عقلية الموارد البشرية

يتحدث الجميع عن مستقبل العمل، ولكن قليل من الأشخاص يطرحون السؤال الأهم: ماذا ينبغي أن يكون هذا العمل؟



كان "جون هاجل" و"جون سيلي براون" (John Hagel and John Seeley Brown) الرئيسين المُشاركين سابقاً لـ "مركز دلويتس فور ذا إيدج" (Deloitte’s Center for the Edge) المتعلقة بنمو الشركات الجديدة منذ عام 2007، يطرحان أسئلة في عملهما لتحديد الفرص الجديدة والتحولات الكبيرة في الأعمال، وفي بحثهم الأخير بحثوا بعمق في هذا السؤال: إلى أين سنمضي بمستقبل العمل؟

وتشير أبحاثهم إلى أنَّ: "العديد من المبادرات تركز في المكاسب الإضافية أو النشاطات المعززة للكفاءة"، فهم يطلقون على أتمتة العمليات الروبوتية والذكاء الاصطناعي والتعلُّم الآلي اسمَ: "أدوات جديدة مبهرة"، وتستطيع الشركات استعمالها لخفض التكاليف والعمل بسرعة أكبر وبقدر أقل من العمالة البشرية؛ إلَّا أنَّهم يحذرون من أنَّه "عندما تؤيد المنظمات هذا المنظور المحدود، فإنَّ العمل في المستقبل سيكون هو عمل اليوم نفسه".

وكما أشار "هاجل" و"براون"؛ نحن نملك فرصة أكبر من أن نقوم بالشيء نفسه دائماً، ولكن بسرعة أكبر وبطريقة أرخص، وتتمثل الفرصة الكبيرة التي ذكرها الباحثان في توسيع مفاهيم القيَم بما يتجاوز التكلفة التي تتحملها الشركة، ولدى الشركات أدوات إضافية لاستكشاف مصادر جديدة للقيم وكيفية أن تبقى الشركات قادرة على المنافسة وسط التغير السريع في سوق العمل.

إنَّ الشركات التي تنجح في إعادة تعريف العمل - إذ تركز في الخصائص الإنسانية - تُمكِّن موظفيها من المشاركة في أربعة أنواع من النشاطات مثل: تحديد المشكلات والفرص غير المرئية، ووضع نهج لحل المشكلات واغتنام الفرص وتنفيذ نُهجٍ جديدة وتكرار استعمال المعلومات والتعلم استناداً إلى ما تحققه من أهداف.

التركيز في إعادة تعريف العمل كمسار مُتقدِّم إلى الأمام، وليس إعادة تصميم الوظائف فحسب:

إنَّ تطبيق الروبوتات وأتمتة العمليات وتقنيات الإدراك والذكاء الاصطناعي تُقدِّم فرصاً غير مسبوقة لتحسين الكفاءة والإنتاجية، وللأسف تُوجِّه العديد من الشركات جهودها في المستقبل نحو إعادة تصميم الوظائف بشكل محدود من أجل تحقيق الكفاءة وتوفير التكاليف، بدلاً من إعادة تعريف العمل، وهذا الأمر لن يجعلهم يحققون إنجازات كبيرة.

وفي النظرة المحدودة لإعادة تصميم الوظائف يُقدِّم العمال توفيراً في التكاليف بدلاً من القدرة على خلق قيم جديدة للأعمال والعملاء، فعندما تعيد أغلب الشركات تصميم الوظائف، فإنَّ تركيزها المحدود ينصب على الإنتاجية وعلى نتاج العمل نفسه، ولكن بشكل أسرع وأرخص وبأخطاء أقل، ولا يتمثل التحدي في إعادة تصميم الوظائف فحسب؛ بل أيضاً في توسيع نطاق التركيز ليشمل إعادة تعريف العمل، بما في ذلك استراتيجيات المنتجات ونماذج الأعمال التجارية.

أمَّا بإعادة تعريف العمل؛ فيركز الموظفون في جميع المستويات من أجل إيجاد ومعالجة المشكلات والفرص غير المرئية، وقد أشار "هاجل" و"براون" في بحثهم إلى أنَّ: "معالجة مشكلة أو فرصة غير مرئية يمكن أن تولد قيمة أكبر؛ وذلك لأنَّه لم يُنظَر فيها أو تُفهَم جيداً، فيوجد مجال للتعلُّم والتأثير؛ وذلك من خلال محاولة فهم وضع جديد تماماً بشكل أفضل من إجراء تحسينات تدريجية في قضية محددة بشكل جيد".

