ما الذي يمكننا تعلُّمه من ألعاب الفيديو لتعزير تفاعل الموظفين في العمل

حلَّل علماء السلوك المتخصصون في فهم الدافع البشري والعاطفة، لغزَ تفاعل الأفراد في ممارسة ألعاب الفيديو منذ أكثر من عقد من الزمن، وعلى مر السنين، تشاوروا مع المطورين فيما يتعلق بسيكولوجية الألعاب، وكيف يمكنهم فهم وقياس تأثير التجارب التي تشارك وتبهج عملاءهم.



تخيَّل إمكانية استعمال المبادئ نفسها التي تجذب اللاعبين إلى الألعاب الرائجة، مثل لعبة "فورتنايت" (Fortnite)، لجذب الموظفين تجاه العمل وزيادة مشاركتهم واستمتاعهم، لقد كان هذا هو الهدف من ابتكار تقنيات التلعيب التي ظهرت أول مرة قبل سبع سنوات، غير أنَّها لم تفلح في ذلك قط.

لقد حاولت تقنيات التلعيب استنساخ المبدأ الذي تقوم عليه الألعاب؛ أي تحقيق الإنجازات، دون امتلاك فهم حقيقي لما عرفناه مسبقاً، ثم عملت على تطبيقه عشوائياً في مكان العمل مع تحقيق القليل من الفوائد، لكنَّ تطبيق تقنيات التلعيب على هذا النحو أدى إلى إضاعة الفرصة لتطوير نهج تحفيزي عميق مبني على حقيقة سهلة مفادها أنَّ: "الاحتياجات الأساسية والإنجازات التي تثري تجربتنا في الألعاب، هي نفسها التي تساعدنا على التفاعل في العمل".

يمكن لهذه الحقيقة السهلة أن تعزز المشاركة، وتحل مشكلة محيرة تكلِّف الشركات المليارات كل عام؛ إذ ورد في استطلاعات مؤسسة "غالوب" (Gallup) العالمية للوظائف الكبرى لعام 2018، أنَّ 7% فقط من السكان البالغين العاملين في العالم يقومون بعمل رائع، و30% فقط من القوى العاملة الأمريكية يتفاعلون في وظائفهم، وهذه الإحصاءات المخيِّبة للآمال لم تتغير منذ عقود، رغم الجهد الجبَّار والاستثمار من قِبل الشركات في جميع أنحاء العالم.

نحن نعلم بكل تأكيد - بالنظر إلى كيفية لعب الناس للألعاب - أنَّ الناس لديهم دوافع ذاتية لمواجهة التحديات والنجاح والتطور؛ إذاً، لماذا يُظهِر الموظفون مشاركةً ضعيفةً في العمل المأجور، في حين يشاركون بحماسة في الألعاب التي ينفقون عليها المال؟ ثم كيف يمكننا التعرف بشكل أفضل إلى هذا الدافع الجوهري الذي تجلبه الألعاب لموظفينا، حتى نتمكن من توظيفه في أماكن العمل وثقافات الشركات، ونعمل على تطبيقه في مجالات أخرى ذات قيمة في حياتهم؟

هذه هي الأسئلة التي يمكن أن تعزز التفاعل، والجواب يكمن في مبادئ راسخة وعملية في علم النفس البشري.

الاحتياجات الأساسية:

سنحتاج إلى معرفة الاحتياجات الأساسية والشعور بالرضا اللذين يشكلان الأساس لتفاعل اللاعبين في مثل هذه الألعاب؛ فوفقاً للعديد من الدراسات التجريبية في علم نفس الألعاب، فإنَّنا نستعمل إطاراً نفسياً يسمى نظرية التحديد الذاتي، الذي طُوِّر لتقييم دوافع اللاعبين ومشاركتهم، ويظهر باستمرار بوصفه أكبر مؤشر على مستوى المتعة والمشاركة والقيمة التي يحصل عليها اللاعبون.

ويُعَدُّ هذا النموذج نفسه مؤشراً كبيراً للمشاركة والأداء والإنجاز والنجاح في العمل، وبالنسبة إلى قادة الأعمال، فإنَّه يتنبأ أيضاً بالربح الصافي، ولمزيدٍ من  المعلومات عن الأمر، دعونا ابتداءً نرى ما يقوله هذا النموذج.

تكمن في جوهر نموذج نظرية التحديد الذاتي ثلاثة احتياجات نفسية أساسية تنطبق على كل شخص في هذا الكوكب، بصرف النظر عن عمره أو عرقه أو جنسه، وعند تلبية هذه الاحتياجات، تظهر المشاركة والدافع والعافية، بالإضافة إلى مجموعة من النتائج الإيجابية، ويجري تطبيق هذا النموذج في مئات الأبحاث في جميع أنحاء العالم على كل مجال بشري تقريباً، ومن ذلك ألعاب الفيديو والعمل.

