ما هو مقدار وقت الفراغ الذي يتمتع به الناس السعداء؟

سواء أكانوا في أعلى درجات السلُّم الاقتصادي أم أدناها؛ يُعاني عديدٌ من الموظفين - لا سيَّما أولئك المسؤولون عن تربية الأطفال - ضيقَ الوقت، ويتمنَّون أن يحظوا بمزيد منه للقيام بنشاطات ترفيهية أو حتى النوم فقط، وتُشير الأبحاث في الوقت نفسه إلى أنَّ الأشخاص المُنشغلين أكثر سعادةً من أولئك العاطلين عن العمل، سواء أكان انشغالهم هادفاً أم لا.



قليلٌ من وقت الفراغ يُسبب التوتر، وكثيرٌ منه يُصيبُ بالخمول:

صدرت أواخر عام 2018 ورقة بحثية تناولت هذه المقارنة في محاولةٍ لتحديدِ المدة الأنسب لوقت الفراغ، وقام الباحثون بدارسةِ العلاقة بين مقدار "وقت الفراغ" الذي يتمتع به الناس؛ أي الوقت الذي يقضونه مستيقظين ويفعلون ما يُحبون، ومدى رضاهم عن حياتهم.

تضمنت بعض الأمثلة عن النشاطات الترفيهية مثل مشاهدة التلفاز، والتواصل الاجتماعي، والذهاب إلى السينما، وقضاء الوقت مع العائلة، والجلوس دون فعل أي شيء.

توصَّل البحث بعد تحليل البيانات التي شملت حوالي 35000 شخصاً إلى أنَّ درجات تقييم الموظفين لرضاهم عن حياتهم بلغت ذروتها عندما كانوا يحصلون على ساعتين ونصف من وقت الفراغ في اليوم، أمَّا بالنسبة إلى العاطلين عن العمل فقد بلغ المقدار الأمثل من الوقت أربع ساعات و45 دقيقة.

استعرض البحثُ العلاقةَ بين وقت الفراغ والرضى عن الحياة؛ لكنَّه لم يكشِف أيَّ تفاصيل دقيقة عما ينطوي عليه هذا الارتباط، كما تقول "كاسي موغيلنر هولمز" (Cassie Mogilner Holmes) الأستاذة في كلية آندرسون للإدارة التابعة لجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس (UCLA’s Anderson School of Management) وإحدى المشاركين في كتابة البحث الذي لم تتم مراجعته أو نشره في مجلة أكاديمية بعد: "إنَّه أمر شائق؛ لأنَّ العمل على البحث ما زال قائماً".

إنَّ العلاقة التي توصَّلت إليها هولمز وشركاؤها ما تزال قائمةً حتَّى بعد تحديد نطاق الدراسة فيما يتعلق بعمر الأشخاص، والجنس، والعرق، والحالة الأبوية، والمتغيرات الديموغرافية الأخرى، على الرَّغم من أنَّهم لم يحتسبوا كيفية تغيُّر المقدار الأمثل لوقت الفراغ بناءً على هذه العوامل.

كتب الباحثون أنَّ النتائج التي توصَّلوا إليها ستُحدث فرقاً بسيطاً؛ لكنَّه ملموسٌ، مع الأخذ بالحسبان أنَّ هناك عدد كبير من المتغيرات الأخرى التي لها دور في تقييم الناس العام لمدى رضاهم عن حياتهم.

أشارت تجربة قام بها الباحثون إلى تفسيرٍ محتملٍ لهذه العلاقة التي توصلوا إليها؛ فقد طلبوا من المشاركين توصيف ما ستكون عليه الأمور إذا حصلوا على مقدار محدد من وقت الفراغ يوميَّاً، والتعبير عن شعورهم حيال هذا.

تقول هولمز: "ما وجدناه هو أنَّ قضاء وقت فراغ قصير المدة يُصيب الناس بالتوتر، وربَّما هذا أمرٌ بديهيٌّ؛ لكنَّ المثير للاهتمام أنَّ هذا التأثير يختفي ويتلاشى الشعور بالتوتر بمجرد الاقتراب من الحد الأمثل، لكن بعد هذا الحد شعر المشاركون في الدراسة أنَّهم أقل إنتاجية عموماً - بحسب تصريحِهم - وهو ما يُمكن أن يُفسِّر كيف أنَّ امتلاك كثيرٍ من وقت الفراغ قد ينتج منه أثرٌ سلبي".

شاهد بالفديو: كيف تتقن فن إدارة الوقت؟

ليس من الواضح ما يجب فعله بهذه النتائج:

نظراً لأنَّ مقدار وقت الفراغ الذي يمتلكه الأشخاص يتعلق عادةً بمجموعة متنوعة من العوامل كإنجابِ الأطفال أو مدى مرونة جدول الأعمال، وفي ضوء ما سبق تؤكد هولمز أنَّها شاركت بحثها مع طلاب ماجستير إدارة الأعمال في درسها المتعلق بالسعادة، وأعرب أكثر الأشخاص الذين يعانون ضيقَ الوقت ضمن المجموعة أنَّ النتائج طمأنتهم، حيث قالت هولمز: "أظنُّ أنَّ ساعتين ونصف مقدارٌ مُرضٍ، حتَّى لو زاد مقدار وقت الفراغ قليلاً فقد يُعزز هذا شعورك بالرضى عن حياتك".

