متلازمة ديوجانس (Diogenes): تعريفها، وأسبابها، وأعراضها، وطرق علاجها

أصبحنا نعيش في مجتمع غير متوازن حقاً؛ إذ يميل أشخاصه إلى اعتماد التطرف في كل شيء وتغييب التوازن والسلام، فبينما تجد أناساً ماديين جداً، تجد أيضاً هؤلاء الزاهدين بطريقة مَرَضية، فهم لا يعترفون بالنظافة الشخصية ويجدونها ترفاًَ وبذخاً لا مسوِّغ له، ولا يثقون بأهمية العلاقات الإنسانية بل يجدونها مضيعة للوقت والجهد، فيُدمنون العزلة والانطوائية، ولا يشعرون بالخجل مطلقاً من روائحهم الكريهة ومن سلوكاتهم غير اللائقة وغير المنطقية، ويسوِّغون كل تصرفاتهم بقولهم أنَّهم من أنصار الميل إلى الطبيعة في كل شيء، جاعلين من الحرية هدفهم الأسمى، وصولاً إلى حد التحرر من القيم والأخلاقيات العامة، فهم غريبو الأطوار، ويسببون الكثير من الإشكالات لهم وللمُحيطين بهم.



يُعدُّ مصابو متلازمة ديوجانس مثالاً للاستسلام المطلق، وانعدام القدرة على التأقلم مع مجريات الحياة، ونموذجاً معاكساً للفطرة الإنسانية السليمة القائمة على الاختلاط مع الآخر.

لا يعترف أولئك بتكريم الله للإنسان، ولا يجدون أنَّ هناك تمييزاً حقيقياً له عن سائر المخلوقات الحية، مما يجعلهم لا يرفعون سُقُف طموحاتهم وأهدافهم في هذه الحياة، ويرتضون بأقل الأمور ويضعون أنفسهم في بيئات لا تتناسب مطلقاً مع إنسانيتهم وتفردهم.

متلازمة ديوجانس؛ تعريفها، وأعراضها، وعلاجها؛ مدار حديثنا خلال هذا المقال:

ما هي متلازمة ديوجانس؟

هي اضطراب سلوكي يُصِيب الرجال والنساء على حدٍ سواء، وغالباً ما تظهر أعراضه خلال مرحلة منتصف العمر، وتزداد فرصة الإصابة بهذا الاضطراب مع التقدم في العمر؛ إذ يميل المصاب بمتلازمة ديوجانس إلى الانعزال والانطوائية ويهمل نظافته الشخصية وصحته بطريقة مبالغ فيها، ولا يُعير انتباهاً لرائحته الكريهة، ولكمية الجرذان المنتشرة في بيته، ويرفض الاعتراف بمرضه، كما أنَّه يرفض تقديم المساعدة والدعم له.