ثمة تحول حاسم بالنسبة إلى قادة الأعمال التجارية يتمثل في تحقيق التوازن بين التركيز في الكفاءة والإنتاجية من جهة وبين الابتكار والقيم من جهة أخرى، إنَّ الإبداع لا ينشأ عن الإنتاجية والكفاءة ما لم يواجه فريق العمل والمديرون والموظفون التحديات لكي يدركوا أنَّ العمل الأفضل هو ليس العمل على الشيء ذاته مراراً وتكراراً؛ بل على شيء جديد وقيِّم ومنتجات وخدمات وخبرات جديدة، وتُعرَف أيضاً باسمِ "روح المبادرة"، فهو مزيج من القيمة بالنسبة إلى العميل وسلامة القوى العاملة. ويمكن أن تكون للكفاءة وتوفير التكاليف قيم أكبر وطويلة الأمد عندما يستعمل كبار رجال الأعمال التكاليف الموفَّرة في تمويل الاستثمارات في منتجات جديدة وتعزيز العلاقات مع العملاء والتحدث عن تجاربهم.

على سبيل المثال، أدى انتشار آلات الصراف الآلي إلى إعادة تصميم وظائف المصرفيين بأن يقوموا بخدمات مختلفة عن تلك الآلات.

شاهد بالفديو: مهام الموارد البشرية

الاستفادة من المواهب:

لقد انفصل العمل والقوى العاملة على نحو متزايد عن الشركات، كما شهدنا مع زيادة القوى العاملة البديلة؛ كالمتعاقدين والعمال المستقلين والمتعاقدين المستقلين، ومع زيادة القوة العاملة لتشمل سلسلة أوسع بكثير من الأشخاص الذين يعملون بطرائق جديدة وفي أماكن جديدة، فإنَّ العقلية التقليدية لإدارة المواهب المتمثلة في "اجتذاب الموظفين وتطويرهم والاحتفاظ بهم" بدأت تنحسر أمام النُهج الجديدة.

لقد ركزت دورة حياة الموظفين في توظيف الموظفين الذين نحتاج إليهم، وتطويرهم بمسارات وظيفية وخطية محددة والتمسك بهم - ولا سيما "بأصحاب المواهب الأساسية" - لأطول فترة ممكنة.

توضِّح شركة "ديلويت للاستشارات" (Deloitte Consulting) بأنَّ تحويل القوى العاملة يُطوِّر نهجاً جديداً يتجاوز دورة حياة الموظف التقليدية، إلى دورة النظام البيئي للقوى العاملة وتشمل: إمكانية الوصول والرعاية والمشاركة:

  • إمكانية الوصول: كيف تستفيد من القدرات والمهارات على نطاق مؤسستك ونظامك البيئي الأوسع؟ يشمل ذلك الاستعانة بالمواهب الداخلية والخارجية واستثمار المواهب داخل وخارج نطاق الميزانية العمومية.
  • الرعاية: كيف نزود الموظفين والفِرَق بأوسع نطاق من التطوير وأكثره جدوى؟ إنَّ هذا يشمل خبرات العمل التي تُضاف إلى عملهم وحياتهم المهنية وحياتهم الشخصية.
  • المشاركة: كيف تتفاعل مع قواك العاملة وفِرَق العمل ومع شركائك وتدعمهم لبناء علاقات قوية؟ يشمل ذلك وظائف متعددة الاتجاهات داخل المؤسسة وخارجها ولقادة قطَّاع الأعمال وفرَقِهم؛ وهذا يوفر رؤية ثاقبة لتحسين الإنتاجية والتأثير مع الاستفادة في الوقت نفسه من طرائق العمل الجديدة ومن العمل الجماعي والتكنولوجيا الرقمية الجديدة.
إقرأ أيضاً: 4 طرق لجذب أفضل المواهب إلى الشركات

الاستثمار في القدرات من أجل قوة عمل مرنة، تتجاوز التركيز المحدود في المهارات:

يدور مستقبل العمل في فلك مجموعات جديدة من الناس والآلات، وسوف تستفيد الفِرَق من الطرائق الثلاث التي يعمل بها الناس والآلات معاً؛ وذلك من خلال الاستبدال والتعزيز واستهلاك المزيد من الوقت في عمل يتسم بالطابع الإنساني الفريد.

