقائق عن عقلك عبر "سوبر سيري" يتضمن امتلاك معرفة ليست ذاتية بشكل فريد؛ وهذا لأنَّ الآخرين قادرون على استخدام "سوبر سيري" أيضاً لمعرفة الحقائق ذاتها عن عقلك التي تتعرف إليها عبر هذا الجهاز؛ ولهذا السبب، يبدو أنَّك ستتخلى عن قدر كبير من السلطة على مثل هذه الحقائق.

فبدلاً من أن يضطر الآخرون إلى الاعتماد عليك؛ أي على سلوكك أو أقوالك، لمعرفة ما يدور في ذهنك، يمكنهم بسهولة التحقق من "سوبر سيري"؛ لذلك مع أنَّه قد يكون لديك معرفة آمنة جداً عبر "سوبر سيري"؛ فإنَّ الثمن هو أنَّك ستتخلى عن قدر كبير من السيطرة على هذه الحقائق إذا كانت "سوبر سيري" هي طريقتك الوحيدة للتعرف إليها.

وبنفس الطريقة، تخيَّل أنَّ "سوبر سيري" هي معرفة ذاتية بشكل فريد؛ وذلك لأنَّها لا تجعل معلوماتها متاحة للعامة، لكنَّ المشكلة الآن أنَّ "سوبر سيري" غير معتمَدة كثيراً لمعرفة الحقائق عن ذهنك، ومن ثمَّ لا تمنحنا نوع المعرفة الآمنة التي سنحصل عليها إذا كان لدينا وصول مميَّز، وإذا كان الأمر كذلك، فستكون لدينا سيطرة أقل على الحقائق الهامة مما لو كان لدينا طريقة أكثر موثوقية للتعرف إليها.

يرجع ذلك إلى أنَّه من المحتمل أن يتعلم الآخرون عن مثل هذه الحقائق من خلال وسائل ثالثة بديلة، وهي الوسائل التي توفر لهم معرفة آمنة إن لم تكن أكثر أماناً بمثل هذه الحقائق، وبقدر ما يقف الآخرون في موقف معرفي قوي - إن لم يكن أقوى - فيما يتعلق بمثل هذه الحقائق، فإنَّ سيطرتنا على مَن يحصل ومَن لا يتعلم عن مثل هذه الحقائق ستكون محدودة بدرجة أكبر.

وإذا تضاءل عنصر التحكم الذي أشرت إليه بسبب عدم استيفاء الميزة الشخصية الأولى الفريدة أو ميزة السلطة المعرفية، فمن الواضح أنَّ مثل هذا التحكم سينخفض ​​إذا كانت الوسائل التي نعرف من خلالها، تفتقر عقولنا إلى هاتين الميزتين.

تقدِّم "سوبر سيري" أفكاراً عما هو ذو قيمة بامتلاك امتياز الوصول، ويُعتقد أنَّ امتياز الوصول ذو قيمة؛ وذلك لأنَّه ضروري لامتلاك نوع معين من التحكم القوي بمحتويات أذهاننا، وهو التحكم الذي يعني القدرة على إبقاء حقائق معينة عن أذهاننا سرية أو نفصح عن حقائق معينة لمن نختارهم، وهذا التحكم القوي يأتي فقط مع امتياز الوصول.

شاهد بالفيديو: 7 خطوات لبلوغ الرضا عن الذات

امتياز الوصول إلى الحقائق:

عندما نملك امتياز الوصول إلى بعض الحقائق، سنكون ذوي سلطة معرفية في ذلك الوقت، ومن المرجح بقاء تلك السلطة أيضاً؛ فنحن فقط مَن نتمكَّن من استخدام امتياز الوصول لنحصل على تلك الحقائق، ويمكن للآخرين أن يعتمدوا علينا للحصول على معرفة تلك الحقائق التي نملك امتياز الوصول إليها.

وهنا تكمن الأهمية؛ إذ يُعَدُّ هذا التحكم هاماً جداً بالنسبة إلينا، فلن نقدر على تحقيق مرادنا إلا إذا تحكَّمنا بمعلوماتنا الخاصة؛ ففي غياب هذا التحكم، لن تكون لنا فرصة؛ لذا سيستحيل على لاعبي "البوكر" أن يراوغوا إن لم يتمكنوا من السيطرة على الحقائق المتعلقة في أذهانهم، ولن يكون لدى معلمة الرياضيات فرصة أكبر لتحفيز طلابها الضعفاء على التعلم إن أدرك الطالب بأنَّها تظن أنَّه غير مجتهد.

وربما تظن أنَّ هذا التحكم ضروري لمجرد أنَّه يزوِّدنا بنوع من الخصوصية فيما يتعلق بالحقائق الذاتية، لكن توجد حالات يُعَدُّ فيها تزويد الآخرين بمعرفة موثوقة بأفكارنا أمراً هاماً لتحقيق هدف معين؛ إذ يرى الشخص الذي انفصل عن شريكه، على سبيل المثال، صعوبة في قدرته على إبلاغه أنَّه ما يزال يريد أن يكون معه؛ فإذا لم يتمكن من إيصال مثل هذه المعرفة الآمنة إليه، فمن غير المحتمل أن يعودا معاً على الإطلاق.

ونميل نحن البشر بطبيعتنا إلى امتلاك الأهداف، وامتلاك حق الوصول المميَّز يجعل من المرجح أنَّنا سنكون قادرين على تحقيق أهدافنا؛ فإذا كانت تقنية "سوبر سيري" التي ذكرناها آنفاً هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها معرفة ما يدور في أذهاننا، فعندئذٍ سيكون لدينا سيطرة أقل على الحقائق المتعلقة بعقولنا مما لو كان لدينا امتياز الوصول إلى هذه الحقائق، ومن ثمَّ سنكون أقل نجاحاً.

إقرأ أيضاً: إدارة الذات واتخاذ القرارات في المواقف الضاغطة

في الختام:

لقد ركزنا إلى حدٍ كبيرٍ على ما قد يراه بعض الناس على أنَّه حقائق تافهة نسبياً عن عقولنا، مثل الحقائق عن أحاسيسنا وبعض المواقف، لكن لاحظ أنَّ هذه الحالات تحدد جزئياً سبب تصرفنا بالطريقة التي نتصرف بها، وأفعالنا هي التي تلقي الضوء على نوعية الأشخاص التي نكون عليها.

وبالنظر إلى هذا، إذا كان لدينا حق الوصول المميز إلى الحقائق عما نرغب فيه ونريده، فإنَّ هذه المعرفة تزيد من احتمال قدرتنا على تحديد سبب تصرفنا بالطريقة التي نتصرف بها، ويمنحنا الوصول المتميز نوعاً من السيطرة المعرفية على الحقائق عن عقولنا التي تؤثر تأثيراً كبيراً في نوعية شخصيتنا.

هذه الحقائق هي الحقائق الأكثر خصوصية التي نمتلكها، وإذا كان المشككون محقين بشأن افتقارنا إلى امتياز الوصول، فإنَّنا سنفشل في امتلاك شيء له قيمة كبيرة، وهذا بحد ذاته ليس سبباً للاعتقاد بأنَّنا نتمتع بامتياز الوصول، ولكنَّه سبب للاهتمام بما إذا نتمتع به أم لا.

المصدر




مقالات مرتبطة