ما هو أصل متلازمة ديوجانس؟

  • تعود جذور متلازمة ديوجين إلى الفيلسوف الإغريقي ديوجانس الكلبي، الذي كان من أكثر الفلاسفة إثارة للجدل في العصر اليوناني.
  • اتبع ديوجانس خطى سقراط، كما أنَّه سعى جاهداً لكي يتعلم الحكمة على يد الفيلسوف انتيثينيس، ومن ثم أصبح من أنصار المدرسة الكلبية ودافع عن مبادئها وأفكارها.
  • تميل الفلسفة الكلبية إلى الاندماج مع الطبيعة إلى أقصى درجة، والسعي إلى الحياة بطريقة بسيطة ومتقشِّفة، ونبذ كل مظهر من مظاهر الترف والغنى والجاه، وتسعى إلى اللهث وراء الحرية المطلقة، بكيفية يكون الإنسان فيها متحرراً تماماً من كل الارتباطات الدنيوية، وبعيداً كل البعد عن رغباته، ولا تمانع هذه الفلسفة بكسر كل القيم الأخلاقية والدينية التي تعدُّ قانوناً عاماً في المجتمع؛ إذ كان ديوجانس على سبيل المثال يمارس سلوكات مستهجنة جداً في الشارع وعلى مرأى من الناس؛ وحجته في ذلك كانت بأنَّه طبيعي وبسيط جداً وعديم الخجل كالكلب، فهو يجد أنَّ هذا الأمر من أهم ممارسات تعزيز الذات المطلقة.
  • من جهة أخرى، كان ديوجانس زاهداً في كل متع الحياة، ويسلك سلوكات الكلاب، فيرى أنَّ الإنسان والكلب متشابَهين إلى حدٍّ كبير، ولا يعترف بتفوق الإنسان وتكريمه على سائر المخلوقات الحية، وكان يمشي حافي القدمين، ولا يخجل من التبول على الناس من باب السخرية على مَن يزعجه، ويدعي أنَّه صديق وفيٌ جداً كالكلب، ولكنَّه لا يتوانى عن إيذاء مَن يؤذيه.
  • لم يكن ديوجانس يهاب الحُكَّام، بل كان يكره أصحاب السلطة ويجد أنَّهم منافقون وبعيدون عن الصدق والوضوح، وكان يجد أنَّ القصور من مظاهر المرض النفسي والغنى غير الصحي، فكان يواظب على العيش في برميل خشبي، رافضاً السكن في شقة.
  • اشتهر ديوجانس بسخريته الشديدة من الناس، فكان يدعي عدم وجود رجال حقيقيين، وكان يحمل قنديلاً مضيئاً في يده حتى في وضح النهار، وعندما سُئل عن سبب حمله لذاك القنديل في وضح النهار، قال: "أنا أبحث عن الإنسان الصالح".
  • كان ديوجانس راضياً تماماً عن أسلوب حياته، فعندما أتى إليه ملك مقدونيا "الإسكندر الأكبر" وعرض عليه تلبية أمنية من أمنياته، فرد عليه ديوجانس بالكثير من الثقة: "أريد أن تبتعد عني، فأنت تحجب عني ضوء الشمس، فلا تحرمني ما لا تستطيع منحي إياه".
إقرأ أيضاً: اضطرابات الشخصية: ما هي؟ وما أسبابها، وأنواعها، وأعراضها؟

أعراض متلازمة ديوجانس:

1. عدم الاهتمام بالنظافة الشخصية:

يميل مريض متلازمة ديوجين إلى إهمال ذاته بطريقة مرَضية، فلا يراعي شروط النظافة، فتجد شعره أشعثَ وغير مرتب، وأظفاره طويلة ومليئة بالميكروبات، ورائحته كريهة نتيجة لعدم استحمامه وعدم غسل ثيابه.

2. إدمان اكتناز الأشياء:

يعشق مريض متلازمة ديوجانس الاحتفاظ بكل أغراضه حتى التالف منها، إضافة إلى أنَّه لا يهتم بنظافة منزله، فهو لا يمانع وجود النفايات في المنزل لمدة طويلة، الأمر الذي يحول مكان عيشه إلى مستودع مليء بكل ما يخطر على بال إنسان، مما يحفز الجرذان والحشرات على الإقامة في منزل كهذا، لتوافر كل الشروط غير الصحية فيه.

3. الشك في الآخرين والابتعاد عنهم:

لا يثق مريض متلازمة ديوجانس بالآخرين، ولا يتقبل أي نصائح منهم من أجل تحسين جودة حياته، فهو يعتقد اعتقاداً تاماً أنَّه على صواب.

من جهة أخرى، لا يستطيع مريض متلازمة ديوجانس ممارسة فطرته الاجتماعية بطبيعية؛ بل يميل إلى الانطواء والانعزالية، الأمر الذي يجعل تشخيص المرض في مرحلة مبكرة أمراً صعباً وذلك بسبب إدمان مرضى متلازمة ديوجانس منازلهم وبعدهم عن التواصل مع البشر؛ ولكن لا بد أن يتنبه الجيران في النهاية إلى الروائح المقززة المنبعثة من منزل مريض متلازمة ديوجانس فيسعون إلى مساعدته.

أسباب متلازمة ديوجانس:

1. صدمات نفسية عنيفة:

نحن نتعرض كلنا للظروف الخارجية ذاتها؛ ولكنَّ ردة فعل كل منا مختلفة عن الآخر، وهذا ما يميز الشخص القوي من الضعيف؛ لذا قد يعاني المريض من متلازمة ديوجانس، وذلك جراء الصدمات النفسية المتوالية على مدار حياته، مثل: فقدان حبيب أو أحد أفراد العائلة، أو التقاعد، أو الإدمان، أو الاكتئاب؛ ويزيد احتمال إصابة شخص ما بالمتلازمة نتيجة هشاشته النفسية، وعدم قدرته على التفسير الصحيح لما يتعرض له من مواقف؛ إذ يخفق في رؤية الجانب الإيجابي من الظروف المحيطة به، ويركز على الجانب السلبي فحسب.

