مزاج القائد: أداة التحكم بالأداء

قال أحد المشاركين في ورشة عمل حول القيادة رداً على نقاشٍ حول تأثير مزاج القائد في أداء الفريق كلاماً واقعيا صادراً من أعماق قلبه: "لا يمكنني أن أفهم كيف يتوقعون مني أن أكون في مزاجٍ جيد لمدة ساعةٍ كاملة". لقد كانت هذه الفكرة من بين الأفكار التي أُخِذَت في الحسبان. ولكنَّ السؤال هو هل يمكنك أنت بصفتك قائداً اتباع هذه الفكرة؟ تشير جميع الأبحاث التي أُجريت على أداء الموظفين إلى أنَّه لا يمكنك ذلك.

 



ثمة مفهومٌ في فرنسا يُدعى "التزام النبلاء" (Noblesse oblige) وهو يعني بشكلٍ عام أنَّ الثروة، والسلطة، والنفوذ تترافق مع مسؤولياتٍ اجتماعيةٍ محددة. بمعنى آخر يترافق الواجب مع المسؤولية. حيث تُعدُّ فرصة قيادة فريقٍ من الناس امتيازاً بالنسبة لنا ولكنَّ هذا الامتياز يترافق مع العديد من المسؤوليات التي يؤكد خبراء القيادة أنَّ أغلبها يتعلق بالتحكم في المزاج. حيث يذكُر "دانييل جولمان" (Daniel Goleman) في إحدى مقالاته المنشورة في مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو" (Harvard Business Review) والتي تحمل عنوان "القيادة المُنتِجة" (Leadership That Gets Results) أنَّ ثمة بحثاً يُظهر أنَّ حوالي 30% من النتائج المالية للشركات (والتي تُقاس من خلال المؤشرات الرئيسة لأداء العمل مثل نمو العائدات، والعائد على المبيعات، والكفاءة، والربح) تَتحدَّد من خلال المناخ السائد في المنظمة. إذاً ما هو العامل الرئيس الذي يتحكم بالمناخ السائد في المنظمة ؟ والجواب بسيط، إنَّه القائد. ففي كتابه الذي يحمل عنوان "القيادة البدائية: إدراك مدى قوة الذكاء العاطفي" (Primal Leadership: Realizing the Power of Emotional Intelligence) يذكر "جولمان" أن ما بين 50-70% من نظرة الموظفين إلى المناخ السائد في منظماتهم تحددها أفعال قادتهم وسلوكاتُهم. حيث ينشئ القائد البيئة التي تحدد مزاج الأشخاص في المكتب، ومزاجهم هذا يؤثر بدوره في إنتاجيتهم ومستوى مشاركتهم.

النشوة أم الألم:                  

تذكَّر المرات التي كنت تقود فيها سيارتك عائداً إلى المنزل والسرور يملأ قلبك وأنت تستذكر ذاك اللقاء الإيجابي مع أحد القادة المتفائلين والداعمين بعد ظهر يوم الخميس والذي امتدح خلاله أداءك. كم جعلك ذلك تشعر بشعورٍ رائع وكم كنت متحمساً للنهوض من سريرك في صباح يوم الأثنين الآتي والعودة إلى مكتبك وتقديم أفضل ما عندك. إنَّ هذه هي النشوة التي تولدت عندك ومنحتك طاقةً متجددة لكي تكون أكثر إنتاجيةً وتبرز مواهبك في العمل. فكِّر من جهةٍ أخرى في نقيض النشوة وهو الألم أو الشعور بالمرارة. إنَّ هذا ما تُطلق عليه "سوزان سكوت" (Susan Scott) في كتابها "نقاشاتٌ حادة: الوصول إلى النجاح في العمل وفي الحياة، محادثةٌ في كل مرة" (Achieving Success at Work and in Life، One Conversation at a Time) اسم "الأثر العاطفي". وهو الشعور الذي يرافقك بعد أن تتعرض لانتقاداتٍ لاذعة من أحد القادة ذوي المزاج السلبي. كيف يؤثر ذلك في إصرارك على تجاوز الصعوبات التي تواجهك في أثناء مشروعٍ ما، وبقاءك مهتماً بالعملية، والاستمرار في تقديم أفضل ما لديك لهذا الشخص؟

العدوى والنتائج:

