سايكولوجيا التمركز حول الذات عند الأطفال

إنَّ حالة التمركز حول الذات هي حالة شائعة جداً؛ إذ يُخبِرنا علماء النفس أنَّ معظم الناس قد مروا بها في مرحلة ما من مراحل حياتهم، وتُعرَف بأنَّها حالة يحاصر فيها الإنسان ذاته ويراقبها بعين الحكم أو المراقب أو حتى الجلاد، لا بل إنَّه قد ينسى وجود أشخاص آخرين في هذا العالم، ويترك كل الكون وما به من تفاصيل وأحداث ومجالات ويراقب ذاته المسكينة.



ومن الأشكال الأخرى الهامة التي ينطوي عليها التمركز حول الذات هي الإصرار على رؤية كل شيء من وجهة نظر ذاتية أو شخصية بحتة، دون أن نضع في حسباننا مصالح الآخرين وما يريدونه.

هل التمركز حول الذات هو موضوع فطري أم مُكتَسب؟

في حقيقة الأمر ظلَّ هذا السؤال مثار تساؤل بين العلماء لزمن طويل؛ وهذا له علاقة بالجدال الحاصل بين مَن لا يَعُدُّ الإنسان شريراً بالفطرة، وطرف آخر يَعُدُّه شريراً بالفطرة.

توالت الدراسات في العصر الحديث التي تثبت مفهوم أنَّ الخير والشر هما مصطلحان بشريان ولا تعترف بهما الطبيعة أو النظام الكوني، فعلى سبيل المثال تتحرك الطبقات التكتونية في القشرة الأرضية ومن ثم تنشأ الزلازل والفيضانات التي تودي بحياة آلاف الأشخاص وتدمِّر المنازل والمعامل ومصالح الناس المختلفة، وهنا لا يصح تسمية الشر؛ وذلك لأنَّ الشر يرتكز على مبدأ نية الإيذاء، وهذه صفة بشرية بحتة غير موجودة لدى الطبقات التكتونية المسببة للزلازل.

استند بعض الباحثين إلى أنَّ التمركز حول الذات - بمعنى مصلحة الذات - هو حالة فطرية غير مكتسبة، بالنظر إلى أنَّنا حين نجرب اللعب مع طفل يبلغ من العمر سنين، سنلاحظ أنَّه يحب اللعب لإرضاء ذاته، ويحاول أن يفعل أي شيء من أجل تحقيق مصلحته بصرف النظر عن أي أمر آخر.

بناءً على هذه الملاحظة استنتج الباحثون أنَّ الحالة المعاكسة لحالة التمركز حول الذات هي مهارة تتطلَّب التعلُّم والتدريب من أجل اكتسابها؛ إذ إنَّ الطفل يتعلم مع الوقت أن يخرج - ولو قليلاً - من حالة التمركز حول الذات، ويصبح قادراً على أن يعطيَ إخوته بعض الحلوى الخاصة به من تلقاء نفسه.

التمركز حول الذات عند الأطفال:

إنَّ أكثر الحالات التي تتجلى فيها مظاهر التمركز حول الذات تكون عند الأطفال الصغار؛ إذ إنَّ الطفل في مراحله العمرية من السادسة حتى الثامنة يأخذ كل الأشياء المحيطة به من منظور ذاتي أو شخصي، ويظهر ذلك في سؤاله: "لماذا تمطر السماء؟" على سبيل المثال، فهنا الطفل لا يسأل عن السبب الحقيقي لهطول المطر؛ إذ إنَّ سؤاله في الحقيقة يكون "لماذا تمطر الآن؟ أنا أريد الخروج من المنزل واللعب بالكرة"، وتفسير هذا الأمر أنَّ الطفل يتبع مبدأ "الإحيائية"؛ أي إنَّ الطفل يصبغ صفة الحياة على جميع الأشياء مثل المطر والسحاب، ويظن بذلك أنَّ المطر يهطل ليزعجه.

أجرى بعض الباحثين دراسات على مسألة ما إذا كان الطفل قادراً على فهم مشاعر الأطفال الآخرين أم لا، ودلَّت مخرجاتها على أنَّ معظم الأطفال الذين أتمُّوا سنتهم الرابعة كانت لديهم القدرة الواضحة على تمييز مشاعر الفرح والسعادة عند الأطفال الآخرين.

فيما كان الأطفال الذين ينتمون إلى الفئة العمرية بين الأربع والسبع سنوات، أكثر قدرة على تمييز مشاعر الخوف والحزن والغضب عند أقرانهم.

