كيف يفكر المُتنمِّرون؟

يبحث الأسد الجائع عن الحيوان الأضعف في القطيع، وعندما يلاحظ ضعفه يهم بقتله؛ إنَّه أمر وحشي، ولكن بالنسبة إلى الأسد إنَّها قضية بقاء. لكن وعلى الجانب الآخر، يصعب فهم "المفترسين" من بني البشر، فالجميع يعلم أنَّه من الخطأ إزعاج شخص ضعيف، فلماذا هناك أشخاص يحبون فعل ذلك؟



لطالما كان التنمر جزءاً من الحياة؛ ولكنَّ المخاوف حوله تزايدت تزايداً كبيراً عن ذي قبل، أحد أسباب هذا وفقاً للطبيبة النفسية "كاتي دافيس" (Dr. Katie Davis) والباحث "جون هوبكنز" (John Hopkins) أنَّ الأهل أصبحوا أكثر وعياً حول تأثير التنمر في الصحة العقلية.

وأضافت "دافيس": "مع كل هذه النقاشات حول حالات الانتحار العديدة والعنف في المدارس، بدأ الأهل بالقلق وأصبحوا يتساءلون في أنفسهم "ماذا لو أصبح طفلي هكذا؟"، فقد زادت الجهود لمنع وزيادة الوعي تجاه التنمر، ونتيجة الاندفاع للحد من هذا السلوك، فقد خرجَ الأمر من ضمن إطاره.

تقول "دافيس": "إن أزعج طفلٌ طفلاً آخر بأي شكل أو طريقة، فهذا يُعَدُّ تنمراً"، وبهذا التعريف يصبح الموضوع واضحاً، ولكي نصف شخصاً بأنَّه متنمر؛ يجب أن يكون هناك عدم توازن في قوة الطرفين؛ فالمواجهة ليست عادلة، وعلى المتنمر امتلاك قوة أو حجم أكبر أو مرتبة اجتماعية أعلى؛ إذ يستعمل هذه الميزة للتحكم بضحيته أو ضحيتها.

تقول "دافيس": "إنَّ هذا ليس مثل أي قتال يحصل خلال لعب الأطفال معاً، فندعهم يحلون الأمر؛ إذ يوجد طفل لاحول له ولا قوة وُضِع في ظرف سيِّئ ولا يستطيع الدفاع عن نفسه، إنَّها تجربة تسبب صدمة عاطفية".

قد يؤدي التنمر إلى الأذى الجسدي؛ ولكنَّ الندوب العاطفية غالباً ما تكون أكثر إيلاماً، وخاصةً عندما يأخذ الضحايا سوء المعاملة على محمل الجد، فقد يتوقف الأطفال عن رؤية هذه المعاملة على أنَّها ظلم ويعتقدون أنَّها عقاب مستحق.

تصف "دانييل ماثيو" (Danielle Matthew)، معالجة نفسية تُعنى بالأمور العائلية ومتخصصة في معالجة ضحايا التنمر أحد العملاء "جيرمي" (Jeremy) الذي تعرَّض للتنمر اللفظي والجسدي لسنوات عدة، ففي الجلسات الأولى التي خاضتها معه قال "جيرمي": إنَّ التنمر كان جزءاً من حياته؛ إذ اعتقدَ بأنَّ حالته ميؤوس منها.

تقول "ماثيو": إنَّ الكثير من الأطفال يشاركون حالة جيرمي نفسها وقد تستمر معهم إلى مرحلة البلوغ، كما تضيف: "يأتي إليَّ الكثير من البالغين الذين ما زالوا يتعاملون مع مشاعر مرتبطة بالتنمر الذي اختبروه في مرحلة الطفولة، والذي يعوقهم في المضي قدماً في علاقاتهم الشخصية أو حياتهم العملية، فهُم ما زالوا عالقين ضمن هذه العلاقة".

في بعض الحالات يكون اليأس الناتج عن التنمُّر مميتاً؛ إذ لاحظَت هذا النمط لأول مرة في أثناء عملها في شركة للتأمين تُقدِّم تراخيص للإقامة في المستشفيات، بعد أكثر من ست سنوات من طلبات دخول المراهقين إلى المستشفيات الذين حاولوا أو هددوا بأنَّهم سيقدمون على الانتحار؛ إذ بدأت "ماثيو" ترى رابطاً واضحاً بين الميول الانتحارية والتعرُّض للتنمر.

تقول "ماثيو": "قد لا يعرف الآباء أنَّ أطفالهم يواجهون مشكلة حتى يدخلوا الوحدة الداخلية لمعالجة الأشخاص الذين حاولوا الانتحار".

لا ينتبه الآباء والأمهات إلى الإشارات التحذيرية؛ وذلك لأنَّ الأطفال يحاولون إخفاء تعرُّضهم للتنمر عمداً، فهم لا يريدون أن يخيبوا أمل والديهم أو أن يثقلوا كاهلهم بمشكلاتهم الخاصة، بالإضافة إلى افتقادهم إلى الطلاقة الشعورية اللازمة للتعامل مع صدماتهم العاطفية والقدرة على إيجاد مخرج من الأمر، فهم يشعرون بأنَّهم مُحاصرون ومعزولون ومُحرَجون ومحكوم عليهم، كما أضافت: "يشعرون بألَّا يسعهم القيام بأي شيء سوى مغادرة هذا العالم".

يمكن أن تصبح التأثيرات مضاعفة عند التعامل مع التنمر عبر الإنترنت، فقبل عصر الإنترنت كان الأطفال يتخلَّصون من متنمِّريهم عند الوصول إلى المنزل، ولكن الآن، بعد أن أصبح أغلب تواصلنا عبر الإنترنت يستطيع المتنمر معرفة العديد من الأمور الشخصية التي يستطيع ابتزاز الشخص من خلالها متى شاء؛ فالهدف ضعيف وفي متناول اليد.

لا تعتقد "دافيس" أنَّ الأطفال أصبحوا أكثر لؤماً؛ ولكنَّ التنمر عبر الإنترنت يسمح لهم بأن يكونوا سيئين أكثر، فهو يخفيهم أكثر، وتوجد مراقبة أقل من الأهل، ولديهم حرية قول أشياء مروعة عن أطفال آخرين لجمهور أوسع، وليس عليهم رؤية وجوه ضحاياهم المتألمة.

وأضافت "دافيس": "إنَّهم ينفصلون عن الحياة الواقعية"، ولا يصلهم رد الفعل السلبي من المحيط كما يفعلون إذا رؤوا طفلاً يبكي؛ فهو يُشعرهم بأنَّ الأمر أقل واقعية.

استعادة القوة:

إذن، ما هو الفارق بين الأطفال الذين يستطيعون التعامل مع التنمر عن أولئك الذين لا يستطيعون؟ تقول "دافيس": "إنَّ العامل الأكثر أهمية من خلال خبرتها هو الروابط العائلية القوية؛ إذ يشعر الأطفال بأنَّ أحداً ما يهتم بأمرهم".

تقول "دافيس": "ليسوا بحاجة إلى العديد من الأصدقاء؛ وإنَّما بحاجة إلى صديق، ولا يحتاجون إلى مليون فرد داعم من أفراد العائلة؛ وإنَّما يحتاجون إلى فرد؛ إذ يحتاج الأطفال إلى بعض العلاقات المتينة ليعرفوا أنَّهم ليسوا وحدهم ويتحملوا معاناتهم بمعزل عن الآخرين، وأعتقد أنَّ العزلة ضارة جداً للأطفال؛ فيبدو العالم غير آمن وخارجاً عن السيطرة".

في الوقت نفسه قد يتدخل الكبار ويصبح الأمر أكثر سوءاً، وترى "ماثيو" بأنَّ إصرار الأهل على التحكم بزمام الأمر، يجعل أطفالهم يعانون أكثر، وفي كثير من الأحيان، تشعر الضحية بالعجز أكثر ويسعى المتنمر إلى الانتقام نتيجة وقوعه بمشكلة ويبحث عن أساليب سرية وأشد قسوة.

تشرح "ماثيو" في كتابها "الطفل القوي: كيف تساعد طفلك على التعامل، التواصل وقهر التنمر" (The Empowered Child: How to Help Your Child Cope, Communicate, and Conquer Bullying)، أنَّ الأطفال بحاجة إلى الدعم العاطفي كي يتمكنوا من وضع خطتهم.

في الأساس، التنمر هو وسيلة قذرة لفرض القوة من خلال الترهيب وعدم الاحترام، وبالنسبة إلى الأطفال الذين يحاولون استرجاع قوَّتهم من المتنمر، تشجعهم "ماثيو" على تحديد نطاق سيطرتهم؛ أي ما يمكن وما لا يمكن تغييره.

وأضافت: "يجد الأطفال أنَّهم يمتلكون قوة أكبر مما يعتقدون، فهم يلاحظون أنَّ باستطاعتهم تغيير ردة فعلهم تجاه المتنمر والموقف الذي يوضعون فيه؛ لأنَّه في نهاية الأمر هذا هو الشيء الوحيد الذي نستطيع السيطرة عليه؛ أي كيف نستجيب ونتواصل ونستطيع الاهتمام بأنفسنا".

إقرأ أيضاً: ظاهرة التنمّر: أنواعها، أسبابها، وطرق علاجها

المعرفة العاطفية:

يتنمر الأطفال لأسباب عدَّة؛ إذ قد يكون أحد ما يضربهم أحياناً، وفي أحيان أخرى لأنَّهم يقلدون سلوك آبائهم أو أشخاص يقتدون بهم، وبعضهم يتنمر لأنَّ أحدهم أكثر حساسية منهم؛ فيشعرون بالغيرة منهم.

يمكن أن يتصرف الأطفال لوحدهم أو أن يجتمعوا معاً في مجموعة، فيتنمرون ويسخرون أو ينبذون ضحيتهم بداعي التسلية والشعور المشترك بالهيمنة، ولكن لماذا قد يرغب شخص ما في أن يجعل شخصاً آخر يعاني؟

"توماس ماك شيلي" (Thomas McSheehy)، اختصاصي اجتماعي ومؤسس منظمة "تيتشينغ هارت إنستيتيوت" (Teaching Heart Institute) يقول: إنَّ الغضب والعار والخوف جميعها أسباب جوهرية لتنمر الأطفال؛ إذ إنَّهم لا يشعرون بالرضى عن أنفسهم أو ما يشعرون به؛ وبذلك يفرضون هيمنتهم على الآخرين أملاً بحل مشكلاتهم وتعزيز احترامهم لنفسهم.

قال "ماك شيلي": "إنَّهم لا يعرفون ماذا سيفعلون بهذه الطاقة والعاطفة، فلم يطوروا القدرة على التعامل معها؛ لذا يفرغونها في شخص آخر، فربما الألم الذي تشعر به الضحية هو ما يشعر به المتنمر نفسه".

إنَّ الاندفاع والضغط المتزايد للحياة الحديثة يحول هذه المعرفة العاطفية إلى حالة من الضغط، ولاحظ "ماك شيلي" كونه معلماً في مدرسة ابتدائية لمدة عشرين عاماً أنَّ الأطفال يُجبَرون على الانتقال إلى عالم يتزايد تعقيداً، فهؤلاء الذين لا يستطيعون السيطرة على اندفاعهم أو ليس لديهم منفذ للتنفيس عن طاقتهم، هم أكثر عرضة إلى تفريغ هذا في الآخرين.

وأضاف: "لم يكن لدينا هذا الضغط على جهازنا العصبي سابقاً؛ إذ إنَّ الأطفال مهتاجون أكثر، ومع هذا يأتي الكثير من رد الفعل السلوكي".