إنَّ كتب القيادة مليئة بالدراسات التي تثبت التأثير الذي يتمتع به مزاج القائد. حيث تتضمن إحدى هذه الدراسات 62 مديراً تنفيذيَّاً بالإضافة إلى فِرَق الإدارة العليا الخاصة بهم وتظهر أنَّه كلما كان الفريق التنفيذي أكثر تفاؤلاً، ونشاطاً، وحماسةً كلما كان أفراده أكثر تعاوناً مع بعضهم وكلما حققت الشركة نتائج أفضل. كما تظهر الدراسة أيضاً أنَّه كلما طالت المدة التي يقود الشركةَ خلالها فريقٌ تنفيذيٌّ لا ينسجم أعضاءه بعضهم مع بعض كلما كانت عائدات السوق للشركة أسوأ. ربما ليس ثمة مجالٌ يُعدُّ فيه مزاج القائد مهماً أكثر من مجال الخدمات الذي يمكن أن يؤثر الموظفون الذين يتمتعون بمزاجٍ سيءٍ على العمل فيه بشكلٍ سلبيٍّ من دون أدنى شك. فثمة دراسةٌ من بين مجموعة كبيرة من الدراسات التي أُجريت في هذا السياق تتضمن 53 مدير مبيعات مسؤولون عن منافذ للبيع بالتجزئة ويديرون مجموعاتٍ تتراوح أحجامها من 4 وحتى 10 أشخاص. حيث وجدت هذه الدراسة أنَّه عندما يكون المديرون في مزاجٍ متفائلٍ وإيجابي فإنَّ مزاجهم هذا ينعكس على موظفيهم مؤثراً بشكلٍ إيجابي في أداءهم ومؤدياً إلى زيادة المبيعات. يمكننا جميعاً أن نستمد الإلهام من منظماتٍ مثل "ستاربكس" (Starbucks) التي تعطي اهتماماً كبيرة لتأسيس مناخٍ إيجابيٍّ للموظفين والذي يضمن بدوره أن تكون تجربة الزبائن مع المقهى تجربةً ممتعة وأن تتكرر زياراتهم إليه. كما تظهر عبارة "نحن نركز دائماً على موظفينا" والموجهة إلى الموظفين الجدد في مكانٍ بارز على موقع الوظائف الخاص بالشركة.

عندما نبحث قليلاً يمكننا أن نرى بوضوح أنَّ المزاج السيء للقائد هو مصدرٌ للعدوى، والمقصود هنا عدوى بالعواطف تنتشر تدريجياً عبر جميع الأشخاص في الوحدات العاملة. يمكننا تعلُّم الكثير من الأمور من نهج القيادة المُطبَّق في المجال العسكري. تخيل تأثير قائدٍ "عاجزٍ"، أو "قلقٍ"، أو "غاضب" في معنويات فريقه وفي قوتهم؟ وماذا عن القائد الذي يعاني من الشك؟ إنَّ "هاينز هوف" (HA Hopf) هو أفضل من تحدث عن ذلك حينما قال: "إنَّ التردد ينتقل من شخصٍ إلى آخر مثلما تنتقل العدوى". كما يمكن لذلك أن يسبب شعوراً بالوهن والإدمان في المنظمات، فالموظفين يتبعون الحالة الذهنية لقائدهم.

التعارض يعني عدم القدرة على التنبؤ:

يمكننا القول بأنَّ الشعور بمزاجٍ سيءٍ بين الحين والآخر أو التململ بين الحين والآخر بسبب يومٍ لم تجرِ فيه الأمور على ما يرام أمرٌ يمكن غفرانه. غالباً ما نشير إلى هذا النوع من السلوك بعبارةٍ من قبيل: "إنَّه لا يستطيع التحكم بمزاجه في بعض الأحيان ولكنَّه إنسانٌ رائع"، أو "لديه طريقة تفكيرٍ رائعة، ولكن لديه ميلٌ إلى الصراخ في وجوه الآخرين عندما يشعر بالضغط" وكأنَّ كون الشخص رائعاً يمكن أن يكون عذراً لمزاجه السيء. قد يكون من الضروري وجود ذلك في بعض البيئات، ولكنَّ الرسالة التي يرسلها هذا السلوك إلى الموظفين هي رسالةٌ متضاربة وهي صفةٌ غير مرغوبٍ فيها لدى أيِّ قائد. فنحن نريد أن يكون من الممكن التنبؤ بسلوك قادتنا لأنَّ القدرة على التنبؤ بسلوكات الآخرين تعطينا الشعور بالراحة والأمان وتعزز الثقة لدينا. بينما يكون القادة الذين لا يمكن التنبؤ بسلوكاتهم مصدراً للشعور بالقلق وحتى الخوف في بعض الأحيان وكلاهما يؤثران بشكلٍ سلبي في الأداء والإنتاجية. بالطبع ليس هناك قائدٌ يخرج من المصعد في الصباح وقد نوى أن ينشر المزاج السيء من حوله، ولكن من الطبيعي أن يحدث في بعض الأيام ما يمكن أن يعيق حتى بعضاً من أفضل الأشخاص بيننا. لنكن واضحين، فأنا لا أدافع عن أولئك القادة المتصنِّعين الذين يبتسمون ابتساماتٍ كاذبة ويُظهرون بهجةً مزيفة. حيث يتعرف الموظفون على أي ابتسامةٍ مزيفة ويستطيعون بكل مهارةٍ أن يلاحظوا أنَّ القائد يعاملهم وكأنَّهم أطفال.