ما هي أسباب ظهور حالة التمركز حول الذات عند الأطفال؟

1. تجاهل الأهل لطفلهم أو إهمال احتياجاته:

إنَّ أكثر ما يبحث عنه أي طفل في العالم هو الانتباه والاهتمام، نعم إنَّه يبحث عن الاهتمام أكثر مما يبحث عن الطعام والشراب، فإذا شعرَ الطفل بأنَّ الأسرة لا توليه الاهتمام المطلوب - وخاصةً في الحالات التي يشعر فيها بالقلق أو الغضب أو الخوف - فهذا يدفعه إلى الانطواء على ذاته والتمركز حولها؛ وذلك من خلال التركيز في تصرفاته وألعابه الخاصة دون أخذِ الآخرين في حسبانه؛ وهي حالة طبيعية تدفع الطفل إلى التعويض عن نقص اهتمام أسرته به؛ وذلك عن طريق الاهتمام بنفسه.

شاهد بالفيديو: مهارات تطوير الذات

2. الدلال الزائد للطفل:

إنَّ الإفراط في تلبية جميع رغبات وطلبات الطفل هو سبب آخر من أسباب التمركز حول الذات؛ إذ إنَّ الرعاية الزائدة عن حدها والموافقة على كل ما يقوله الطفل دون وضع أيَّة شروط أو قيود محددة، تجعله لا يهتم إلَّا بنفسه ولا يبالي بأي أحد آخر.

وبهذا يتربَّى الطفل بشكل غير واعٍ على أنَّه محور الحياة، وأنَّ كل ما يحصل من مواقف يجب أن تكون لمصلحته، ومن ثم فهو لن يقبل مشاركة الآخرين في الأرباح أو الفوائد، بالإضافة إلى أنَّ هذا النمط من التعامل قد يجعل الطفل غير ملتزم بالضوابط والأنظمة والقوانين الأخلاقية والاجتماعية وما إلى ذلك، إلى جانب التمركز حول ذاته.

3. التمييز بين الأبناء:

قد يقع الكثيرون من الأهل ولو في فترة من الفترات، وفي الدول النامية خاصة - في مشكلة تمييز أحد الأولاد عن بقية أخوته؛ وهذا يولِّد مشاعر الغيرة بين الأخوة، وبدوره يجعل الطفل يشعر بأنَّه لا يلاقي أي اهتمام؛ وذلك لأنَّه سيقارن أيَّة عناية يتلقاها بما يُقدَّم لأخيه، ومن ثم فإنَّ شعوره بنقص اهتمام والديه به سيدفعه إلى تعويض النقص من خلال الاهتمام المبالغ فيه بنفسه والتمركز حول ذاته، بالإضافة إلى ممارسة سلوكات الغيرة؛ إذ يمتنع عن مشاركة الحلوى مع بقية أخوته على سبيل المثال.

4. ضعف ثقة الطفل بنفسه:

عندما يشعر الطفل بأنَّ ثقته بنفسه هشة وضعيفة، فإنَّه لن ينخرط في الحياة الاجتماعية جيداً، ومن ثم سيخسر مكتسبات هذا الانخراط من ذكاء عاطفي ومرونة نفسية واجتماعية؛ وهذا يجعله يعاني من سوء فهم الآخرين له، وقد تستمر هذه الحالة إلى فترات طويلة قد تشمل كل مراحل حياة الإنسان؛ وهذا يجعله يقع في حفرة العزلة والانطواء على ذاته، ومن ثم يركز في متعته الشخصية ومصلحته فقط دون أن يغير أي اهتمام لمشاعر الآخرين، وبالطبع فهو لن يسمح لأي شخص آخر بأن يتقرَّب منه أو يبني علاقة معه؛ لذا يجب على الأهل دعم ثقة الطفل بنفسه والتأكُّد من فاعلية هذا الدعم من خلال مراقبة سلوكاته وتصرفاته.

5. التقليد الأعمى للأبوين:

قد يكون السبب وراء تمركز الطفل حول ذاته الزائد عن حده هو تصرفات الأب الأنانية التي يتصرفها في المنزل وأمام الطفل؛ لذا يلجأ إلى تقليد والده؛ وذلك لأنَّ معظم الأطفال يظنون أنَّ كل ما يقوم به آباؤهم هو صحيح بالمطلق، وقد يكون التمركز حول الذات موجوداً عند الأم لكن بدرجة أقل؛ إذ إنَّ الأم لديها سايكولوجيا العطاء التي تتحكم بها غالباً؛ وهذا يدفعها إلى أن تعطي دون أن تفكر في المقابل.

6. التأثر بالمحيط:

تختلف نظرة الطفل إلى العالم عن نظرة الشاب أو البالغ اختلافاً كاملاً وجوهرياً؛ فإنَّنا بصفتنا بالغين ننظر إلى الحياة ومواقفها نظرة مفلترة، فلا نصدق كل ما يُقال على سبيل المثال؛ بل نختار الصحيح وننتقي المفيد، أمَّا الخاطئ أو الضار فنرميه في أغلب الحالات، فكل واحد حسب منظوره ولكنَّ هذا الفلتر غير موجود عند الطفل أو بالأحرى لم يُطوِّره بعد، وأدواته العقلية والفكرية ما زالت في مرحلة البحث والاكتشاف وجمع البيانات دون إخضاعها إلى أيَّة محاكمة عقلية؛ لذا فإنَّ الطفل قد يتبنى ما يراه من أقرانه أو من أساتذته في المدرسة أو حتى من رجل عابر مرَّ في الشارع وتحدَّث إليه.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح لتنمية العلاقات الاجتماعيّة لدى الطفل

أهم تطبيق عملي لمفهوم التمركز حول الذات:

إنَّ أهم مثال يمكننا من خلاله توضيح فكرة التمركز حول الذات هو سلوك المسؤولين والسياسيين والقادة الموجودين في الدول النامية أو ما يُسمى دول العالم الثالث، التي على الرغم من الحالة المعيشية والاقتصادية والصحية والغذائية البائسة - والتي تُفرُض بحسب المنطق وجود اهتمام أكبر وتعاطف أكبر من هؤلاء المسؤولين مع مواطنيهم - إلَّا أنَّ ما يحدث هو خلاف ذلك تماماً؛ ونرى ذلك في إصرار أصحاب القرار على الاستمرار في الفساد، وخدمة مصالحهم الشخصية دون وضع أي اعتبار أخلاقي أو إنساني أو عاطفي على الأقل للكثيرين من الناس الذين يعيشون تحت خط الفقر.

إنَّ تفسير ذلك بحسب ما يقول المحللون النفسيون؛ فهو حالة التمركز حول الذات التي عاشها هؤلاء المسؤولون في طفولتهم؛ إذ إنَّ الأسرة في البلدان النامية تختلف تماماً عن الأسرة في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، فيكون الأبوان يعملان لمدة طويلة من أجل تأمين لقمة العيش؛ وهذا يقلل من إمكانية تأمين جو مناسب لتربية الأطفال تربية سليمة، بالإضافة إلى مشكلات أخرى تعاني منها البلدان النامية مثل كثرة الإنجاب، والذي يقلل حصة الطفل من الغذاء والشراب والدواء والرعاية والاهتمام الجسدي والنفسي، وكذلك مشكلة نقص وعي الأهل وجهلهم بأبسط مبادئ وقوانين التربية.

إنَّ كل ما سبق من مشكلات تُعَدُّ - وفق منظور علم النفس الحديث - كوارث حقيقية تحتاج إلى إمكانات هائلة لحلها، وتجعل خروج أجيال كاملة من الأطفال الذين يعانون من اضطراب نفسي حقيقي نتيجة حتمية لا يمكن تجاوزها إلَّا بعد عقود طويلة من الزمن.

لذا فإنَّ هذا الوسط الموبوء نفسياً لن يُنتج إلَّا أفراداً لا يمكنهم التفكير سوى في أنفسهم، ولا يستطيعون أبداً أن يخرجوا من دائرة ذواتهم، ومنهم هؤلاء المسؤولون الذين يبتاعون الفاخر من كل شيء، فيما شعوبهم تحت وطأة الفقر والحاجة والجوع والعجز.

إقرأ أيضاً: الانطواء والعزلة وسبل حل هذه المشكلة

في الختام:

في حالة عدم شعور الطفل بالثقة بنفسه، فلن يكون لديه ذكاء اجتماعي أو تواصل مع الآخرين وسيعاني من عدم فهم الآخرين أو فهم مشاعرهم، وفي هذه الحالة سيلجأ إلى الانعزال والانطواء ولن يحب أن يشارك غيره أي شيء، ويفضِّل الاهتمام بنفسه وأشيائه الخاصة فقط، ولن يسمح لأحد بالتقرُّب منه، كما سيصبح أنانياً؛ لذلك لا بدَّ للأهل أن يدعموا ثقة الطفل بنفسه.

المصادر: 1،2،3،4




مقالات مرتبطة