تعويذة القيادة: المصداقية

 "بالنسبة لي على الأقل، أدركت أنَّ السعي نحو "المصداقية" هو في الواقع امتدادٌ لذلك السعي الذي بدأ قديماً لإيجاد الحقيقة والسعي للقيام بما هو مناسب. إنَّها رحلةٌ وليست وجهة، إنَّها عمليةٌ وليست جواباً".

"هيو ميزون" (Hugh Mason)

قبل فترةٍ من الزمن سمعت شابةً تقول: "أنا أكفي". لقد أصابني هذا التعبير بالانبهار والذهول وقررت أن أبحث عنه. فوجدت أنَّ أول من استخدمه هو "كارل روجرز" (Carl Rogers) عالم النفس الذي سُئل يوماً ما كيف ينجح بما يقوم به فكانت إجابته: "قبل أن أبدأ بجلسةٍ مع العميل أقنع نفسي "بأنَّني أكفي" لا بأنَّني مثالي، لأنَّ المثالية لا تكفي. فأنا إنسان وليس ثمة ما يمكن لهذا العميل أن يقوله أو يشعر به من دون أن يكون لدي القدرة على الشعور به بنفسي. يمكنني أن أكون معهم. إنَّني أكفي".



يعكس هذا صفاء الذهن وهدوء الروح الذين يمثلان صفتين من صفات الرجل الذي يتمتع بالنزاهة، وهي الصفة التي تُعرَّف في القاموس أنَّها "حالةٌ من الاكتمال وعدم التجزُّؤ". إنَّ قادةً كهؤلاء هم مثالٌ للمصداقية. حيث إنَّهم ينطلقون من فكرة الكفاية والنظر لأنفسهم على أنَّهم أشخاصٌ كاملون يقدمون للعالم مساهمةً لا مثيل لها من خلال تقديم صورة خاصة بهم للحكمة، والإبداع، والفطنة، والعدل، والولاء الشديد لمنظماتهم وللأشخاص الذين يقودونهم.

يفي القادة الصادقون بوعودهم أيضاً. وينطبق ذلك حتى على أبسط الوعود. قابلت قبل سنواتٍ أحد المديرين التنفيذيين لإحدى شركات الـ "فورتشن500". لقد لاحظت عليه شيئاً وهو أنَّه يحمل دفتراً أسوداً صغيراً يدوِّن فيه أيَّ وعدٍ يقدمه. وبغض النظر عن مستوى الشخص الذي يكلمه، يبذل هذا المدير التنفيذي الجهد نفسه لتدوين الوعود التي يعطيها لهذا الشخص بحيث يتمكن من متابعتها. شخصٌ كهذا يمكننا الوثوق بكلمته.

يُعدُّ التواصل بشفافية إحدى نتائج تفكير القائد الصادق بطريقةٍ واضحة وتحليه بمبادئ التي لا تقبل المساومة. حيث يقول مثل هؤلاء القيادة أشياء كثيرة بكلماتٍ قليلة، وليس هناك فجوة ما بين رؤيتهم الداخلية للعالم وبين تعبيرهم الظاهري عن هذه الرؤيا، وتتميز لغتهم بالصراحة. هذه الشفافية في التواصل هي بمثابة الكأس المقدسة بالنسبة إلى القيادة لا سيما في أيامنا هذه التي تشير التقارير إلى وجود أربع ملايين مدونة فيها حيث يمكن أن يكون الافتقار إلى الشفافية مدمِّرا بالنسبة إلى المنظمات على وجه الخصوص.

تمهِّد الطاعة الطريق لنا في رحلة عملنا اليومية. ولكنَّ الطاعة العمياء لها جوانبها السلبية. فهي تضعف الإبداع وتمحو الشخصية . إذا كنت أحد القادة الذين يطلبون الطاعة فأنا أنصحك بالتفكير كيف أنَّه من الممكن لذلك أن يقوض من مصداقية موظفيك بسبب التزامهم بإطاعة الأوامر. لقد عملت في إحدى المرات مع قائدٍ في شركة تكنولوجية وكان ذلك القائد يتبنى مفهوم "العصيان الذكي" والذي هو جزءٌ من قيم الشركة. لقد وصلنا إلى هذا المفهوم عن طريق الكلاب المرشدة. فعلى الرغم من أنَّ الكلاب يجب أن تتعلم طاعة الشخص الأعمى إلَّا أنَّها يجب أن تتعلم أيضاً متى تحتاجون إلى عصيان الأوامر التي من الممكن أن تسبب الأذى لصاحبها. العصيان الذكي لا يعني أن تكون عاصياً وصعب الإرضاء من أجل العصيان. بل تعني أن يكون لديك السلطة لاستخدام رأيك. كعندما يصبح أحد القرارات غير قابلٍ للتطبيق أو عندما تؤثِّر قاعدةٌ ما في سلامة الزبائن.

لقد كُتِبَ الكثير عن "مرض المدير التنفيذي" وهو مصطلحٌ يتحدث عن العزلة التي تصيب القائد عندما يتردد موظفوه في نقل الأخبار السيئة إليه خوفاً من ردة فعله. أسِّس ثقافةً تقدِّر الانفتاح، واتَّبع سياسة الباب المفتوح حرفيا وليس مجازياً فقط، وطمأن الموظفين أنَّ في إمكانهم التعبير عن آراءهم، وأسس جائزةً لتشجيع الموظفين على التعبير عن آراءهم التي تحمل الفائدة للشركة ككل ولأصحاب المصلحة.

إحدى النتائج السلبية للتعامل مع قادةٍ غير صادقين أو الارتباط بهم هو أنَّ هذا الشخص يجردنا من مصداقيتنا لأنَّنا نتعامل معه بحذر. فنحن نركز على ما يبقينا آمنين في عملنا. وفي هذه الحالة فإنَّهم سيستفيدون من عملنا ولكنَّهم لن يجعلوننا نشارك بشكلٍ كامل ولن يحصلوا على أفضل ما عندنا وهذا هو الذي يميز ما بين الأداء المرتفع وبين أدنى المعايير المقبولة. ونعلم جمعاً أيضاً أن المشاركة بفعالية هي إحدى مفاتيح بناء منظمة قوية وذات أداء رفيع ضمن البيئة التنافسية التي يشهدها عصرنا الحالي. ثمة العديد من الطرائق لتعزيز المشاركة ضمن المنظمات وإحدى هذه الطرائق هي إلقاء نظرة عن كثب على نوعية القائد. هل يشعر الموظفون بأنَّ لدى هذا القائد من الصفات ما يقول أنَّ لديه منها؟ وهل هم مقتنعون بأنَّه ليس لدى هذا القائد أجندة سرية وأنَّه يهتم بهم بصدق؟ تؤثِّر جميع هذه العوامل في المشاركة وفي النتيجة النهائية. حيث يحمل افتقار القائد إلى المصداقية ثمناً باهظاً للغاية.

تُعدُّ مراجعات الأداء السنوية أو نصف السنوية إحدى اختبارات مصداقيتنا كقادة. فقد أدَّت مراجعات الأداء المخيفة إلى ظهور العدوانية وتآكل الثقة بشكلٍ أكبر مما فعلته أية عملية موارد بشرية أخرى ومن دون أن يكون هناك داعي إلى ذلك. قبل أن تكتب أية كلمة اجلس وانظر إلى هذا الشخص بصفته إنساناً حقيقياً. فمن الصعوبة بمكان أن تختصر فرداً ما بوصفٍ واحد. فمنذ عقودٍ مضت راجع أدائي أحد القادة الذين كنت أتبع لهم والذي كنت أكنُّ له كل الاحترام وكتب في تصنيفه لحضوري أنَّني "من النادر أن أتأخر". وعندما نبهته إلى أنَّني لم أتأخر قط قال إنَّه لا يستطيع أن يكتب ذلك لأنَّه من الممكن أن يُنظر إلى ذلك من قِبَل المكتب الرئيس على أنَّه "تأثير الهالة" لأنَّه لا يوجد شخصٌ لا يتأخر وأنَّ ذلك يمكن أن يؤثر على مصداقية جميع التعليقات الأخرى المذكورة في مراجعة الأداء. إذا لم تكن متأكداً من كيفية تقويم شخصٍ ما لأنَّه لم تتح لك الفرصة لمراقبة سلوكٍ معينٍ لديه كن صريحاً معه واطلب مساعدته في تقويم ذلك الجانب المحدد من أداءه بدلاً من الاعتماد على التخمين. وانظر كيف سيرتفع مستوى الثقة مع ذلك الشخص.

القيادة عملٌ صعب، ومن السهل أن نتغير بشكلٍ جوهري إرضاءً لضرورات العمل. فقد يفرض كون الشخص صادقاً بشكلٍ كامل تحدياً معيَّناً في البيئات الحالية ذات التنافسية العالية التي يجب أن تبقى فيها المعلومات الخاصة تحت حراسةٍ مشددة أو التي يجب أن يتم التعامل فيها بحذر مع معلوماتٍ حول تسريحاتٍ وشيكة تجنباً لخسارة أفراد الطاقم المهمين. وبالتالي يمكننا أن نتورط في السياسة من دون أن نشعر. حيث نجد أنفسنا في بعض الأحيان مضطرين إلى الحذر لحماية أنفسنا. لا يمكننا أن نثق دائماً أنَّ الآخرين صادقين معنا. حتى عندما نسعى جاهدين إلى تقديم أفضل ما عندنا سيخوننا الآخرون في بعض الأحيان. ثمة الكثير من الأمور التي تحدث في سياق عملنا أثناء صعودنا لسلم الإنجاز. يمكننا أن نبتعد عن صدقنا ببطءٍ وبشكلٍ تدريجيٍّ في بعض الأحيان. وعلى الرغم من كل ذلك إلَّا أنَّنا يجب أن نبذل أقصى جهدنا لنبقى أوفياء لما نحن عليه. وكما يقول "هوارد ثورمان" (Howard Thurman): "جِدْ الحبوب في غابتك".

