دراسة الطب: براءة طفل أم رغبة أهل؟

لو سألنا مجموعة من الأطفال عن الحلم الذي يريدون تحقيقه في المستقبل أو عن المهنة التي يودون امتهانها، لكان الجواب غالباً هو أن يصبح طبيباً يعالج الناس ويخفف من أوجاعهم وآلامهم، ولكنَّنا بدأنا نرى في الفترة الأخيرة توجهاً جماعياً لدى الأهل لتحبيب ابنهم بدراسة الطب أو ترغيبه فيه أو قد يأخذ طابع الإجبار في بعض الحالات؛ لذا في هذا المقال سنناقش هذه القضية الشائكة، ونعرف مدى مصداقية أو منطقية ما أصبحنا نسمعه من محاولات الأهل إجبار أبنائهم على الالتحاق بكلية الطب.



هل الطفل يريد دخول الطب أم أنَّ الأهل قاموا بدس الفكرة في ذهنه؟

ربما نتساءل ما الذي يعرفه الطفل الذي يبلغ من العمر سبع سنوات، عن مهنة معقدة ومتشعبة ومتفرعة مثل مهنة الطب؛ إذ أُجريت دراسة أوروبية على عدد من المدارس الابتدائية، وشملت الدراسة ثلاث مجموعات من الطلاب، المجموعة الأولى كانت تضم أطفالاً في المرحلة التعليمية الأولى أو ما يسمى بالمرحلة الابتدائية، والمجموعة الثانية كانت تضم تلاميذ أكبر بسنتين من المجموعة الأولى، والمجموعة الثالثة كانت تضم طلاباً أكبر بسنتين من المجموعة الثانية.

طرح المشرفون على الدراسة سؤالاً على الأطفال "ماذا تريد أن تصبح في المستقبل عندما تكبر؟"، وأتت النتائج تحمل سياقاً معيناً، وهي أنَّ عدد الأطفال الذين كانوا يودون أن يصبحوا أطباء كانوا الأقل مقارنةً مع المجموعة الثالثة التي احتوت أكبر عدد من الطلاب الذين يحلمون بدراسة الطب، فيما كان عدد طلاب المجموعة الثانية الذين يودون دراسة الطب وسطاً بين المجموعتين الأولى والثالثة.

لقد فسر الباحثون نتائج هذه الدراسة المتمثلة بزيادة عدد الأطفال الذين يودون دراسة الطب بزيادة العمر بحقيقة سايكولوجية بسيطة، مفادها أنَّه كلما كبر الطفل، زاد تأثره بمن حوله، وأصبح يبحث عن ذاته وشخصيته أكثر، وبالمقابل يتخلى عن أحلامه الطفولية؛ إذ وجد الباحثون أنَّ طلاب المجموعة الأولى كانت لديهم أمنيات غير موجودة عند المجموعتين الثانية والثالثة، مثل أن يصبحوا فلاحين أو جنوداً أو طيارين أو مخترعين أو مقاتلين، وكان التفسير المحتمل هو أنَّ الأطفال في هذا العمر تكون مشاهدة الرسوم المتحركة هي المستحوذ الأكبر على تفكيرهم.

من هنا يمكن أن نقول إنَّ للأهل دوراً في محاولة تجميل مهنة الطب في عيون أطفالهم في مرحلة ما حين يحاول الطفل أن يبحث عن معنى أو هدف لحياته ولو بطريقة طفولية غير واعية، ويمكن تشبيه أحلام الطفل في هذه المرحلة برسومات غير ملونة قام الأهل بتلوينها.

ما هي الأسباب التي تدفع الأطفال إلى التفكير في مهنة الطب؟

1. وجود طبيب في العائلة:

إنَّ وجود طبيب في العائلة يكون في أغلب الحالات عاملاً محفزاً للطفل، وقد يصبح هذا القريب مثله الأعلى أو قدوته، وهو يرى من خلاله أهمية الطبيب في الحياة وما يقدمه من فوائد للناس.

2. الاحترام الاجتماعي:

يتمتع الطبيب في أغلب المجتمعات بدرجة عالية من التقدير والاحترام، فهو يرى جميع الناس يقفون احتراماً للطبيب، ويحييونه بحرارة ويشكرونه على ما قدمه لهم من مساعدة، وتترسخ هذه المواقف في أذهان الأطفال، ويطمعون بهذه المكانة الاجتماعية.