وهذه الاحتياجات النفسية الأساسية الثلاثة هي الاستقلالية، والترابط، والإتقان:

  • الاستقلالية هي التجربة التي تجعل منك المؤلف أو البطل في حياتك؛ وهذا يعني أنَّ مهامك اليومية محدَّدة مسبقاً وتعكس قيمك.
  • الترابط هو تجربة الانتماء؛ أي الشعور بأهميتي بالنسبة إلى الآخرين، وأهمية الآخرين بالنسبة إليَّ، وأنَّنا جميعاً نقدِّر الدعم المتبادل.
  • الإتقان هو الشعور بفاعليتك فيما تقوم به، ونجاحك في أداء المهام، والفوز بالتحديات، وتطوُّر الأداء.

عند تطبيقنا لهذا النموذج على ألعاب الفيديو، وجدنا أنَّ ممارسة الألعاب لم تكن مجرد تجربة عابرة من "المرح" التي تدفع إلى المشاركة وتحقيق القيمة؛ وإنَّما حقق الاستقلالية والترابط والإتقان على وجه التحديد.

ألعاب الفيديو والتحفيز:

يستعمل صُنَّاع ألعاب الفيديو الخبرات بحرفية لتلبية احتياجاتنا النفسية الأساسية، فعندما يتعلق الأمر بالاستقلالية، تمنح الألعاب الجيدة اللاعبين فرصاً لا حدود لها لكتابة قصتهم الخاصة، وتوثيق سيرتهم الشخصية، واتباع مسارات مقنعة شخصياً. وحتى عند عدم قدرة اللاعبين على اختيار مهمتهم أو واجبهم المحدَّد، فعادةً ما يكون هناك سبب واضح لأهمية هذه المهمة، بحيث يتمكنون من استلامها والمشاركة عن طيب خاطر، كما تُنظَّم المهام والمكافآت تنظيماً يزوِّد اللاعب بتغذية راجعة، كما لو أنَّ العالم يستجيب لقراراتهم أو أفعالهم.

تتيح ألعاب الإنترنت مثل "ديستني" (Destiny) و"فورتنايت" (Fortnite) للاعبين تشكيل فِرق والعمل معاً لإنجاز المهمات، وكذلك اللعب ضد لاعبين آخرين على بعد آلاف الأميال، وإنَّها ليست مجرد وسيلة تواصل اجتماعي تلبِّي الحاجة الأساسية إلى الترابط؛ بل تشجع آليات اللعبة اللاعبين على العمل معاً وتقديم الدعم المثمر لبعضهم بعضاً.

يُعَدُّ تحقيق الإتقان دعامة أساسية لألعاب الفيديو منذ أيام "صالات ألعاب الفيديو"، عندما كان اللاعبون يضعون الفكة في ماكينات الألعاب مثل "بونغ" (Pong) أو "أسترويدس" (Asteroids)، ويحاولون التقدم قدر الإمكان عبر التحديات الصعبة التي تضعها اللعبة أمامهم.

تتمتع الألعاب الحديثة بتصميم جيد يُشعِر اللاعبين بالتحدي، فضلاً عن اختبار قدرتك - في الدرجة الأولى - على تحقيق النجاح والتطور عبر تطوير الشخصيات والهويات خلال مئات الساعات من اللعب، من دون الحاجة إلى استعمال الفكة كي تلعبها.

شاهد بالفيديو: 6 طرق مبتكرة لرفع معنويات الموظفين

ماذا يعني هذا في بيئة العمل؟

بعد أن ألقينا نظرة على الاحتياجات التي تلبيها هذه الألعاب، كيف يمكن لهذه المبادئ إحداث التزام عميق في مكان العمل، وبناء دافعٍ ومشاركةٍ أعمق مع زملائك في العمل وموظفيك؟ دعونا نستكشف هذا من خلال قصة موظف جديد يدعى "دوغ" (Doug).

يريد "دوغ" ما يريده الجميع، وهو أن يحب عمله؛ إذ تدفعه الحاجة إلى الاستقلالية نحو استكشاف عالم ألعاب الفيديو، وتلبية رغبته في الإيمان بعمله حتى عند قيامه بمهام قد فُرضت عليه، يقول "دوغ" إنَّه يريد أن يؤمن بالغرض من هذا العمل، وأنَّ "مسعاه" جدير بالاهتمام وقيِّم.

كما يريد "دوغ" تقديم رأي ذي مغزى عن كيفية التعامل مع هذه المهمات، لتقديم مدخلات وأفكار شخصية عن مشاريعه وامتلاكه الوسائل اللازمة لتحقيق التطور الوظيفي، وعندما يجب على "دوغ" إتمام مهام أقل متعة، فإنَّه سيحافظ على شعوره بالاستقلالية إذا ما وضَّح له رب العمل سبب أهمية هذا العمل، مع احترام حقيقة أنَّه من الهام أن "يشاركه" في المهمة.

