علم نفس النمو: تعريفه ونشأته وأهدافه

تلخِّص الآية القرآنية الكريمة {وَفِي أَنفُسِكُمْ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ} كمية الإعجاز التي وضعها الله سبحانه وتعالى في النفس البشرية؛ إنَّها مزيج من المشاعر والعواطف والأفكار والانفعالات والاستجابات والطباع المختلفة، وفي تقلباتها تعقيد يصعب فهمه.



في محاولات الإنسان لفهم نفسه وفهم المحيط من حوله، غاص في داخله، ولما وجده بحراً عميقاً سمَّى تبحُّره في ذاته "علم النفس"، ولما وجد في النفس ما لا يمكن إحاطته بعلم واحد، قسَّم هذا العلم إلى علوم عديدة منها: علم النفس العام، وعلم النفس الفارق، وعلم النفس الفيزيولوجي، وعلم النفس التجاري، وعلم النفس الصناعي، وعلم النفس العيادي، وعلم نفس النمو الذي سنخصص هذا المقال للإضاءة عليه وتعريفه والحديث عن نشأته وأهدافه.

تعريف علم نفس النمو:

إنَّ علم نفس النمو أو العلم التطويري أو علم النفس التنموي (Developmental psychology) هو فرع من فروع علم النفس، يركز على خصائص السلوكات البشرية في مراحل النمو التي يمر بها الإنسان خلال حياته، ويدرس العوامل المؤثرة في كل مرحلة والخصائص العامة التي تميزها عن غيرها من المراحل.

علم نفس النمو هو منهج علمي يركز على كيفية تغير البشر بنموهم، ويشرح الاتساق بين التغيير والنمو طوال حياة الإنسان، ولا تقتصر دراسة المتخصصين فيه على الاهتمام بالتغيرات الجسدية التي تحدث بمجرد تقدُّم الإنسان في السن؛ بل يتابعون سياق التطور العاطفي والمعرفي والاجتماعي خلال الحياة البشرية أيضاً.

يكون اللجوء إلى علم نفس النمو مفيداً وفعالاً في حالات اكتساب اللغة، وإدراك التطور العاطفي، وتنمية المهارات الحركية، والتعامل مع التطور المعرفي خلال مراحل الحياة، وإدراك الوعي الذاتي وتطور الذات، وتنمية الشخصية، ومعرفة التأثيرات الاجتماعية والثقافية في نمو الطفل، واكتشاف المنطق الأخلاقي، والتحديات التنموية وصعوبات التعلم.

إنَّ هذه المجالات بحورٌ يقضي فيها المتخصصون في علم نفس النمو أوقاتاً طويلة، من أجل التدقيق وملاحظة كيف تتم هذه العمليات بصورة اعتيادية، كما أنَّهم يبذلون جهداً مضاعفاً في دراسة الأشياء التي تعرقل سير العمليات التنموية.

نشأة علم نفس النمو:

لم يكن علم نفس النمو موجوداً حتى بعد حدوث الثورة الصناعية، وأول ما وُجد كان متخصصاً بالطفولة؛ إذ اقتضت الحاجة في تلك الفترة إلى وجود قوة عاملة متعلمة، وكان التركيز على البناء الاجتماعي للطفولة بِوصفها مرحلة مؤثرة من حياة الإنسان، وهذا ما جعل البحث في مفهوم الطفولة يبدأ في العالم الغربي.

لقد بدأ البحث ينصب في مصلحة جعل عمليات التعلم والتعليم للأطفال أكثر فاعلية، ليتم تأهيلهم كما ذكرنا ليصبحوا قوة عاملة فعالة، ومن هنا بدأت دراسة عقل الطفل، وتطورت لتتناول التغييرات التنموية في فترة البلوغ فيما بعد، وإنَّ مردَّ التطور في البحث المتعلق بعلم نفس النمو هو التقدم الذي طال العلوم الطبية.

في فترة سابقة وتحديداً عام 1822 نشر العالم الفيزيولوجي الألماني "فيلهلم بريير" كتاب "عقل الطفل" وصف فيه تطور ابنته من الولادة حتى عمر السنتين ونصف، واعتمد في دراسته لقدراتها المتنوعة على إجراءات علمية صارمة، تضمن الدقة والموضوعية في التوصيف.

وفي عام 1877 أُجريت أول دراسة لعلم نفس النمو، وقام بها "تشارلز داروين"، وكانت الدراسة عبارة عن ورقة بحثية قصيرة استقى معلوماتها من ملاحظاته العلمية على تطور ابنه الرضيع "دودي"، وكانت توضح بالتفصيل أشكال عمليات التواصل الفطرية.