3. الجانب المادي:

لا شكَّ في أنَّ مهنة الطب هي إحدى أكثر المهن إدراراً للمال، وفي معظم دول العالم يكون أجر الطبيب هو الأعلى، وهذا الطفل يرى الأطباء إلى جانب المكانة الاجتماعية والعلمية، أماناً واستقراراً مادياً، فربما ارتبطت مهنة الطب قي مخيلة الطفل في امتلاك سيارة رياضية وفيلا فارهة.

4. الدراما التلفزيونية والأفلام:

نعرف تماماً الكثير من المسلسلات والأفلام التي دوماً ما تصور الطبيب على أنَّه البطل الخارق القادر على حل مشكلات الناس المستعصية وشفائهم، ولعل أبرز هذه المسلسلات شخصية "هاغ لوري" في مسلسل "دكتور هاوس"، وشخصية الطبيب العبقري الذي يعاني من التوحد في مسلسل "The good doctor"، بالإضافة إلى أفلام الرسوم المتحركة التي يتابعها الأطفال وتحتوي على أمور مشابهة.

5. الفطرة الإنسانية:

جميعنا يعلم تماماً أنَّ مهنة الطب هي أكثر المهن اقتراباً من أوجاع وآلام الناس؛ ولذا يصنفها بعضهم على أنَّها مهنة إنسانية، وكما هو معروف بأنَّ الأطفال لديهم حس عاطفي عالٍ بالآخر؛ لذا قد يدفعهم هذا الأمر إلى أن يضعوا في مخيلتهم صورة الطبيب الذي يخفف من أوجاع الناس.

6. حلم الأهل:

قد يكون الأب أو الأم يحلمان عندما كانا صغاراً بأن يصبحا أطباء، لكن قد تكون الظروف قد منعتهم؛ لذا فهم يريدون تحقيق هذا الحلم من خلال أطفالهم عبر حثهم أو حتى إجبارهم على الدراسة في كلية الطب، وقد يكون دافع الأهل هو الغيرة من أشخاص معينين يدرس أبناؤهم في كلية الطب، أو قد يكونوا مدفوعين برغبة الفخر بأبنائهم؛ إذ يريدون أن يقولوا إنَّ "ابني يعمل طبيباً"، وغيرها من الأسباب التي هي في الحقيقة غير منطقية، وغير سليمة، فأولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة.

دوافع استثنائية لدخول كلية الطب في البلدان النامية:

كما نعرف أنَّ البلدان النامية التي تعاني من الاضطرابات والكوارث والحروب، تكون الحالة الاقتصادية فيها سيئة للغاية؛ وهذا يدفع شبابها إلى الهجرة؛ لذا نجد في البلدان النامية تزاحماً أكبر على دخول كليات الطب بحكم أنَّ مهنة الطب هي الأكثر طلباً في البلدان المتقدمة مثل أوروبا، وفي دول الخليج العربي مثل الإمارات وقطر والسعودية والكويت وغيرها، بالإضافة إلى الراتب العالي الذي تقدمه هذه الدول إلى الطبيب العامل في مستشفياتها.

شاهد: 6 نصائح مهمة لمن يعاني من قلة التركيز أثناء الدراسة

ما هي الأسباب التي تجعل بعض طلاب الطب يندمون على دخولهم إلى كلية الطب؟

1. ضخامة المواد:

يعاني طلاب الطب من ضخامة في المقررات، تتفاوت من مادة إلى أخرى، ومن جامعة إلى أخرى، مع كثافة في المقابلات والمذاكرات، والمحاضرات، إلا أنَّ الكثير يجد هذا الأمر غير منطقي لأنَّ الكثير من الكليات الأخرى لديها كذلك ضخامة في المناهج وغزارة في الامتحانات.

2. الضغط النفسي في مرحلة الكلية:

يُعَدُّ الضغط النفسي السمة المميزة لدراسة الطب؛ إذ إنَّ طالب الطب يجد نفسه في حالة سباق دائم مع زملائه من أجل جمع العلامات والمعلومات، ويتسم جو الكلية في أغلب الأحيان بالندية الدائمة، والتي تُعَدُّ مفيدة نوعاً ما، ولكنَّها في الوقت نفسه متعبة ومنهكة.