لقد صرَّح "دانيال هامرميش" (Daniel Hamermesh) الخبير الاقتصادي بجامعة تكساس في أوستن (University of Texas at Austin) الذي يُجري أبحاثاً في مجال استثمار الوقت: "إنَّه من الصعب تبيُّن العلاقة بين وقت الفراغ والرضى عن الحياة؛ فمن جهة بعض البيانات التي جُمِعَت في ورقة البحث - من خلال الطلب من المشاركين تقديرَ وقت الفراغ المتاح لهم - التي حُلِّلَت لاحقاً قد تكون أرقاماً تقديريةً غير موثوقةً، ومن جهة أخرى فمن الصعب أن تُحدِّد بدقة ما يُعَدُّ وقت فراغ وما ليس كذلك؛ فهذا يشمل كلَّ دقيقة نحظى بها خاضعة لاختيارنا بطريقةٍ أو بأخرى، بوعيٍ أو دونه".

على الرَّغم من أنَّ "هامرميش" لم يتفحَّص بدقة البيانات الأساسية في ورقة البحث، فقد قدَّم بعض التفسيرات المحتملة للنتائج مع التنويه بصعوبة التحقق منها؛ فيقول: "لنفترض أنَّ كل شخص من حولي يمتلك ساعتين من وقت الفراغ، ولسبب ما حظي بأربع ساعات؛ لكنَّني لا أمتلك أصدقاء لقضاء هذا الوقت معهم"، إنَّ وقت الفراغ الذي يحظى به الناس من وجهة نظره لا يكون مُرضياً إذا لم تقضِه برفقة الآخرين.

توجد نظريةٌ أخرى تقول إنَّ امتلاك كثير من وقت الفراغ قد يتعارض مع تصوُّر الشخص لذاته؛ فبالنسبةِ إلى الرجل الذي يعيل عائلته، يقول هامرميش: "إذا حظيتُ بكثيرٍ من وقت الفراغ الذي أستطيع استثماره في مشاهدة التلفاز مثلاً، قد أشعر أنَّ ذلك ينتقص من المعنى الحقيقي للرجولة"، قد يكون هذا الشعور مرتبطاً بالضغط الذي يشعر به معظم الناس للظهور بمظهر الأشخاص المنتجين والمرغوبين في حين يتسابقون للحصول على فرصة في سوق عمل تنافسي.

في حين أنَّ الشعور العام بالرضى عن الحياة مقياسٌ تُحدده عدة متغيرات، صرَّح هامرميش بوجود بعض الأبحاث التي تركز تحديداً على كيفية شعور الأشخاص المُجهَدين بالتوتر تجاه الوقت، ويذكر في كتابه "إنفاق الوقت: المورد الأثمن قيمةً" (Spending Time: The Most Valuable Resource): "إنَّ أيَّ تغيير يزيد من وقت الفراغ بعيداً عن العمل، يُقلل من التوتر"، ويُشير إلى أنَّ "استبدال ساعة من العمل بساعةٍ من النوم أو مشاهدة التلفاز من أكثر الأسباب التي تسهم في تخفيف الشعور بالتوتر تجاه الوقت".

تظهر الدراسات أنَّ ثمة عاملاً آخر من المحتمل أن يؤثر في سلامة الناس وعافيتهم، وهو إنفاق المال للحصول على وقت الفراغ، تحديداً  بالنسبة إلى أولئك الذين يستطيعون تحمُّل كلفته، كطلبِ الوجبات السريعة على سبيل المثال بدلاً من الطهي، أو تكليف شخص بتنظيف المنزل بدلاً من القيام بذلك بنفسك.

إقرأ أيضاً: كيف تملأ وقت فراغك بما هو مفيد؟

في الختام:

قد يكون من الصعب معرفة تأثير استثمار الوقت في سلامة الناس وعافيتهم؛ لأنَّ الحصول على أدلة تجريبية يتطلب من الناس تغيير إيقاع حياتهم المعتاد لتحقيق أهداف البحث، ومع ذلك ذكرت هولمز أنَّها مهتمة بدراسة تأثير تسلسل وقت الفراغ وتنظيمه في المتعة التي تصحبه.

فعلى سبيل المثال، هل من الأفضل تجميعه في بداية يومك أم نهايته؟ أم توزيعه على مدار اليوم؟ وعلى صعيدٍ أوسع؛ هل سيكون الناس أكثر سعادةً باعتماد نظام عمل مُوحَّد مكون من خمسة أيام، أم بالعمل أربعة أيام لساعات أطول مقابل عطلة نهاية أسبوع من ثلاثة أيام؟ ماذا بشأن أفضل وقت للذهاب في إجازة؟ وتُشير هولمز إلى أنَّ السعادة قد لا ترتبط بوقت الفراغ المتاح للناس فقط، وإنَّما بتوقيته كذلك.

المصدر




مقالات مرتبطة