ويمكن تطبيق النهج الثلاثة نفسها على الوظائف الفردية لخلق "وظائف خارقة"؛ أي تولي بعض المهام أو أجزاء من بعض المهام وزيادة قدرة العمال للقيام بمزيد من الأعمال في كثير من الأحيان، وبشكل أسرع وأكثر دقة وعلى مستويات أعلى من التعقيد، وتوفير الوقت للتركيز في عمل وقدرات إنسانية فريدة.

وبالتركيز في الفرص التي يوفرها الجمع بين الذكاء البشري والذكاء الآلي، فإنَّ كتاب "عقول خارقة" (Superminds) للكاتب "توم مالون" (Tom Malone) في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT)، يمثل تحولاً في نظر العديد من قادة الأعمال بأنَّه على الرغم من الضغوطات يجب التركيز في الكفاءة والتكاليف على الأمد القريب.

يحذِّر الاقتصادي الكبير "دارون أسيموغلو" (Daron Acemoglu) من مخاطر ما يسميه النوع الخاطئ من الذكاء الاصطناعي؛ مشيراً إلى أنَّه: "إذا كان الاهتمام يكرَّس بشكلٍ غير كافٍ في هذه المرحلة الحرجة على الاختراعات الجديدة وخلق الطلب عليها، بدلاً من مجرد الاستبدال والعمل، فسيكون هذا هو النوع "الخاطِئ" من الذكاء الاصطناعي من وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية، وبدلاً من تعزيز الإنتاجية وتشغيل العمالة والازدهار المشترك، فإنَّ التشغيل الآلي المنتشر من شأنه أن يساهم في النمو الضعيف والتفاوت بين الناس".

تتحمل الشركات مسؤولية فريدة لبناء قدرات القوى العاملة؛ إذ ذكرت شركة "ديلويت" في استطلاع رأس المال البشري العالمي لعام 2020 أنَّ الكيانات التي يُنظَر إليها على أنَّها مسؤولة في المقام الأول عن تنمية القوى العاملة؛ هي المنظمات والشركات أولاً 73% والأفراد ثانياً 54%؛ إذ تجاوزت كل منهما الوحدات الثلاث التالية في القائمة: المؤسسات التعليمية 19% والحكومات 10% والنقابات والجمعيات المهنية 8%.

وقال 45% فقط من الذين استُطلِعَت آراؤهم في التقرير نفسه إنَّ منظماتهم تُكافِئ العمال على تطوير المهارات والقدرات، وإنَّ أقل من ذلك بنسبة 39% يُكافئون القادة لتطوير المهارات والقدرات في فرقهم.

وبالإضافة إلى إعادة تأهيل القوى العاملة لتتناسب مع الاحتياجات في الأمد القريب، يتعيَّن على القادة أن يفكروا في تبنِّي نهج جديد للتعامل مع تنمية القوى العاملة كونها استراتيجية لبناء قدرة العمال والمنظمات على التكيف، وتجهيز العمال والمنظمات بالأدوات والاستراتيجيات اللازمة للتكيُّف مع مجموعة من التوقعات غير المؤكَّدة في المستقبل، فمن خلال نظرة مرنة أكثر يتحول تجديد القوى العاملة من شيء قد يهدد أمن العمال إلى الشيء الذي سيحدد هويته. فالعمال القادرون على تجديد مهاراتهم وتعلُّم مهارات جديدة، هم الأكثر قدرة على العثور على عمل في سوق العمل الذي يشهد تحولاً سريعاً.

إقرأ أيضاً: 3 تقنيات يمكنك استخدامها لإعادة المهارة للموظفين

تطوير القدرة على القيادة ببراعة:

إنَّ أحد التحولات التجارية والتنظيمية الأساسية بالنسبة إلى القادة بالمستقبل المتسارع في العمل، يتلخص في تجاوز العقليات القائمة على استراتيجيات ثابتة وخطية، التي يمكن التنبؤ بها. وفي عالم مُتقلِّب وغير مؤكد ومعقد وغامض، ومع استمرار تسارع التكنولوجيا، يلزم أن يكون القادة على استعداد دائم لاستيعاب التغيرات الآنية والتكيُّف معها، ويكمن جوهر هذا التحدي في بناء منظمات قابلة للتكيف واستعمال طرائق عمل ذكية.

يجب أن يتحول تركيز القادة من التركيز في التسلسل المتدرج وطريقة سير العمل إلى التركيز في فِرَق العمل والتحسُّن المستمر والنتائج الجديدة، ويمكن أن تُعيدَ فرق العمل التشكيل بسرعة لمواجهة التحديات الجديدة عند الحاجة، وكما ذكَّرَنا "توم فريدمان" (Tom Friedman)، الكاتب العالمي في صحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times) بأنَّ الفِرَق واللاعبين الفرديين يتعيَّن عليهم أن يبقوا على استعداد "كشخص يتدرب للألعاب الأولمبية ولكنَّه لا يعرف ما هي الرياضة التي سيشارك فيها".

في جهودهم باجتياز جائحة "كوفيد-19" (Covid-19)، وجدت فِرَق الأعمال والفِرَق التنفيذية في جميع أنحاء العالم أنَّ تحدياتهم معظمها لا تتناسب بدقة مع الخطوط التنظيمية؛ حيث شملت القوى العاملة "الموارد البشرية" والعملاء "المبيعات والخدمات" والتمويل والتكنولوجيا "تكنولوجيا المعلومات"، واشتملت أيضاً على البحث والتطوير وسلسلة الإمداد وقادة وحدات العمليات التجارية، كما أنَّها كثيراً ما تتطلب تعاوناً واستجابة في الوقت الفعلي تقريباً.

في أبحاث شركة ديلويت في عام 2018، وُصِفَت استجابة الفريق بأنَّها: "استجابة إدارية ناجحة"، وفي هذه البنية يجمع المديرون التنفيذيون في العقلية الإدارية الناجحة بين وحدة العمل والملكية الوظيفية مع فريق متعدد الوظائف لتشغيل المنظمة كشبكة ذكية، ويتعيَّن على كبار القادة أن يخرجوا من مستودعات العمل مع بعضهم بعضاً، ولمواجهة التحديات المتعددة التخصصات يتعيَّن على كبار قادة الشركات أن يعملوا كفِرَق من القادة.

المشاركة في إنشاء القوى العاملة وإقامة شراكات معها من خلال تعزيز دور أسواق المواهب؛ وذلك لتجاوز النهج التقليدي المتمثل في إدارة العمل والقوى العاملة كوظائف إدارية مقررة مسبقاً.

إنَّ واحدة من أكثر طرائق العمل الجديدة إثارةً للاهتمام تتلخَّص في تقديم أسواق المواهب على أنَّها آليات لمضاهاة الطلب المتزايد على الوظائف بدوام كامل، والمشاريع قصيرة الأجل والمشاريع الكبيرة والصغيرة؛ وذلك بالاستعانة بموظفين وعمال بديلين.

وقد بيَّن بحث حدث مؤخراً حول أسواق الفرص الاستعمال المتزايد لأسواق الفرص، التي تُعرَّف بأنَّها "أنظمة ومنصات تمكِّن المواهب من الوصول إلى فرص ذات قيمة استراتيجية مع بناء المهارات والقدرات لأنفسهم"، ويمكن أن تُسهِّل هذه الأسواق التبادلات بشكل أفضل وأسرع بين المنظمات وعمالها؛ وذلك "من خلال تمكين العمال وتشجيعهم على تقييم واختيار الفرص الهامة للمنظمة ولأنفسهم".

وهذا التحول يتجاوز إدارة العمل إلى نهج يمكن من خلاله أن توفِّر المجتمعات والمنافسات ذاتية التنظيم أنواعاً جديدة من التعاون والإبداع المشترك.

إنَّ الإبداع المشترك والانضمام إلى فريق واحد والتعاون لم يُصمَّموا بحيث تتم إدارتهم أو التحكم بهم بالطريقة نفسها التي أُشرِفَ بها على العمل في القرن الماضي، وبما أنَّ العمل أقل ميكانيكية وأقل اعتماداً على المعالجة؛ لأنَّ العمل القائم على المعالجة يمكن أن يكون آلياً إلى حد كبير، وأقل توحيداً؛ لأنَّ العمل المعياري يمكن أن يكون آلياً بشكل كبير، عندها يصبح العمل رياضة جماعية.

ينتقل التركيز من السيطرة إلى التواصل والإبداع المشترك؛ إذ إنَّ مستقبل العمل يدور حول طرائق جديدة للتعاون بين الناس والفِرَق والمديرين لحل المشكلات الجديدة، بقدر ما يدور حول تركيبات جديدة من الناس والروبوتات والذكاء الاصطناعي والآلات التي تعمل معاً.

المصدر




مقالات مرتبطة