أخبرني انه عاد للتو من رحلة عمل شاقة في دولة آسيوية، جل وقته اجتماعات في اجتماعات، ثم تحدث عن موقف حصل له فأردف قالاً أقمت شراكة عمل مع أحد التجار وكنا نجتمع يومياً من الساعة التاسعة حتى الساعة الخامسة مساءً، وهو وقت العمل الرسمي، بعد ذلك الكل يحمل حاجاته وينصرف إلى بيته ما عدا أنا أبقى ساعات في صالة الاجتماع كي أراجع بعض الأعمال و أحياناً أتصل بشريكي لاستيضاح بعض بنود الشركة وتعاملاتها التي غابت عني أثناء الاجتماع..
في بادئ الأمر تقبل اتصالاتي المتكررة وربما استحي مني لأني ضيف عنده، لكن بعد أيام قال لي عفواً منك وبدون مجاملة أنا وقتي معك من التاسعة وحتى الخامسة لتقول ما تريد، بعد هذا الوقت أرجو منك عدم الاتصال بي فهذا الوقت هو وقت راحتي وهو ملك لعائلتي فقط..
قلت لصديقي أعجبني موقف الرجل لأنه أحترم وقته ووقت غيره، ففي مجتمعنا أصبحنا كالآلة نعمل صباح مساء دون كلل أو ملل، لا يوقفنا عن العمل إلا صلاتنا أو أكلنا أو نومنا، وسنظل نعمل على مدار الساعة حتى انتهاء تاريخ صلاحيتنا..
لم تسول لك نفسك أخذ قسط من الراحة، فهل نسينا أننا بشر من لحم ودم ونحتاج وقتاً للراحة والاستجمام ونملك روحاً تحتاج منا أن نغذيها بمشاعر وأحاسيس الحب والتواصل مع من نحب ولنا معارف وعائلة وأصدقاء يحتاجون أن نمضي شيئاً من وقتنا معهم، وهل العمل من أجل تنمية قدراتك أم من أجل الإنجاز، أم من أجل العمل فقط..
أتساءل دائماً هل على الإنسان أن يستميت في عمله ويضحي بصحته ووقته ووقت عائلته وأصدقائه لكي يكون إنساناً ناجحاً ومميزاً ويملك ثروة ثم ماذا تذهب في نهاية المطاف لغيره بعد مماته؟
أليس النجاح والمال الذي نسعى له ونتغنى بمفرداته هي من أجل ذلك الإنسان وهو أنت، أي من أجلك أنت فقط، أم لمن هم حولك، وأنت لا ناقة لك ولا جمل؟
أتساءل لو أصيب أحدنا بمرض عضال، قد يتهاوى كل عمل قمت به، وترى الدنيا كلها تتوقف أمام عينيك وأنت تراجع حساباتك التي تظهر لك في النهاية أنه لا تنفع تلك الثروة التي جمعتها بل تتمنى بعد ذلك أن تفدي نفسك وصحتك بكل ثرواتك التي جمعتها طول عمرك، لأنك قد تركت الأهم وهي صحتك ووقتك وعائلتك إلى المهم وهو جمع المال فقط..
أقول لنفسي فما قيمة كل ما أبذله من جهد أمام حياة خالية من العاطفة، خاوية من الشعور بمن حولي؟
ثم أقول لصديقي لماذا؟ تمضي وقتك مع أصدقائك فقط، أليست لك عائلة تمضي وقت راحتك وأجمل أيام حياتك معهم، ثم من الجميل أن يكون لديك هواية أو رياضة تمارسها بانتظام كل أسبوع على الأقل؟
كلنا بحاجة إلى جسر خاص للنظر من فوقه نظرة على جمال الحياة، وروعة الدنيا، جسر نلتقط من فوقه أنفاسنا، ونتنهد منه مرة واحدة على الأقل في الأسبوع وهي تنهيدة السعادة لأنها قد تكون آخر تنهيدة في حياتك..
يقول أبو الفتح البُسْتي :
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... لتَطلُبَ الرِّبح في ما فيه خُسرانُ
أقْبِلْ على النفس واسْتَكْمِل فضائلَها ... فأنتَ بالنفس لا بالجسمِ إنسانُ
ومضة :
ليكن جسرك هو بيتك، أو حديقتك، أو كتابك، أو فنجان قهوتك الصباحي، أو كرسي صغير مطل على البحر، أو كثيّب رمل تراجع من على قمّته حياتك.. لنراجع أنفسنا حتى نعيش..
أضف تعليقاً