3. حالة الصدمة:

يعيش طالب الطب حالة من الصدمة في الفترة الأولى من دخوله إلى كلية الطب؛ وذلك نتيجة انتقاله من جو المدرسة الذي كان يتفوق فيه على زملائه طوال الوقت وبسهولة بالغة وهو مسرور بتلقي المديح من جميع معلميه، إلى جو كلية الطب الذي يعج بالطلاب المتفوقين والمهووسين أيضاً؛ لذا قد يجد نفسه بينهم شخصاً عادياً أو حتى يحتل المراكز الأخيرة؛ وهذا يجعله يشعر بالإحباط في الفترات الأولى على الأقل.

4. القلق الدائم:

يبقى طالب الطب في حالة من القلق في أغلب الحالات من اللحظة التي سيصبح فيها مسؤولاً عن حياة الناس، وتتردد في ذهنه تلك الأسئلة السامة، "هل سأكون طبيباً ناجحاً؟"، و"هل سأستطيع علاج المرضى بشكل صحيح؟"، ويبقى أغلب طلاب الطب يتخبطون بين هذه الأسئلة والأفكار.

5. العزلة الاجتماعية:

من الملاحظ أنَّ طلاب الطب هم الأكثر تغيباً عن المناسبات الاجتماعية والسهرات والحفلات والنزهات؛ وهذا يولد لديهم شعوراً بأنَّهم لا يعيشون حياتهم كما يحبون، وأنَّ دخول كلية الطب ربما قد قلل من درجة استمتاعهم بمباهج الحياة، وأعاق مشاريع أخرى كانوا يخططون لها.

إقرأ أيضاً: قصة نجاح الطبيب العالمي الشهير بن كارسون

ماذا يجب على الأهل فعله إزاء رغبات أطفالهم؟

  1. من الهام جداً عدم إجبار أو حتى ترغيب الطفل باختصاص جامعي محدد، وليكن دور الأهل مقتصراً على توسيع المجالات، ووضع الخيارات المتاحة، والإجابة عن أسئلته دون تحيز.
  2. يجب على الأهل، أن يعلموا تماماً أنَّه لا يوجد ما يُولِّد النجاح أكثر من الشغف بحد ذاته؛ وبمعنى آخر، تتوقف درجة نجاح الإنسان في اختصاص معين على درجة شغفه بهذا الاختصاص، وليس على نوع الاختصاص.
  3. من الهام أن يتفهم الأهل حقيقة أنَّ أطفالهم ليسوا وسيلة لتحقيق أحلامهم التي لم يستطيعوا تحقيقها في الماضي، فإنَّهم كيانات مستقلة لها الحق الكامل في تقرير مصيرها ومسار حياتها.
  4. يجب على الأهل أن يربوا أطفالهم على البحث والاستكشاف، لا أن يلزموهم بما هم عليه؛ بل يجب أن يحثوا أولادهم على الانطلاق في تجارب جديدة تشكل وعيهم وشخصيتهم بطريقة ناجعة وفعالة.
  5. يجب على الأهل الاستجابة إلى رغبة أطفالهم في الدخول إلى النوادي الصيفية في المجالات التي يحبونها، فهذا له بالغ الأثر في اكتشاف مواهبهم وإيجاد شغفهم في الحياة، وهذا ما يجب على الأهل أن يشجعوا أبناءهم عليه "اتبعوا شغفكم في الحياة".
إقرأ أيضاً: النجاح في تربية الطفل: 6 طرق فعّالة لتنمية ذكاء الطفل في سنٍ مبكر

في الختام:

لا بدَّ أنَّ دراسة الطب هي من أهم الفروع الموجودة في أي بلد، وتحمل إمكانية إيجاد فرص عمل في جميع أنحاء العالم، ولا شك بأنَّ دراسة الطب هي دراسة ممتعة؛ إذ إنَّها تغوص في أكثر الأشياء غموضاً؛ ألا وهو جسم الإنسان، لكن من جهة أخرى لا يعني هذا الكلام أن نجبر أطفالنا على دراسة الطب بشكل أو بآخر؛ لأنَّ النجاح في أي شيء يتطلب الحب والشغف، أما الإكراه فعاقبته الفشل بلا أدنى شك.

المصادر: 1،2،3




مقالات مرتبطة