يرى "ماك شيلي" أنَّه عند تعليم الأطفال الطريقة المناسبة للتعامل مع مشاعرهم، يصبح احتمال تنمرهم أقل بكثير، كما يساعد التدريب الأطفال الذين تعرضوا للتنمر على أن يصبحوا أكثر قدرة على التعامل مع السخرية وتحمُّل الضغط.

إقرأ أيضاً: كيف أساعد طفلي في التعامل مع المتنمرين؟

عقلية الضحية:

معظمنا يعرف الشعور السيئ الذي ينتابنا عندما نتعرَّض لسخرية الآخرين؛ ولكنَّ بعض الأطفال يجذبون المتنمرين؛ إذ يغيرون مدرستهم للتخلص من المعتدي ليجذبوا آخر.

بالنسبة إلى "إريكا هورنثال" (Erica Hornthal) الاستشارية والمعالجة؛ إنَّ هؤلاء الأطفال يرسلون إشارات تجلب اهتماماً غير مطلوب.

العلاج بالرقص والحركة هو طريقة تعالج التواصل غير اللفظي؛ إذ تستعمل "هورنثال" هذه الطريقة بالمعالجة في المدارس لمساعدة الأطفال على تعلُّم العطف وتقبُّل الآخرين في أماكن العمل أيضاً؛ فقد يعاني البالغون الذين تعرَّضوا للتنمر آنفاً.

تقول "هورنثال": إنَّ الأشخاص الذين يُحبَطون بسهولة، ينعكس هذا على لغة جسدهم؛ إذ يراها الآخرون، على سبيل المثال غالباً ما تكون وضعيات أجساد الذين تعرَّضوا للتنمر مماثلة للتعرُّض للكمة في البطن؛ أي الانحناء والنظر إلى الأسفل والخوف من التواصل البصري؛ إذ إنَّها علامات يسهل على المتنمر المتعطش للسلطة ملاحظتها.

وقالت: "إن لم يُعجَب شخص ما بما نحن عليه، فيجب علينا أن نتقبل الأمر، وإن كان باستطاعتي الدفاع عن نفسي، وأن أكون حاضرة بمبادئي وقيمي، فكلمات الآخرين لن تهمني أو تؤثر فيَّ لهذه الدرجة؛ ولكنَّ القول أسهل من الفعل".

من الصعب تغيير العقل المتضرر؛ ولكنَّ "هورنثال" تعتقد أنَّه يمكننا دعم هذه العملية من خلال الممارسة الجسدية؛ أي الوقوف منتصب القامة، وتعلُّم القيام بالتواصل البصري بشكل مناسب والتمسك بموقفك.

تضيف: "لا تريد ثقة زائدة بالنفس؛ وإنَّما أن تشعر بأنَّ لك مكانتك؛ لأنَّه في غالب الأحيان عندما نتعرَّض للتنمر، نشعر بأنَّنا لا نستحق المكانة التي نشغلها، ويوجد شخص آخر يستحقها أكثر منا وهذا أمر غير صحيح؛ إذ علينا امتلاك مكانتنا في محيطنا".

يمكن أن يكون التشكيك الذاتي أمراً مؤلماً جداً خاصةً للمراهقين الذين يحاولون اكتشاف أنفسهم؛ ولكنَّه يمكن أن يفترس عقل أي أحد في أيَّة مرحلة عمرية، ويمكن للمتنمرين استغلال مخاوفنا، ولكن إن سمحنا لهم بهذا فقط"، وتقول "هورنثال": إنَّه عند شعورنا بأنَّ أحداً ما يملك سلطة علينا، نستطيع إيجاد طريقة لاستعادتها.

يجب علينا تعلُّم الدفاع عن أنفسنا، فهو ليس أمراً سهلاً ولا يحدث بشكل طبيعي؛ وذلك لأنَّه يرتبط في الغالب بإحساس بالضعف نخشى الشعور به.

المصدر: 1

شاهد بالفيديو: أعراض التنمر المدرسي وعلاجه 




مقالات مرتبطة