ما المزاج المناسب؟

ليس ثمة بالطبع حلٌّ بسيط لإدارة العواطف ساعةً بساعة في أغلب الظروف الصعبة التي يتوجب على القادة العمل فيها واتخاذ القرارات. ولكن يمكن الاستعانة بالنصيحة التي تقدمها لنا إحدى المقالات الأخرى المنشورة في مجلة "هارفرد بيزنس ريفيو" والتي تحمل عنوان "القيادة البدائية: المحفِّز الخفي للأداء الرائع" (Primal Leadership: The Hidden Driver of Great Performance). أولاً وقبل كلِّ شيء من المهم ملاحظة أنَّ مزاج القائد له التأثير الأكبر في الأداء عندما يكون متفائلاً. ولكنَّه يجب أن يكون أيضاً متوافقاً مع مزاج الأشخاص المحيطين به. يطلق "جولمان" وآخرون على هذه الدينامية اسم التناغم. صحيحٌ أنَّ المزاج الجيد يحفز الأداء الجيد، ولكن لا معنى لأن يشعر القائد بالابتهاج كطائرٍ عند الغروب إذا كانت المبيعات تنخفض والشركة في طريقها نحو الانهيار. فالمديرون الفعالون يُظهرون المزاج والسلوكات التي تتناسب مع الحالة التي يمرون بها ويضيفون إليها جرعةً صحيةً من التفاؤل. فهم يحترمون ما يشعر به الآخرون حتى وإن كان ذاك الشعور شعوراً بالكآبة والهزيمة، ولكنَّهم يتحلون أيضاً بما يجعلهم يمضون قدماً متسلحين بالأمل والفكاهة. فالثلاثي الفعال هنا هو "التفاؤل"، و"الأمل"، و"الفكاهة". وكما يقول أحدهم فإنَّ القادة هم تجَّار الأمل.

خطوات الوصول إلى أداءٍ أفضل:

هل ثمة توصياتٌ محددة؟ يؤثِّر كلٌّ من مزاجك وسلوكك في الأداء. كيف تعمل على الوصول إلى سلوكاتٍ قياديةٍ متناسقةٍ وذكيةٍ عاطفياً تعزز النجاح عندك وعند الآخرين؟ إليك أيضاً بعض الاقتراحات الأخرى التي يمكن أن تحسِّن أداءك وأداء فريقك:

  1. عدل سلوكك في أثناء الاجتماعات:

فكِّر مليَّاً بسلوكك في أثناء الاجتماعات والذي يكون هو دائما بمثابة "قدرٍ للعواطف". هل تستخدم نبرةً إيجابيةً منذ بداية حديثك؟ هل تفرض "إيقاعك" اعتماداً على شعورك اللحظي؟ حاول أن يكون مزاجك هادئاً ومسترخياً وأن يكون نهجك متناسقاً وإيجابياً.

 

اقرأ أيضاً: 6 خطوات لتتقن حضور اجتماعات العمل

 

  1. ابحث عمَّا هو جيِّدٌ في الآخرين:

ذكَّرنا الروائي ورجل الدولة الفرنسي "أندريه مارلو" (Andre Malraux) قبل وقتٍ طويل من رواج كتب القيادة أنَّ من بين أحد الأهداف الرئيسة للقائد هو أن يجعل الآخرين يتعرفون على الأشياء الرائعة التي تكمن داخلهم. كن معروفاً في منظمتك بأنَّك الشخص الذي يراعي دائماً ما هو مناسب في تعامله مع الآخرين. فهذا يعزز النوايا الحسنة ويُعدُّ جيداً للعمل.

