كيف يمكن للقادة الأذكياء بناء الثقة؟

سوف أتحدث قليلاً عن والدي: والدي هو واحد من أكثر الأشخاص الجديرين بالثقة، ولي الشرف بأنَّه أبي؛ فعندما يقول إنَّه سيفعل شيئاً ما، أُصدِّق ما يقوله تماماً، فالأمر سهل جداً بالنسبة إليه، وذلك لأنَّه لا يقدِّم إلا وعوداً يسيرة يمكنه القيام بها فعلاً، ولكن هناك أمر واحد لا يلتزم به في وعوده، وهو صيد السمك.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن "تايلر ترفورين" (Tyler Tervooren)، ويحدِّثنا فيه عن أهمية عدم تقديم الوعود الكاذبة لاكتساب ثقة جميع من حولك.

يحب والدي صيد السمك كثيراً، فقد كان يحب الذهاب يومياً لو سنحت له الفرصة لذلك، والآن بعد أن تقاعد، أصبح في إمكانه الذهاب يومياً؛ فعندما كنت صغيراً، كان والدي يصطحبني في رحلاته لصيد السمك، ولم نكن نُحضِر معنا إلَّا الصنارات، وبعض المعدَّات، والقليل من الأطعمة الخفيفة، وكان يعدني دائماً بالوعد نفسه، وهو بأنَّنا سنبقى لمدة ساعتين فقط، وإذا لم نستطع اصطياد أي شيء، سنعود للمنزل.

بعد الرحلات القليلة الأولى التي ذهبنا فيها، علمت أنَّ وعده لم يكن صادقاً، فقد كانت الساعات تمر، وعلى الرَّغم من اعتراضاتي، كان أبي واثقاً تماماً من أنَّه سيصطاد سمكة بالتأكيد، وعندما يوشك على اصطيادها كان يشعر بالحماسة الشديدة، لذلك كان يبقينا لفترة أطول، لقد أردت أن يصطاد والدي سمكة أيضاً؛ ولكن كنت طفلاً غير صبور، وكنت أشعر بالغضب كلما تأخَّرنا أكثر، لكنَّه كان صبوراً جداً.

كان والدي يشعر بالحماسة الشديدة لدرجة أنَّه كان ينسى الوعد الذي وعدني إياه، وحتى الآن بعد أن أصبحت في الثلاثينيات من عمري، عندما يتصل بي والدي، ويسألني ما إذا كنت أريد الذهاب لصيد السمك معه، ما زلت أشعر بالذعر بشأن وقت عودتي إلى المنزل.

لذا، عندما تكون رؤاك كبيرة تقدِّم وعوداً كبيرة لإقناع الناس بمساعدتك، ولكن المشكلة تكمن في أنَّ الأشياء الهامة لا تحدث بين ليلة وضحاها، والنتائج تستغرق وقتاً، والتخلِّي عن الوقت يتطلَّب الثقة، فكيف تكتسب ثقة الناس حتى يبقوا معك على الأمد الطويل؟

"تجربة مارشميلو" (Marshmallow test):

إليك ملخَّصاً عن "تجربة مارشميلو" التي أُجريت في جامعة "ستانفورد" (Stanford Marshmallow Test) الشهيرة: إذ يضع الباحثون أطفالاً في غرفة فيها حلوى المارشميلو، ويعطوهم بعض التعليمات اليسيرة، وهي الانتظار لمدة 15 دقيقة قبل تناول هذه الحلوى، وإذا فعلوا ذلك يمكنهم الحصول على اثنين منها.

لقد كانت هذه التجربة عبارة عن دراسة يسيرة عن قوة الإرادة وآليات التأقلم، لقد أراد الباحثون معرفة الاستراتيجيات التي يستخدمها الأطفال الصبورون لكسب المكافآت، ولقد كانت هذه الدراسة في حدِّ ذاتها عادية، والأمر المثير للاهتمام هو ما حدث بعد 40 عاماً من التجربة؛ إذ تابع الباحثون الأطفال الذين خضعوا للتجربة، وقاسوا نجاحهم في عديدٍ من مجالات الحياة، ورأَوا أنَّ الأطفال الصبورين كانوا أكثر نجاحاً من الأطفال الذين نفد صبرهم.

لذا إنَّ قاعدة النجاح اليسيرة المُثبتة علمياً هي: اجعل الناس يتخلَّون عن الشيء الذي يريدونه اليوم، لكي يحصلوا على اثنين من ذلك الشيء غداً، وستعزِّز فرصة تحقيق الأهداف. ولكن هذه التجربة مع الدرس السهل الناتج عنها والتي يجب أن تكون صحيحة، هي في الواقع خاطئة تماماً.

صحيحٌ أنَّ أداء الأطفال الصبورين كان أفضل، ولكن الأمر الذي فات الباحثين هو العامل الهام جداً الذي دفع الأطفال الآخرين إلى تناول الحلوى، وهذا العامل موجود في مساعيك، والذي يمكن أن يمنع الأشخاص الذين تحتاجهم إلى جانبك من مساعدتك.

بناء الثقة في عالم مليء بخيبات الأمل:

لقد استمرَّت "تجربة المارشميلو"، لعقود قبل أن ينتقدها فريق من "جامعة روتشستر" (University of Rochester)، وقد طبَّقوا نفس السيناريو تماماً، وفي هذه المرة، أجروا اختباراً متطابقاً، ولكن مع متغير إضافي واحد، وهو الثقة؛ إذ افترض الباحثون في التجربة الأصلية أنَّه عندما تُخبر شخصاً ما بأنَّه من الأفضل أن ينتظر، فسوف يصدِّقك على الفور؛ لذا هذه المرة قال الباحثون للأطفال، بأن ينتظروا بضع دقائق فقط، وسيقدِّمون لهم شيئاً أفضل بعدها.

لقد اكتسب الباحثون ثقة بعض الأطفال؛ لأنَّهم قدَّموا لهم ما وعدوا به، ولكن لم يفوا بوعدهم لبعضهم الآخر، ولم يكن هناك شيء أفضل بانتظارهم، ثمَّ أجروا على الأطفال "تجربة المارشميلو" مرة أخرى، فبالنسبة إلى أولئك الذين وثقوا بالباحثين، انتظر معظمهم بصبر كما قيل لهم، أمَّا الآخرون فلم ينتظروا، وتناولوا الحلوى بسرعة، لأنَّهم لم يثقوا بالباحثين على الإطلاق.

لا مبالغة في أهمية الثقة في بناء العلاقات، ولكن عندما تحصل على الثقة، وتستمر في إثبات أنَّك تستحقها فعلاً، سيفعل الناس أي شيء تطلبه منهم، وعندما تقود بنزاهة، يمكنك تطوير مجتمعك تطويراً هائلاً، ولكن إذا قمت بزلَّةٍ واحدة، ولم تفِ بوعد واحد، يمكن أن تضعف تلك العلاقة بينكم، وسوف تنتابهم الشكوك بشأنك، وكل ما تحاول القيام به سوف يصبح أكثر صعوبة.

شاهد: طرق تعامل المدير الناجح مع الموظفين

كيفية بناء ثقة لا تتزعزع:

إنَّ الثقة هي الشرط الأساسي في أي شيء تنوي القيام به، والاحتفاظ بها أسهل بكثير من استعادتها بعد فقدانها؛ إذ إنَّ الطريقة اليسيرة لمساعدتك، هي التقليل من الوعود، وعدم تقديم أكثر ممَّا هو مطلوب أو متوقَّع منك.

بالنسبة إلى والدي، كنت أثق تماماً بكل شيء يقوله لطالما لا يتعلَّق الأمر بصيد السمك، لأنَّه كان حريصاً بشأن الأمور التي يعِد بها، فقد كان يضع توقعات منخفضة، ويعمل على تقديم النتائج فوق المتوقع؛ ففي إحدى السنوات، قرابة عيد ميلادي، أخبرت والديَّ أنَّني أريد جيتاراً، لقد كان والدي حريصاً في وعده كما هو دائماً، وقد قال لي بأنَّه غالي الثمن، وطلب منِّي ألَّا أبني آمالاً كثيرة، ولكنَّه أحضر لي واحداً في ذلك العام.

من الممكن أنَّ أمي كان لها علاقة بهذا القرار، لكنَّ الحماسة والسعادة التي شعرت بها لأنَّني حصلت على الشيء الذي لم أتأمَّل بالحصول عليه كثيراً، ما زلت أتذكَّرها بعد عقود.

فإذا كنت تبني شيئاً ما، ضع توقعات يسيرة، وفاجئ الناس بشيء رائع، وإذا كنت تريد إطلاق شيء ما، لا تعلن عنه حتى تتأكَّد من أنَّه يمكنك الوفاء بتاريخ الإطلاق، لذا عندما تعِد وعداً ما، قدِّم وعداً صغيراً، فبهذه الحالة لن يغضب أحد عندما تتفوَّق على نفسك.

إقرأ أيضاً: 10 صفات تجعلك قائداً محبوباً جداً

كيف نعِد بأشياء رائعة ونفي بوعودنا؟

معظمنا لا يثق بالسياسيين كثيراً، وذلك لأنَّهم غالباً ما يعِدوننا بتغييرات كبيرة وشاملة لا يستطيعون تحقيقها في الواقع، فهم يخبروننا بما نريد أن نسمعه حتى ننتخبهم، ومن ثمَّ يأملون أن ننسى تلك الوعود بمجرد توليهم المنصب وبدئِهِم بالعمل الحقيقي، ولكنَّنا في الواقع لا ننسى، بل نتذكَّر، ونغضب عندما لا يفوا بهذه الوعود.

فمن المرجَّح أنَّ تقديم الوعود الصغيرة لن يجدي نفعاً أيضاً، فالسياسيون الذين يقدِّمون وعوداً صغيرة، حتى ولو كانوا سيلتزمون بها لا يُنتخبون، وذلك لأنَّنا نريد شخصاً يجري تغييرات كبيرة، وليس تغييرات يسيرة.

إنَّ هذه المشكلة فيها خطأ منَّا، فنحن نطالب بأشياء كبيرة، لذلك يعِدنا السياسيون بتحقيقها، ثمَّ نشعر بالانزعاج عندما لا يستطيعون تقديمها فعلاً؛ إذ إنَّ هذه العلاقة غير صحيَّة، ولكنَّها جزء من معادلة الثقة والقيادة، فالناس يريدون رؤيتك تقوم بأشياء كبيرة وصعبة لقبولك.

هناك شيء يمكن تعلُّمه من السياسيين الذين نجحوا في إدارة التحديات، وهو أنَّهم ينجحون من خلال تقديم الرؤى الكبيرة، وتقديم الوعود أو الإنجازات التي يعلمون أنَّهم يمكنهم تحقيقها فقط.

الرئيس الأمريكي السابق "أوباما" (Obama)، هو مثال لشخص نجح وفشل في ذلك في الوقت نفسه، لقد صوَّتت له لأنَّه قال إنَّه يملك رؤية واضحة لإصلاح نظام الرعاية الصحية الأمريكية، ولكنَّه لم يعِدنا بالطريقة التي سيتبعها لتحقيق ما سيقوم به، لكنَّه وعدنا فقط بالإجراءات التي سيتخذها، تلك التي يمكن أن يضمنها، للتحرك نحو تلك الرؤية.

مع ذلك، هذا ليس السبب الوحيد الذي جعلني أصوِّت لـ"أوباما"، فهو وعدَ أيضاً بشيء لم يستطع الوفاء به، وهو إغلاق سجن "غوانتانامو" (Guantanamo)، وبعد مرور عدة سنوات ما زال هذا الأمر يغضبني، لقد كان الفرق بين الطريقة التي قدَّم فيها الرئيس "أوباما" رؤيته عن الأمر الذي كان يضمن بأنَّه يمكنه تحقيقه، وبين الأمر الذي لم يستطع الوفاء به، فرقاً شاسعاً.

إنَّ الدرس هنا لا يتعلَّق بالسياسة، فأيَّاً كان المجال الذي تتبعه، فإنَّ القواعد لبناء حركتك الخاصة والحفاظ على ثقة الأشخاص الذين سيساعدونك على بناء تلك الحركة، هي نفسها، والتي هي تقديم الرؤية، ولكن تقديم الوعود بالإنجازات التي يمكنك تحقيقها فقط.

إقرأ أيضاً: كيف يتطور القادة ويحافظون على نفوذهم؟

في الختام:

فكِّر في المهمة الكبيرة التي تعمل عليها، فإذا كنت تريد أن يستثمر فريقك أو مجتمعك وقتهم المحدود وجهدهم في "رؤيتك"، فاسأل نفسك ما هي الإنجازات التي يحتاجون إلى تحقيقها، واختر ما يمكنك تحقيقه في اليوم والأسبوع والشهر التالي، وكن واقعياً بشأن ما سيتطلَّبه الأمر لتحقيق تلك الإنجازات.

ذكِّر الناس بالرؤية طويلة الأمد، ولكن ركِّز على ما يمكنك تحقيقه فعلاً في الوقت الحالي، فهذه هي الطريقة التي يمكنك أن تبني بها الثقة والحماسة، ولا يمكنك القيادة إلا بعد أن تكتسب ثقة جميع من هم حولك، والثقة أمر يصعب اكتسابه ومن السهل خسارته، والقادة الأذكياء يحمون سمعتهم من خلال بناء أحلام كبيرة، ولكنَّهم يعدون فقط بما يمكنهم تحقيقه فعلاً.

المصدر




مقالات مرتبطة