إليك ما أطلق عليه "أوراق المصداقية":

  1. إنَّ اتِّباعك لقيمك بشكلٍ يومي بصفتك قائداً هو أحد العناصر الأساسية الهامة في القيادة الصادقة. ولكنَّك تحتاج إلى التحقق من هذه القيم بشكلٍ دوري لمراعاة مدى صلاحيتها في البيئة الحالية. على سبيل المثال، لم يعد تحقيق التوازن بين الحياة والعمل إحدى المنح الإضافية التي تُقدَّم إلى الموظف فهذا قد يكون أحد المتطلبات الأساسية لاجتذاب أفضل العقول إلى المنظمة.
  2. هل أنت معتادٌ على تقديم وعود متسرعة تعرف من تجاربك السابقة أنَّك غير قادرٍ على الوفاء بها؟ أعد التفكير بالوعود التي قطعتها وبالأشخاص الذين أعطيتهم هذه الوعود وانظر إذا ما كان في إمكانك الوفاء ببعضها.
  3. يعطيك التخلص من التكلُّف قدراً حقيقياً من الحرية. هل سبق لك وأن وجدت نفسك مجبراً على التكلف لكي تترك انطباعاً جيداً لدى الآخرين؟ حاول أن تتوقف عن ذلك الآن وإلى الأبد. شاهد كيف أنَّك ستسمو بنفسك عندما تزيح عن كاهلك عبء التكلف. قل لنفسك: "أنا أكفي" وآمن بذلك.
  4. الصراحة، والثقة بالنفس، والبساطة هي لبنات تحقيق الإنجاز. فكر في كيفية جعلها عاداتٍ يومية.
  5. هل هناك جوانب في حياتك تفتقر فيها إلى الثبات من دون أن تقصد ذلك؟ على سبيل المثال، هل أنت لطيفٌ مع بعض الأشخاص وغير لطيفٍ مع غيرهم؟ هل أنت صادقٌ تماماً في بعض الظروف وغير صادقٍ في ظروفٍ أخرى؟ ماذا تفهم من ذلك؟
  6. ابدأ بجمع قصصٍ شخصية يمكنك استخدامها لتوضيح الجوانب المهمة من أسلوب القيادة الخاص بك كالأشياء التي تحفزك للقيادة، وفلسفتك في القيادة، ومن أنت كشخص. فالقصص الشخصية هي أحد أشكال القصص الأكثر فعالية بالنسبة إلى القادة.
  7. تكشف المحن شخصيتنا الحقيقية. راقب سلوكك عندما تسير الأمور في الاتجاه الخاطئ. وذكِّر نفسك بأنَّك مراقبٌ بشكلٍ مستمر لأنَّك قائد. فالأشخاص يريدون أن يحصلوا منك على الإلهام.
  8. عندما يُقدَّم لك نصٌّ لم تكتبه أنت لتقرأه في أحد العروض التي يتوجب عليك تقديمها خصص وقتاً إضافياً لإعادة صياغة الكلمات بأسلوبك. أبعد اللغة المُضخَّمة عن خطاباتك والتي يمكن أن تؤدي إلى تشكيك الآخرين في مصداقية حديثك. على سبيل المثال استبدل "مؤسسات الأكل" بـ "المطاعم"، و"بيئات التعلم" بـ "المدارس" أو "الجامعات". ولتلهمك كلمات "ونستون تشرشل" الذي قال: "تحدث بكلمات مختصرةٍ ومألوفة يستخدمها الجميع".
  9. هل أنت مجبرٌ على العيش في صراعٍ بين من تكون وبين ما تعمل؟ هل تدير ظهرك لهمسات قلبك؟ حاول أن تبدأ من اليوم رحلة العودة للبحث عن ذاتك والتواصل مع عواطفك وقيمك. إذا كان ذلك غير ممكنٍ بسبب القيود التي تفرضها عليك ظروفك الحالية فكر في تنازلاتٍ بسيطة يمكنك تقديمها في الوقت الحاضر لكي تحقق قدراً أكبر من التناغم في حياتك.
  10. إذا كنت أحد القادة الصاعدين الذين يجدون أنَّه من المريح الحصول على الموافقة قبل اتخاذ أي قرار، طوِّر خطةً لكي تبدأ بالاعتماد على نفسك. ابدأ بقراراتٍ صغيرة وانتقل تدريجياً إلى قراراتٍ أكثر أهمية. فقط عندما تحرر نفسك من الحاجة إلى الحصول على موافقة الآخرين يمكنك حينئذٍ أن تبدأ بالارتقاء إلى مرتبة القائد الصادق التي تسعى إليها.

 

المصدر: هنا




مقالات مرتبطة