شاهد بالفيديو: 12 قانون في علم النفس إذا فهمتها ستُغيّر حياتك

أهداف علم نفس النمو:

إنَّ أهداف علم نفس النمو هي كشف الستار عن الغموض الذي يكتنف بعض التصرفات الإنسانية، ومحاولة معرفة جذور الآراء والمواقف التي يتخذها الإنسان اعتماداً على التغيرات التي مر فيها في مراحل نموه. ويمكن تلخيص هذه الأهداف بما يأتي:

  1. تعريف الباحث بالنفس الإنسانية وطبيعتها والمراحل التي تمر بها، ومشاركة الآباء والمعلمين والاختصاصيين الاجتماعيين والنفسيين في هذه المعرفة؛ وهذا يكسبهم الوعي الكافي لاختيار الطريقة الأنسب في التعامل مع المراهقين والأطفال والمسنين، استناداً إلى قاعدة فهمهم لطبيعة نموهم وخصائصه.
  2. الإحاطة بتفاصيل المعرفة التامة لطبيعة الأفراد ومكونات شخصياتهم، ودور البيئة والوراثة في التأثير في سلوكاتهم ورغباتهم ودوافعهم، وتأثير العوامل المحيطة بالفرد في عملية تشكيل شخصيته وصقلها وتعديلها، ومن ثمَّ الفهم الصحيح لطبيعة النمو المختلفة التي يمر بها كل فرد، أو مجموعات الأفراد التي تمر بظروف متماثلة.
  3. فهم السلوك البشري من جميع أبعاده وزواياه ومعرفة كيفية تعديله، وتحديد العوامل التي تؤثر فيه سلباً وإيجاباً، وبناء على ذلك يتم الوصول إلى الطرائق الأمثل للتنشئة الاجتماعية وتقويم السلوك الإنساني وتعديله وتغييره وضبطه بما يحقق سعادة الإنسان وسلامته وسلامة المحيط.
  4. الإحاطة بقوانين النمو التي تتحكم بسرعته وطبيعته، ومعرفة علاقة النمو بالجوانب الحياتية الأخرى؛ وهذا يتيح فهم الأطفال وإنشاء الآليات المناسبة للتعامل معهم وفق مراحلهم العمرية من الصغر حتى البلوغ، ومن ثمَّ تنميتهم تنمية سوية تَعُدُّهم لمرحلة النمو السليم القادمة.
  5. معرفة الفروقات الفردية بين الأفراد في المجتمع، والتعرف إلى الفروق الجندرية في مجال النمو النفسي بين جنسي الصنف البشري.
  6. تحديد الأهداف التربوية المثلى، والاستناد إليها في عملية بناء منهج شامل وواضح بما يخص متطلبات النمو، ووضع المناهج الدراسية وتصميم طرائق التدريس وآلياته، وتحديد الخبرات التعليمية التي تساعد المعلم على تحقيق جميع مطالب النمو الخاصة بكل مرحلة تعليمية؛ وذلك لأنَّ إحاطة المعلم بخصائص النمو لطلابه والمادة التي يدرسها ووعيه بها يساعد على تعزيز العملية التعليمية ورفع مستوى إدراك الطلبة للمحتوى العلمي.
  7. الإبقاء على المناهج التعليمية والمناهج التربوية في حالة تحديث مستمر لكي تظل مواكبة لمطالب النمو والتغييرات والمستجدات التي تطرأ في كل عصر، ومعرفة الدوافع التي تشجع الأفراد للتطلع نحو المستقبل وتزويدهم بها؛ وذلك عن طريق التربية المحدَّثة المستمرة التي تبقيهم مواكبين لجميع تطورات وتغيرات العصر.
إقرأ أيضاً: علم النفس التحفيزي: سر قوة الدافع

مراحل نمو الإنسان وفق علم نفس النمو:

قسَّم علم نفس النمو حياة الإنسان إلى مجموعة من المراحل العمرية التي تتميز كل مرحلة منها بخصائص معينة، وهذه المراحل هي:

1. مرحلة ما قبل الولادة:

هي المرحلة التي يقضيها الإنسان في الرحم قبل ولادته، ويسعى المتخصصون في علم نفس النمو إلى فهم كيفية تأثير التأثيرات المبكرة في حياة الإنسان، وينظرون إلى كيفية ردود الفعل قبل الولادة واستجابة الأجنة للمنبهات في الرحم، والمشكلات المحتمل مواجهتها من قِبل المولود مثل متلازمة داون والأمراض الوراثية وتعاطي المخدرات الأمومية.

2. مرحلة بعد الولادة:

هي المرحلة الممتدة من لحظة ولادة الإنسان حتى عمر السنة، والتي يحتاج فيها إلى الرعاية والتغذية من الأم، والتي ما إن حصل عليها حتى يبدأ بتطوير مشاعر الثقة بالآخرين.

إنَّ حرمان الطفل من هذه الرعاية في هذه المرحلة العمرية من شأنه أن يفقده الثقة بالناس في مراحله العمرية اللاحقة، على الرغم من أنَّه لا يملك الإدراك العقلي الكامل فيها.