تلبية حاجة "دوغ" الأساسية للاستقلالية، تمنحه الأهمية وتوفر له دافعاً عالي الجودة لأداء عمله بالطريقة نفسها التي تجذبه بها إلى لعبة ممتعة، فعندما يشعر "دوغ" بالاستقلالية، سيكون أكثر تفاعلاً مع مهامه، سواء في العالم الافتراضي أم في مكان العمل الحقيقي.

حتى ولو شعر "دوغ" بسيطرته على حياته المهنية، هل سيشعر أنَّه مرتبط بالآخرين في العمل؟ أم أنَّه ينأى بنفسه في مكتب بعيد يعمل على جداول البيانات، كما لو أنَّه يلعب لعبة لاعب واحد؟ وهل ستكون تجربة مكان العمل التي يمر بها شبيهة بلعبة متعددة اللاعبين، بحيث يمكنه أن يتعاون مع الآخرين للنجاح والازدهار؟ أم أنَّها تجربة لكلِّ شخص بنفسه؟

إقرأ أيضاً: 9 شخصيات يصعب التعامل معها في بيئة العمل

تجربة تلبِّي حاجته الأساسية للترابط في مكان العمل:

تماماً، كما هو الحال في الألعاب، لتحقيق رغبة "دوغ" في الحصول على تجربة تلبِّي حاجته الأساسية للترابط في مكان العمل، كانت هناك حاجة إلى تكوين علاقات اجتماعية ذات مغزى تمنحه الشعور بالاحترام والدعم؛ إذ إنَّ الشركات الأكثر نجاحاً في الوقت الحاضر، هي تلك التي تشكل شبكات مرنة ونشيطة ومستقلة من الفِرق التي تعالج المشاريع معالجة جماعية، كما هو الحال مع الفِرق المشكَّلة في لعبة "كول أوف ديوتي" (Call of Duty) لهزيمة العدو.

هل سيتقن "دوغ" عمله بعد وجوده في فريق متعاون وداعم؟ وهل سيكون "الارتقاء إلى مستوى أعلى" واكتساب قدرات وفرص جديدة في اللعبة، مماثلاً لتلقِّي تغذية راجعة مفيدة وكوتشينغ لمساعدته على التحسن والتطور؟ وهل يواجه تحديات مثالية تسمح له بامتلاك مهارات وأدوات جديدة؟

في كلٍّ من الألعاب وفي مكان العمل، يحتاج "دوغ" إلى مواجهة تحديات تتيح له أن يتطور، وفي الوقت نفسه يحتاج إلى توفير الدعم له حتى يتمكن من مواجهة هذه التحديات بنجاح، وتماماً كما هو الحال في لعبة متوازنة، تكمن الخدعة الحقيقية في مواجهة التحدي الكافي للشعور بالإثارة، ولكن ليس لدرجة الشعور بالارتباك.

وبصفتك مسؤولاً عن قسم الموارد البشرية، فلا بُدَّ أنَّك تدرك مقدار صعوبة الاحتفاظ بأصحاب المواهب القيِّمة؛ لذا إنَّ الإثارة الصحيحة للتحدي في نفوس الموظفين تبني الولاء والاهتمام بدلاً من الملل والإحباط، ويساعدك فهم وقياس درجة الإتقان والدعم على وجه التحديد على قياس ما إذا كانت جهودك تحقق توازناً من شأنه أن يبقيك متفاعلاً في العمل.

إقرأ أيضاً: كيف تنفصل عن التكنولوجيا وتستعيد السيطرة على حياتك؟

أدوات التكنولوجيا:

يكمن الهدف من هذه الأدوات في فهم وقياس وتنفيذ هذه المبادئ الأساسية للمشاركة؛ إذ إنَّ هناك العديد من الطرائق لمعالجة مشكلة عدم تفاعل الموظفين في العمل؛ فيركز العمل القائم على أساس التحفيز على تحقيق تفاعل دائم ومفيد، وإحداث تغيير إيجابي في مكان العمل ومساحة الترفيه.

بعد عقود من البحث، من الرائع رؤية كيف يُمكِّننا هذا الإطار من اختبار التجارب العظمية، التي تبني ثقافات رائعة لتحقيق النجاح والإنجاز في مكان العمل، تلك الثقافات التي تجعل كل موظف يشعر كأنَّه بطل. وبصفتك قائداً، يمكنك استعمال إطار نظرية التحديد الذاتي لتعزيز تفاعل الموظفين وتحفيزهم إلى حد كبير، حتى تتمكن مؤسستك من جذب المواهب الكبيرة والاحتفاظ بها وتطويرها؛ وهذا يتيح للجميع تحقيق درجة عالية جديدة.

المصدر.




مقالات مرتبطة