  1. اقرأ المناخ:

هل لديك قراءةٌ جيدة للمناخ السائد في وحدتك أو منظمتك؟ وهل يمكنك الشعور بدقة بطبيعة الأجواء العاطفية السائدة؟ هل هي متفائلة؟ هل هي مفعمةٌ بالنشاط؟ هل هي مكتئبةٌ أو حزينة؟ هل يبدو الموظفون قلقين بعض الشيء وحذرين نوعاً ما في حضورك؟ هل يمكنك سؤال أحد معاونيك الموثوقين إذا ما كانت الأجواء تتغير عندما تكون بعيداً؟

  1. كُن لطيفاً ومتعاوناً:

إذا كنت قائداً ناشئاً وكان العمل على التمتّع بشخصيةٍ جميلة ليس من بين أولوياتك فكر في بذل بعض الجهود لصقل هذه الميزة الثمينة. فمن شبه المستحيل أن يكون لديك حضورٌ تنفيذيٌّ من دون ذلك. وكن متعاوناً من خلال مشاركة الأفكار والطرائق المختصرة فهذا مثالٌ آخر عن كيفية تأثير المزاج في الإنتاجية.

  1. كُن جذَّاباً من الناحية العاطفية:

في السياق نفسه ركز على أن تكون جذَّاباً من الناحية العاطفية. حيث يرتبط هذا بمفهوم "القيادة المتناغمة". فالقادة المتناغمون هم القادة الذين لديهم القدرة على التحكم بعواطفهم وعواطف الآخرين بأسلوبٍ يحفز فرقهم ومنظماتهم على تحقيق النجاح. يوضح كلٌّ من "ريتشارد بوياتزيس" (Richard Boyatzis) و"آني ماكي" (Annie McKee) في كتابهما "تجديد نفسك والتواصل مع الآخرين من خلال العقلانية، والأمل، والعطف" (Resonant Leadership: Renewing Yourself and Connecting with Others through Mindfulness، Hope and Compassion) أنَّ القادة المتناغمين يؤسسون أجواءً عاطفيةً إيجابية ويعملون على إشراك الموظفين وإلهامهم. وكما يشير عنوان كتابهما، فإنَّ هؤلاء القادة يتمتعون بثلاث صفاتٍ أساسية هي: العقلانية، والأمل، والعطف. اسعَ إلى جعل هذه الصفات جزءً من ترسانتك بصفك قائداً.

  1. تحكَّم بعواطف التغيير:

كُن عقلانياً بشكلٍ خاص في طريقة إدارتك للعواطف إذا كانت منظمتك تشهد تغييراً، فطريقة تعاملك مع العواطف في خلال هذه الأوقات الحساسة يمكن أن تساعد عملية التغيير أو تعيقها. ومن المعلوم أنَّه إذا كانت مقاومة التغيير مقاومةً عاطفية فإنَّها تكون من أشكال المقاومة التي يصعب التغلب عليها. فعندما تكون قائداً يتعامل مع مبادرةٍ للتغيير لا تتجاهل العواطف التي ترافق عملية التغيير. عدل مزاجك وتحكم بعواطفك وإلَّا فإنَّها ستتحكم بك.

إذا كنت تشعر بالخجل من  التعامل مع مفهوم العواطف في مكان العمل بما في ذلك الحديث عن التعاطف والعطف، أو التعامل مع الحدس، أو مناقشة الذكاء العاطفي فأنا أنصحك بإعادة التفكير بعقليتك هذه. حسِّن بديهتك واصغِ إلى الشكوك التي تشير إلى أنَّ سلوكك وأفعالك تتسبب في بعض الأحيان بأثرٍ مضاعفٍ على الآخرين. إنَّ هذه الشكوك هي تلك الهمسات التي نسمعها عندما نحاول تركيز انتباهنا فقط على "العقلانية". إنَّ الحدس هو أداةٌ ثمينة تستحق ضمَّها إلى حقيبة معداتنا. لقد عبَّر أينشتاين عن المسألة على أفضل نحوٍ هندما قال: "إنَّ العقول التي تمتلك حدساً هي هبةٌ مقدسة والعقل الرشيد هو خادمٌ وفي. لقد أسَّسنا مجتمعاً يعظم الخادم وينسى الهبة".

بصفتك قائداً فإنَّ بين يديك الجهاز الذي يمكنه التحكُّم بحجم مشاركة الأشخاص الذين يعملون في منظمتك. يشبه هذا كونك مخرجاً في فلم. يقول "ويليام فريدكن" (William Friedkin) المخرج والمنتج والسينمائي الأمريكي: "أول عملٍ للمخرج هو ضبط المزاج بحيث يتمكن الممثل من أداء عمله". إنَّ المزاج المتفائل للقائد هو أشبه ما يكون بالأكسجين الذي يُغني دماء الأتباع، إنَّه ضخُّ دماءٍ جديدةٍ في شرايين المؤسسة. وقد يكون هذا إحدى الإسهامات الأكثر فعالية التي يمكنك تقديمها بصفتك قائداً.

 

المصدر: هنا 




مقالات مرتبطة