2. أسباب عضوية:

قد يكون سبب وجود المتلازمة هو الإصابة بمجموعة من الأمراض العضوية مثل السكتات الدماغية، أو عدم القدرة على الحركة نتيجة لكسر في العظام، أو التهابات شديدة في منطقة المفاصل، وقد يؤدي العامل الوراثي دوراً هاماً في الإصابة بهذه المتلازمة.

3. أمراض نفسية وعقلية:

قد ترتبط الإصابة بمتلازمة ديوجانس بالعديد من الأمراض النفسية والعقلية التي قد أُصِيب بها الشخص؛ مثل: اضطراب الوسواس القهري، والاكتئاب الشديد، وفصام الشخصية، وإدمان الخمر.

إقرأ أيضاً: 7 علامات تدل على الإصابة بالرهاب الاجتماعي

علاج متلازمة ديوجانس:

  • يُعدُّ علاج مرضى متلازمة ديوجين من الأمور الصعبة للغاية بسبب عدم اقتناع المرضى بخطورة أوضاعهم، فهم لا يجدون أنفسهم مرضى على الإطلاق، ولا يكترثون للنصائح المقدمة لهم.
  • يجب الاهتمام بهذه الفئة لكونها تشكل خطراً على نفسها من الناحية الصحية والاجتماعية، وكما أنَّها تشكل تهديداً للبيئة المحيطة بها.
  • يجب إخضاع هذه الفئة إلى العلاج المعرفي السلوكي بهدف تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تتبناها، فقد يكون لديها معتقد بأنَّ الحياة فانية والجنة موجودة في الآخرة فقط، وأنَّ الإنسان غير المبالي بزينة الحياة الدنيا هو الأقرب إلى الله، فيدخل هنا العلاج المعرفي السلوكي ليُبيِّن لهذه الفئة من المرضى أنَّ الحياة جميلة وتستحق العيش، وأنَّ الله قد أنزلنا على الأرض من أجل عبادته مع عدم نسيان نصيبنا من الدنيا، وليس من أجل تحقير أنفسنا والنيل من كرامتها والميل إلى التقشف المفرط والبساطة المفرطة. وقد يكون لديهم معتقد آخر بخصوص أنَّهم ضعيفون وغير قادرين على تحمل المشكلات المتوالية في حيواتهم، وهنا يُصحِّح العلاج المعرفي السلوكي هذا الاعتقاد، ويتناقش معهم المعالج النفسي حول أنفسهم، ويطلب منهم تحديد نقاط قوتهم وضعفهم، ومن ثم يشجعهم على تحسين مهاراتهم؛ لكي تزداد ثقتهم بأنفسهم ومن ثم بالآخر، فيتمكنوا بعد ذلك من إعادة انغماسهم في الحياة، وقوتهم الكامنة. كما يساعدهم المعالج النفسي على اكتساب مهارة التفكير الإيجابي، بطريقة يركزون فيها على الشق المضيء من الظروف التي يتعرضون لها.
  • يجب على الحكومات القيام بإجراءات لحماية ودعم هذه الفئة من المرضى، بطريقة تؤمن لهم فيها مجموعات دعم تقدم لهم الإرشادات الصحية والحياتية، وتراقب وضع المنزل ووضعهم الصحي وتحافظ على النظافة العامة، ويجب التعامل معهم بالكثير من الصبر والهدوء.

الخلاصة:

الهدف المنشود من الحياة هو التوازن؛ لذلك لا تكونوا دنيويين بامتياز، ولا زاهدين بإفراط؛ بل كونوا طموحين واسعوا إلى التحسن والارتقاء بأنفسكم، واستمتعوا بدنياكم وعيشوا لحظاتكم، واعملوا أعمالاً صالحة لكي تفوزوا بجنة الدنيا والآخرة، واحمدوا الله في كل تفصيل من تفاصيل حياتكم، فنِعمه موجودة في كل نفس تتنفسونه وفي كل خطوة تخطونها.

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة