كيف تعيش حياة ثرية نفسياً؟

يقول الفيلسوف النمساوي مارتن بوبر (Martin Buber): "أنا لا أقبل أن أعيش الحياة على أساس قواعد ثابتة، وليس هناك أيَّة قاعدة يمكنها أن تتنبَّأ بما سيحدث في حياة الفرد، تتغير معتقداتنا مع مرور الزمن، وهذا شيء ضروري؛ لذلك أعتقد أنَّنا يجب أن نتعايش مع هذا الاكتشاف المستمر، ويجب أن نسعى إلى تعزيز فهمنا للحياة، علينا أن نجازف بوجودنا في هذه الحياة في سبيل رغبتنا في الاستكشاف والتجربة".



ما المقصود بأن تعيش حياة رغيدة؟ ناقشَ العديد من الفلاسفة والمفكِّرين والرِّوائيين هذا السؤال وكتبوا عنه على مَرِّ العصور، وفي مجال علم النفس، ساد مفهومان رئيسان عن الحياة الرغيدة، هما: الحياة السعيدة - التي غالباً ما يشار إليها باسم "السعادة الممتعة" - المليئة بالاستقرار والبهجة والمتعة والمشاعر الإيجابية، والحياة الهادفة - وتعرف باسم "السعادة المزدهرة" - المليئة بالهدف والمعنى والفضيلة والإخلاص والخدمة والتضحية، ولكن ماذا لو لم تكن هذه هي الخيارات الوحيدة؟

في السنوات الأخيرة، نال أحد وجوه الحياة الرغيدة - والذي قُوبل بالتجاهل فترةً طويلة - اهتماماً أكبر من الباحثين؛ نحن نتحدث هنا عن الحياة النفسيَّة الغنيَّة، إنَّ الحياة النفسية الغنية مليئة بنشاطات ذهنيَّةٍ معقدة، ومجموعة كبيرة من المشاعر القوية والعميقة، وتجارب متنوعة وجديدة ومدهشة ومثيرة للاهتمام، في بعض الأحيان تكون التجارب ممتعة، وأحياناً تكون هادفة، وأحيانً تكون غير ممتعة وغير هادفة، وعلى الرغم من ذلك، فهي نادراً ما تكون مملة أو رتيبة.

ومع ذلك، يمكن أن تصبح الحياة السعيدة والهادفة رتيبة ومتكررة، قد يكون الشخص الذي لديه وظيفة مكتبية ثابتة، ومتزوج ولديه أطفال، راضياً عموماً عن حياته ويجد العديد من جوانب حياته ذات مغزى، ولكنَّه لا يزال يشعر بالملل لدرجة الإحباط، كما أنَّ الحياة الثريَّة من الناحية النفسية لا تنطوي بالضرورة على الثراء الاقتصادي، تذكَّر على سبيل المثال شخصية "غولدمند" (Goldmund) الموجودة في إحدى روايات الكاتب الألماني هرمان هيسه (Hermann Hesse)، والتي لا تمتلك المال، ولكنَّها تسعى إلى عيش حياة الرُّحل وتمتلك الرُّوح الحرة.

وجدت الأبحاث الحديثة حول الثَّراء النفسي أنَّه مرتبط بالحياة السعيدة والهادفة، ولكنَّه يختلف عنها جزئياً، يرتبط الثراء النفسي ارتباطاً وثيقاً بالفضول وتقبُّل التجارب، وتجربة كل من المشاعر الإيجابية والسلبية تجربةً مكثَّفةً، ولكن هل الحياة النفسية الغنيَّة هي التي يريدها الناس فعلاً؟

في دراسةٍ جديدة، اقترح الباحث شيجيهيرو أويشي (Shigehiro Oishi) وزملاؤه أنَّ الثَّراء النفسي هو جانب مهمل لما يعده الناس حياة رغيدة، وشرعوا في تقييم مدى رغبة الناس حول العالم في مثل هذه الحياة، سأل الباحثون الأشخاص الذين يعيشون في تسعة بلدان مختلفة عن مدى تقديرهم للحياة الغنية نفسياً والحياة السعيدة والحياة الهادفة.

ووجدوا أنَّ العديد من الأشخاص الذين يصفون حياتهم بأنَّها مثالية كان الأمر يعتمد على الثراء النفسي، وعندما أُجبروا على اختيار حياة، اختار الغالبية حياة سعيدة تتراوح من 49.7% إلى 69.9% وحياة هادفة 14.2% إلى 38.5%، ومع ذلك، لا تزال أقليَّة كبيرة من الناس تُفَضِّل الحياة النفسية الغنيَّة؛ حيث تتراوح من 6.7% في سنغافورة إلى 16.8% في ألمانيا.

ارتفعت هذه الأرقام عندما قِيْسَت الرغبة في حياة غنية نفسياً بشكل غير مباشر، لفهم ما هي طبيعة الحياة التي يريد الأشخاص أن يعيشوها، من المهم استكشاف ما يتمنى الناس أن يتجنَّبوه في حياتهم؛ لذلك، سَألَ أويشي (Oishi) وزملاؤه الناسَ عن أكثر الأمور التي يندمون عليها في حياتهم وما إذا كان التراجع عن هذا الحدث المؤسف في الحياة أو حدوث عكسه سيجعل حياتهم أكثر سعادة أو ذات مغزى أو أكثر ثراءً من الناحية النفسية.

ووجدوا أنَّ حوالي 28% من الأمريكيين قالوا إنَّ التَّراجع عن هذا الحدث المؤسف كان سيجعل حياتهم أكثر ثراءً من الناحية النفسية، على سبيل المثال، كتب أحد الأشخاص أنَّه يأسف لعدم ذهابه إلى كليَّة مدتها أربع سنوات للحصول على درجة علمية، وأنَّه يشعر وكأنَّه فَوَّت على نفسه بعض التجارب الممتعة، أما في كوريا، فكانت النسبة أعلى؛ حيث قال 35% من المشاركين إنَّ التَّراجع عن الحدث المؤسف كان سيجعل حياتهم أكثر ثراءً من الناحية النفسية، مقارنة بحياة أسعد 27.6% أو ذات مغزى أكبر 37.4%.

تُشير هذه النتائج إلى أنَّه في حين أنَّ معظم الناس يسعون جاهدين ليكونوا سعيدين ولدَيهم معنى وهدف في حياتهم، فإنَّ عدداً كبيراً من الناس يكتفون فقط بعيش حياة غنية نفسيَّاً، في الواقع، تُشير الأبحاث المتقدِّمة الأخرى إلى أنَّه بالنسبة إلى العديد من الأشخاص، فإنَّ تعدُّد التجارب هو أهمُّ من مجرَّد كونها "إيجابية" أو "سلبية"، كما يقول الباحث أويشي (Oishi) وزملاؤه: "نعتقد أنَّ أخذ الحياة الغنية نفسياً على محمل الجد، سوف يُعمِّق ويُوسِّع ويُحسِّن فهمنا للسعادة".

إقرأ أيضاً: ما هو المعنى الحقيقي للسَّعادة وكيف تعرف إن كنت سعيداً؟

في نهاية الأمر، لا يوجد طريق واحد مقبول للوصول إلى الحياة الرغيدة، عليك أن تجد المسار الذي يناسبك بشكل أفضل.

وكما قال الفيلسوف نيتشه (Nietzsche): "لا يستطيع أحد أن يبني لك جسراً على نهر الحياة، والذي عليك أن تعبره وحدك فقط، قد يكون هناك عدد لا يحصى من الممرَّات والجسور وأنصاف الآلهة التي ستنقلك بكل سرور؛ ولكن فقط إذا قمت بالتخلي عن نفسك والمراهنة بحياتك، هناك طريق واحد في العالم لا يمكن لأحد أن يسيره سواك، لا تسأل إلى أين سوف يقودك؛ بل فقط استمر بالمشي".

ومن ناحية أخرى، أضاف الفيلسوف قائلاً: "إنَّه عمل مؤلم وخطير أن يبحث الإنسان داخل نفسه، ويعبر بقسوة وبشكل مباشر في سرداب أعماقه".

إذا تعمَّقت في أعماق كيانك وأدركت أنَّ أفضل مسار لك هو أن تعيش حياة مليئة بالأفكار والعواطف والتجارب الغنية والمعقّدة - والتي يمكن أن تكون في بعض الأحيان سلبية ولكنَّها تؤدي في النهاية إلى تطوير الذَّات - فنحن نتمنَّى أن يُظهر لك هذا البحث أنَّه ليس مساراً وحيداً، هناك الكثير من الناس في العالم يتوقون إلى الحياة الثريَّة من الناحية النفسية، والذين يعطون الأولوية للابتكار والتنوُّع والتَّعقيد والشدَّة والعمق والمفاجأة في حياتهم اليومية.

المصدر




مقالات مرتبطة