3. مرحلة الطفولة المبكرة:

هي المرحلة الممتدة من عمر سنة حتى ثلاث سنوات، يختبر فيها الإنسان النمو العقلي الذي يعزز لديه رغبة في الاستكشاف واكتساب المهارات الحياتية. ويحتاج الإنسان إلى الإرشاد والتوجيه من المربين في هذه المرحلة، كونها المرحلة التي يبدأ فيها الحكم العقلي على الآخرين بالتشكل.

4. مرحلة الطفولة المتوسطة:

هي المرحلة العمرية بين 3-5 سنوات، وفيها تزداد الرغبة في التعلم وتجربة الأشياء الجديدة، وتتأثر هذه الرغبة بتشجيع الأهل وإنشائهم الفرص الملائمة لها، وما إن يتم تشجيعها حتى تظهر علائم الإبداع، أما إذا تم إحباطها فقد يتم إسكاتها إلى الأبد.

إقرأ أيضاً: علم النفس وصناعة النجاح: كيف يمكن أن يكون الفشل مفتاح النجاح؟

5. مرحلة الطفولة المتأخرة:

هي المرحلة الممتدة حتى عمر 12 سنة، وفيها يزداد الإدراك العقلي ازدياداً ملحوظاُ، ويتعلم الإنسان كيف يبذل جهداً لإتمام المهام واكتساب الخبرات، وفي هذه المرحلة يكون من واجب الأهل توجيه الطفل نحو مهمات منطقية لينجزها، حتى تتطور لديه مشاعر الثقة بالنفس.

6. مرحلة المراهقة:

هي المرحلة التي تبدأ من عمر 12 سنة ويمكن أن تمتد حتى سن العشرين، ولعلَّ البلوغ هو أبرز ما يميز هذه الحقبة الزمنية من عمر الإنسان، والذي يترافق عادة بتغيرات كثيرة وجذرية في حياته الاجتماعية والعاطفية والجنسية.

مما يميز هذه المرحلة هو ميل معتقدات الإنسان نحو الشعور بالرضى النفسي والتقبل الاجتماعي للآخرين من حوله، والذي غالباً ما يزول بزوال هذه المرحلة، وعلى الرغم من ذلك تبقى بصماته الجوهرية في تكوين الذات واستكشاف طريق المستقبل وتحديد الرغبات الطموح.

7. مرحلة الرشد المبكر:

هي المرحلة الممتدة من عمر 20 حتى 30، وفيها تتم عملية صقل المهارات التي اكتسبها الإنسان، ويصبح له كيانه المستقل في المجتمع ومكانته التي تميزه حتى لو كانت متواضعة وبسيطة، وتتبلور مرحلة النمو العقلي في هذه الفترة وتترافق مع حمل مسؤوليات الجدّي من قِبل الإنسان، وتتقلب الحالة العاطفية له حسب تعاطيه مع هذه المسؤوليات.

لعلَّ أكثر أمر يساعد الإنسان على عيش حياة طبيعية في هذه المرحلة هو امتلاك عائلة داعمة ودائرة مقربة مُحِبَّة، وبغياب هؤلاء الأشخاص يتجه الإنسان نحو حياة العزلة والابتعاد عن الآخرين.

شاهد بالفيديو: 10 خطوات لاكتساب شخصية قوية حسب علم النفس

8. مرحلة الرشد الناضج:

بحسب علم نفس النمو فإنَّ هذه المرحلة تمتد من أول الثلاثينيات حتى عمر 65 عاماً، وهي مرحلة منتصف العمر والنضج الذي تكون أبرز علاماته التخلي عن الرغبات الذاتية والاتجاه نحو تقديم الخدمات للأجيال الأصغر، مثل إنجاب الأطفال ورعايتهم، والاهتمام بالمراهقين والانخراط في ممارسات اجتماعية تتعلق بهم.

9. مرحلة الشيخوخة:

هي المرحلة الممتدة من سن 65 وحتى نهاية عمر الإنسان، وفيها يقف الإنسان على أطلال حياته متفرغاً لإدراك مشاعره عما فعل فيها، كون الحدود ترتفع أمام تحقيق رغباته في الوقت الحالي، فيتذكر الماضي ويشعر تارة بالرضى وتارة أخرى بالخيبة، ومن الطبيعي أن تتسلل إلى نفسه في هذه المرحلة مشاعر اليأس أو الخوف من الموت أو موت شخص يحبه.

في الختام:

إنَّ علم نفس النمو هو واحد من أهم فروع علم النفس، ويعمد إلى تقسيم حياة الإنسان إلى مراحل عمرية، يكون لكل مرحلة منها سماتها الخاصة وخطوطها العريضة المشتركة بين جميع البشر، وتبقى التجارب الشخصية التي يمر بها كل فرد في حياته صاحبة البصمة الأكثر تأثيراً والعلامة الفارقة في مسيرة تطوره وتغييره. 

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة