عمر بن عبد العزيز، خامس الخلفاء الراشدين

اقترن اسمه بالعدل، فما يُذكر عمر بن عبد العزيز إلا وذُكر معه ليسير بذلك على خطى جدّه لأمّه الفاروق عمر بن الخطاب. كانت خلافته مليئةً بالإنجازات العظيمة، فحَمَلَ مسؤوليّة الإسلام والمسلمين منذ اللحظة التي نودي فيها بـ (أمير المؤمنين)، ثمَّ قال جملته الشهيرة التي تشبه كلمة جدّه لأمّه عمر بن الخطاب، فقال: "لو أنَّ سَخلةً هلكت على شاطئ الفرات، لأُخِذَ بها عمر يوم القيامة".



اسمه ونسبه وكنيته:

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحَكَم بن أبي العاص بن أميّة ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَيّ بن كلاب، أمير المؤمنين، أبو حفص، القرشي الأُمَوي، المدني ثمّ الدمشقي. ولد بالمدينة المنورة سنة ستّين للهجرة.

والده عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار الأمراء، شجاعاً، كريماً، جواداً. وأمّه هي أم عاصم (ليلى) بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

صفات عمر بن عبد العزيز:

1. صفات عمر بن عبد العزيز الجسدية:

كان رضي الله عنه:

  • أبيض رقيق الوجه.
  • مليحاً جميلاً.
  • نحيف الوجه.
  • حسن اللحية.
  • غائر العينين.
  • بجبهته أثر حافر دابّة، ولذلك سُمّي "أشجّ بني أميّة".
  • خطّه الشيب (أي فشا فيه، أو استوى سواده وبياضه).

2. صفاته الخُلُقية:

  • كان كريماً سخيّاً، فكان يُنفق في سبيل الله على العلماء والفقراء، والمساكين والمحتاجين، يبتغي بذلك وجه الله تعالى، ولا يرى لنفسه في ذلك فضلاً، ولا يستكثر نفقةً مهما عَظُمَت. وفي ذلك يقول رضي الله عنه: "ما أعطيت أحداً مالاً إلّا وأنا أستقلُّه، وإنّي لأستحي من الله -عز وجل- أن أسأل الجنّة لأخٍ من أخواني، وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة بيدك كنتَ بها أبخلَ".
  • كان رضي الله عنه شديد الخشية من الله تعالى صوّاماً قوّاماً، ولقد بدت إمارات التقوى والإحسان عليه منذ الصغر. وقد ساعده على ذلك شدّة مراقبته لربّه، والاستماع لنصائح الصادقين، ومواعظ الزاهدين، واجتماعه بالعلماء العاملين لتذكُّر الموت، والوقوف بين يدي الله تعالى. وكان إذا ذُكِرَ الموت اضطربت أوصاله، وانتفض انتفاض الطير، وبكى حتّى تجري دموعه على لحيته.
  • كان رضي الله عنه زاهداً قنوعاً. فعاش مع أسرته عيشة الكفاف والقناعة، بأقلّ ما تقوم به الحياة. وكان قبل الخلافة يؤتى بالقميص الناعم الليّن جدّاً، فيقول: "ما أحسن هذا لولا خشونة فيه"! ويلبس الحلّة بألف دينار. فلما وُلّي الخلافة، وأصبح على خزائن الأرض، لبس القميص الغليظ المرقوع، وهو يقول: "ما أحسنه لولا لِينُه". وما ثمنه أكثر من عشرة دراهم!!
    وكانت نفقته كلّ يومٍ درهمين، ويُكثِر من أكل العدس، ويأكل الغليظ من الطعام، ولا يُبالي بشيءٍ من النعيم.
  • كان رضي الله عنه شديد التواضع، لا يتكبّر على أحدٍ من عباد الله. فلم تزده الخلافة إلّا تواضعاً ورأفةً ورحمة. فكان يُصلِح سراجه بنفسه، ويجلس بين يدي الناس على الأرض، ويأبى أن يسير الحرّاس والشُرَّط بين يديه، ويُعنّف من يعظمه ويخصّه بسلامٍ من بين الجالسين، ويتأبى أن يتميّز بين الناس بمركب، أو مأكل، أو ملبس، أو مشرب.
    فعن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: قال لي رجاء بن حيوة: "ما أكمل مروءة أبيك! سمرت عنده، فعشي السراج، فقال لي: ما ترى السراج قد عشي؟ قلت بلى. وإلى جانبه وصيف راقد، قلت: أفلا أنبهه؟ قال: لا، دعه يرقد، قلت: أفلا أقوم أنا؟ قال: لا، ليس من مروءة الرجل استخدامه ضيفه. قال: فوضع رداءه، ثمّ قام إلى بطة زيت معلّقة فأخذها، فأصلح السراج، ثمّ ردّها في موضعها، ثمّ رجع وقال: قمتُ وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعتُ وأنا عمر بن عبد العزيز".
  • كان رضي الله عنه يتّصف بالحلم والأناة، والتثبّت والتروّي، والتمهّل والتفكّر، والابتعاد عن الغضب إلّا إذا انتُهِكَت محارم الله.
  • كان يمقت الكذب وينفر منه. فنشأ على الصدق، وما اجترح كذبةً منذ أصبح يميّز الخطأ من الصواب.
إقرأ أيضاً: صفات عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأهم أقواله

علمه ونشأته العلمية:

حُبّب إلى عمر بن عبد العزيز العِلْمُ منذ الصغر، وجالسَ كبار العلماء وأعيان الفقهاء والمحدّثين. يقول رضي الله عنه: "لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام مع الغلمان، ثمّ تاقت نفسي إلى العلم، إلى العربيّة فالشعر، فأصبتُ منه حاجتي".

أشياخه وبعض أعيانهم: أسند رضي الله عنه عن عدّة من الصحابة وكبار التابعين:

فمن الصحابة: أنس بن مالك، وسمع منه، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعمر بن أبي سلمة المخزومي، والسائب بن يزيد، ويوسف بن عبد الله بن سلام. وأرسل عن عبادة بن الصامت، وعقبة بن عامر، وعائشة، وخولة بنت حكيم، وغيرهم.

وروى عن جماعةٍ من كبار التابعين، منهم: ابن المسيب، وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن حارث، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بردة بن أبي موسى، وابن شهاب الزهري، وغيرهم.

وقد قام الإمام الحافظ الباغندي بتصنيف أحاديث عمر في مسنده الشهير، وقد بلغ عدد شيوخ عمر فيه ثلاثة وثلاثين شيخاً، ثمانية منهم من الصحابة، وخمسة وعشرون من التابعين.

إنجازات عمر بن عبد العزيز:

  1. أعادَ العمل بمبدأ الشورى، فمنذ أوّل يومٍ من خلافته قال للناس: "أيّها الناس، إنّي قد ابتُليت بهذا الأمر من غير رأيٍ كان منّي فيه، ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإنّي قد خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي"، فاختاره أهل الحلّ والعقد، وبايعوه، ثمّ بايعه الناس بيعةً عامّة، وبذلك خرج عمر من مبدأ توريث الولاية الذي تبنّاه مُعظم خلفاء بني أميّة إلى مبدأ الشورى والانتخاب.
  2. أقام العدل ونشر راياته في كلّ مكان، وحارب الظلم ولاحقه.
  3. ردَّ المظالم، ونزع الأموال من بين يدي بني أميّة ممَّا ليس لهم بحق، وأَمَرَ وُلاته أن يفعلوا ذلك بدورهم. وقد بدأ عمر بن عبد العزيز برد المظالم بنفسه. حيث روى ابن سعد: لمّا ردّ عمر بن عبد العزيز المظالم قال: "إنّه لينبغي أن لا أبدأ بأوّل من نفسي"، فنظر إلى ما في يديه من أرضٍ أو متاع، فخرج منه حتّى نَظَرَ إلى فص خاتم، فقال: "هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه ممّا جاءه من أرض المغرب"، فخرج منه. وقد بلغ به حرصه على التثبّت أنّه نزع حلي سيفه من الفضّة، وحلّاه بالحديد، قال عبد العزيز بن عمر: "كان سيف أبي محلّى بفضّةٍ فنزعها وحلّاه حديداً".
  4. أقام الحدود وأعطاها قداستها، وأعلن أنّها كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
  5. اختار الولاة الأكفّاء، وأمرهم بالعدل. كما حرَّم السخرة بأنواعها، وألغى الحراسة والحجابة والحُجَّاب، وأمر بفتح الأبواب للناس والمظلومين.
  6. سلّط الرعيّة على الأمراء، وقال لهم: "من ظُلِم فليأتني، ولا إذن له عليَّ". ومَنَعَ الوُلاة من التجارة والأعمال الأخرى، حتّى لا يستغلوا مناصبهم، فيعتنوا بالناس، إضافةً لاتّباعه معهم سياسةً لامركزيّة، فأعطاهم حريّة العمل في شؤون البلاد، إلّا أن يكون قتل نفسٍ فلا بدَّ من استشارته.
  7. رَفَعَ مكانة العلم، فدوّن الأحاديث، وفَرَضَ الرواتب للعلماء وطلبة العلم، ليتفرّغوا لذلك.
  8. ردّ للمال حرمته، ولبيت المال قداسته، فلا يُجبَى المال إلّا من وجه حق، ولا يُصرَف إلّا في وجهٍ مشروع. كما أعلن أنَّ المال ليس للتخزين، بل لصالح البلاد والعباد.
  9. ألغى أعمال الحجّاج والعمل بأحكامه الظالمة، ووضع الجزية عمّن أسلم، وساوى في العطاء بين العرب والموالي.
  10. فرض الأُعطيات للناس، وكان مناديه في كلّ يومٍ ينادي: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتّى أغنى كلّ هؤلاء، فلم يبقى محتاج، ولا من يَقْبَلُ الصدقة.
  11. عيَّن خدّاماً للعميان والزمنى (دائم المرض أو الضعيف من الكبر)، والمُقعدين واليتامى.
  12. أصلح التجارة والزراعة والاقتصاد، ووحَّد المكيال، وجعل الدولة تتحكّم في سياسة النقود.
  13. نشر الإسلام في بقاع الأرض، حتّى دخله البربر وملوك الهند والسند ومن تابعهم.
  14. ناقش أرباب المذاهب كالقدريّة والخوارج، حتّى ردّ معظمهم إلى الصواب، وطواهم تحت جناحه.
  15. شاع في عهد بعض الخلفاء الحطّ على علي بن أبي طالب وآله، وسبّهم، وشجّع على ذلك أصحاب النزعة المعادية لآل البيت. ولما جاء عمر بن عبد العزيز أمسك عن ذلك، ونهى عنه، وكتب إلى ولاته في الآفاق بتركه، وامتدحه الناس على ذلك. كما أكرم آل البيت، وأغدق عليهم الأعطيات، وردَّ لهم ما كانوا يأخذونه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمرهم ألا يقفوا ببابه إذا أرادوا حاجة، بل يدخلون بلا إذن.

كل تلك الإنجازات تمّت في عهده الذي لم يدم سوى لسنتين وخمسة أشهر وأياماً.

إقرأ أيضاً: الصحابي الجليل أبو بكر الصديق

أقوال العلماء في خلافته وعدله:

أثنى على خلافة عمر بن عبد العزيز وعدله، عددٌ من الأئمّة الثقات، والعلماء الصادقون ممّن عاصره ومن جاء بعده إلى زماننا هذا، وأجمعوا قاطبةً على أنّه من أئمّة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين، والأئمّة المهديين.

قال وهب بن منبه: "إن كان في هذه الأمّة مهدي، فهو عمر بن عبد العزيز". ونحو هذا قال ابن المسيب والحسن البصري ومحمد بن علي وغيرهم.

وقال الأئمّة سفيان الثوري والشافعي وأبو بكر بن عياش: "الخلفاء الراشدون خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز".

وقال الإمام أحمد بن حنبل: ((يروى في الحديث "أنَّ الله تبارك وتعالى يبعث على رأس كلّ مائة عامٍ من يجدّد لهذه الأمة دينها". فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز، ونظرنا في المائة الثانية فإذا هو الشافعي)).

وحدّث مالك بن دينار فقال: "لما استُعمل عُمر بن عبد العزيز على الناس، قال رعاء الشاء في رؤوس الجبال: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟ قيل لهم: وما علمكم بذاك؟ قالوا: إنّه إذا قام على الناس خليفةُ عدلٍ كفَّت الذئاب عن شائنا".

أثنت فاطمة بنت علي بن أبي طالب على عمر؛ وقالت: "لو بقي لنا ما احتجنا بعْدُ إلى أحد".

وقال فيه الإمام أبو جعفر الباقر: "لكلّ قوم نجيبة، وإنَّ نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، وإنه يُبعث يوم القيامة أُمّة وَحْدَه".

أقوال عمر بن عبد العزيز وحكمه ووصاياه:

 

المصادر:

  • كتاب عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، تأليف عبد الستار الشيخ، دار القلم دمشق، الطبعة الثانية 1996م.



مقالات مرتبطة