لنستخدم الخرائط الأصح في طريقة استثمارنا لوقتنا

هناك العديد من التقنيات الفعّالة لاستثمار الوقت، ولاستثمارها بشكل أفضل فلابدّ من فهم آليتها وتطبيقها، مع مراقبتها وتطويرها بما يضمن نتائجها المرجوة، وقبل الخوض فيها نحن بحاجة إلى فهم "معاييرنا" نحن وكيف نتصوّر ما حولنا ذهنياً بمعنى: كيف ننظر إلى الكون وما فيه من حولنا، وكيف نتصرف بناءاً على هذا التصوّر، لأنّه بناء على كيفية رؤيتنا للأمور نقوم بتصرفاتنا.



عندما تسمع كلاماً ما عن مدينة ما (لم تزرها من قبل) وتصدق هذا الكلام، فإنّك تكون قد شكّلت في ذهنك قناعة عنها (هذه تدعى خارطة)، وعندما ينشب شجار بينك وبين صديق ما، ويرفع صوته، ويهدّد، فإنّك قد تبني قناعة عنه (هذه تدعى خارطة)، وعندما تحدث أمامك قضية ما، قد تستلخص منها قناعة ما (تسمى هذه خارطة)، وبالرغم من أنّك إذا زرت المدينة فيما بعد، قد تكتشف أنّها غير ما سمعت عنها، وقد يكون هناك تفسير لموقف صديقك منك غير الذي شكّلته في رأسك، كذلك الأمر بالنسبة للحادثة التي وقعت أمامك، ليس كل ما تسمعه وتراه يكون بالضرورة هو الحقيقة. 

كلٌّ منّا لديه تصوّرات ذهنية (خرائط) عن العالم بدأت في التشكّل منذ الولادة، وساهم فيها الأهل والمدرسة ودور العبادة، والأصدقاء وبيئة العمل والمجتمع ككل، إنّها الطريقة التي نرى بها العالم، ليس بمعنى حاستنا البصرية للرؤية، بل بمعنى الإدراك، والفهم والتفسير، وأبسط وسيلة لفهم التصوّرات الذهنية هي النظر إليها على أنها خرائط، وقد نوه العالم البولندي "ألفريد كورزابيسكي" في كتابه "العلم والعقل": "بأنّ الخريطة هي ببساطة شرح لمظاهر معينة للإقليم"، وهذا هو التصوّر الذهني بدقة، إنّه فكرة أو شرح لشيء آخر.

إقرأ أيضاً: ميكانيزم العقل وتوسيع الإدراك!

لنفترض أنّك تريد الوصول لمكان ما في مدينة دمشق، بالتالي ستكون خريطة شوارع دمشق مفيدة جداً لك، ولكن في حال استلمت خريطة لمدينة "بيروت" كتب عليها خطأ اسم مدينة "دمشق" فهل ستصل إلى المكان المقصود؟ الجواب: لا!! فمهما حاولت وغيّرت من سلوكك وتابعت وبإصرار ومثابرة وبسرعة، فإنّك لن تنجح في الوصول إلى المكان الذي تريده مهما كنت إيجابياً، فما دمت تستخدم الخارطة الخطأ فإنّك لن تصل إلّا إلى المكان الخطأ، ولكن لو كنت تملك خارطة مدينة "دمشق" فسوف يصبح للمثابرة قيمتها، قد تواجهك بعض العقبات ولكن بتفكير إيجابي ستصل، لأنّك تملك خريطة دقيقة، وعلى قدر دقة الخارطة تكون سرعة وصحة وصولك.

يوجد في رأس كل منا الكثير من الخرائط التي نقوم من خلالها بتفسير كل ما يمر بنا من تجارب، ونميل إلى الاعتقاد بها، وبأنّنا نرى الأشياء كما هي (أي نفترض أنّنا موضوعيون)، ولكننا لا نرى العالم كما هو، بل كما نكون نحن، وعندما نتكلم لنصف العالم فإنّنا في الحقيقة نصف أنفسنا ومعاييرنا، وعندما نختلف مع الآخرين فإنّنا نظن أنهم على خطأ، ولكن الحقيقة أن كل منا يرى العالم بعدسته الخاصة ومن خلال تجربته الشخصية.

إقرأ أيضاً: ماهي الخرائط الذهنيّة وكيف نستخدمها لتسريع الحفظ وعلاج النسيان؟

هذا كله لا ينفي وجود الحقائق، ولكننا هنا نتكلم عن تفسيراتنا لهذه الحقائق، وخاصة إذا كانت تلك التفسيرات لا تطابق الحقيقة، ممّا يؤدي إلى أن تصبح الحقائق دون أي معنى على الإطلاق خارج نطاق هذه التفسيرات.

وكلّما زاد إدراكنا لخرائطنا (تصوّراتنا الذهنية) وزادت مسؤوليتنا حول اختباراها وتمحيصها في مواجهة الحقيقة، كلّما صارت موضوعية أكثر، لقد نشأ مصطلح تغيير الصورة الذهنية مع توماس كوهن الذي صكه في كتابه الذائع الصيت "هيكله الثورات العلمية"، وأوضح كوهن كيف أنّ تقريباً كل اختراق مهم في مجال الجهود العلمية هو في المحل الأول اختراق للتقاليد، وللطرق الموروثة في التفكير والتصوّرات التي عفا عليها الزمن، لقد كان القدماء يتصوّرون أنّ الأرض مركز الكون، حتى جاء كوبرينكوس وغيّر هذه (الخارطة) عندما غيّر مركز الكون من الأرض إلى الشمس، وأخذ أينشتاين مكانته لأنّه لم يأسر نفسه في خارطة محدّدة دونما تقييم لها، انظر إلى قوله: "بينما كان الناس يفكرون في المعقول كنت أفكر في المستحيل"، ولابدّ أن نعرف "وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً".

تشكّل الخرائط (التصوّرات الذهنية) العدسة التي نرى من خلالها العالم، وبالتالي فإنّنا نتغيّر عندما تتغيّر هذه الخرائط، وعندما نركّز على تغيير سلوكياتنا وتوجهاتنا قد نحصل على تغييرات صغيرة نسبياً في حياتنا، أمّا إذا أردنا إجراء تغيير كبير فلابدّ من تركيز جهودنا على آلية تشكيل خرائطنا (تصوّراتنا الذهنية الأساسية) التي تنبثق عنها سلوكياتنا وتوجهاتنا، وكلّما كانت هذه الخرائط مُرتكزة ومُنسجمة مع السنن الكونية كلّما كانت أقرب للحقيقة، وأكثر دقة، وأكثر موضوعية، وبالتالي كان صاحبها أكثر توازنا.

إقرأ أيضاً: الصورة الذهنية وأهميتها في العلاقات العامة

ومن المؤكد أنّ تأثير الخرائط الصحيحة - بشكل مطلق على فاعليتنا وعلاقتنا مع الآخرين - أكبر من تأثير أي جهد ممكن بذله في تغيير توجهاتنا وسلوكياتنا. وبالتالي نصل إلى عدة نتائج قد يكون أهمها:

  1. أن نتصرف على قاعدة "وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" فلا نحكم على الأشياء من سطحيتها، بل ننظر بعمق إلى المعاني.
  2. أن نبذل الجهد على خرائطنا أكثر من السلوك والتوجهات، قال رالف والدو ايمرسون: "التفكير هو أصل كل ما نفعله".

 

المصدر:

  • إدارة الأولويات - ستيفن كوفي - مكتبة جرير



مقالات مرتبطة