تحويل المجهول إلى فرصة: دروس لرواد الأعمال من بيل غيتس وأساطير اليونان

ثمَّة في الأساطير اليونانية شخصية تُعرَف باسم "بروكرست" (Procrustes)، حيث كان لدى "بروكرست" هذا سريرٌ حديدي يدعو المسافرين إلى الاستلقاء فوقه لنَيل قسطٍ من الراحة، فإذا كان الشخص المستلقي أقصر من السرير كان "بروكرست" يمط جسده حتى يتساوى مع طول السرير، ولم ينجُ أحد من هذا المصير الموحش، فلو كان جسد الشخص أطول من السرير كان "بروكرست" يقطع أطرافه حتى يتناسب مع طول السرير.



يمكِننا القول بالتأكيد إنَّ لا أحد يتمنى أن يقع بين يدي "بروكرست"، لكن لسوء الحظ تجد العديد من الشركات نفسها في سرير مشابه لسريره الحديدي حين يطلب رب العمل نصيحةً من استشاريين مختصين ضيقي الرؤية؛ إذ يحاول هؤلاء تغيير الشركات وتحويرها كي تتلاءم مع نمط أو خطة محددة، لأنَّهم يركزون على أمر واحد فقط سواء كان "الاندماج والاستحواذ" (M&A)، أم "الإفلاس" (bankruptcy)، أم "الاستشارات الإدارية" (management consulting)، أم غيرها، لكنَّ المأساة المعاصرة هي أنَّ أرباب العمل لا يدركون أنَّهم مستلقون في سرير "بروكرست" إلَّا بعد فوات الأوان.

الجهل ليس نعمة:

قد يعتقد بعض الناس أنَّ الجهل نعمة، لكنَّ هناك ثمناً غالياً يدفعه الجاهل حين يضع ثقته في مستشار يتَّبع مبدأ "بروكرست"، على سبيل المثال: إذا كانت الجهة التي أقرضَتك المال تضغط عليك، فقد يحثك هكذا مستشار على إعادة هيكلة خطيرة أو إلى إعلان الإفلاس، في حين قد يكون الخيار الأفضل هو الاندماج والاستحواذ، ومن ناحية أخرى، قد ينصحك خبير في الاندماج والاستحواذ ببيع شركتك، في حين يمكِنك أن تزيد عائداتك بشكل كبير إذا تابعتَ العمل أو تفاديتَ تلك الخطوة عبر ضخ رأس مال إضافي، أو تطبيق استراتيجيات تحسين الأداء، أو إجراء عملية استحواذ مدروسة أو تعديل على الميزانية؛ فلا يطرح المستشارون ضيقو الرؤية هذه الحلول بنيَّةٍ سيئة، لكن حتى لو لم يتلاعبوا بنصيحتهم عن قصد لأجل مصلحتهم الشخصية، فهم منحازون على المستوى اللاواعي.

بمعنىً آخر، إذا كنتَ بحاجة إلى نصيحة طبية فلن تطلب موعداً مع طبيب جرَّاح فقط؛ لأنَّه في الغالب سيأخذك إلى قسم العمليات فوراً حتى لو كان هناك خيارات أفضل، وقد تكون العملية مفيدةً أو قد لا تكون كذلك، فقد تكتشف بعد العملية أنَّ لا مشكلة لديك، والآن طبِّق المنطق نفسه الذي يدفعك إلى طلب رأي أكثر من خبير طبي على أسلوبك في اتخاذ القرارات المتعلقة بعملك؛ فالجراح والمستشار سينصحانك ضمن مجال خبرتهما.

أسوأ ما في ذلك هو أنَّ المستشار قد يقود عملك إلى نتيجة مُرضِية، لكنَّ الواقع هو أنَّه كان بإمكانك تحقيق نتائج أفضل لو كانت نظرة المستشار أوسع، فلن يعرف أرباب العمل كم من الأرباح كانوا يستطيعون الحصول عليها لو اختاروا أسلوباً مختلفاً، ولن يعرفوا ماذا كانت خياراتهم أصلاً.

إقرأ أيضاً: كيف تجد منتوراً يساعدك على النجاح؟

تحويل المجهول إلى فرص:

نحن لا نعرف ما الذي لا نعرفه، ودور المستشار هو أن يساعد عملاءه على إدراك هذه المجاهيل، حيث يستطيع المستشار الذي يتمتع بخبرة واسعة ويمتلك أدوات متنوعة ولديه سجل حافل بالنجاحات أن يرشد عملاءه إلى توسيع رؤيتهم كي يتمكنوا من معرفة ما كان مجهولاً بالنسبة إليهم سابقاً.

بما أنَّ المستشارين واسعي الخبرة ليسوا محدودين بتقديم خدمة معيَّنة، فسيكون تركيزهم هو العميل وهدفه وليس مصلحتهم الشخصية، وهم قادرون على فتح أبواب مفاهيم جديدة، وتعريف العميل إلى أفكار مفيدة وتقديم حلول بديلة من التعامل مع مستثمرين خارجيين وحتى عمليات الاندماج والاستحواذ والتحسينات على الأداء وخيارات أخرى كثيرة، وهكذا يتحول المجهول إلى فرص.

الربح الضائع:

ما عليك سوى النظر إلى تاريخ الشركات الحديث كي ترى مخاطر استكشاف الخيارات بشكل غير كافٍ وفوائد تحويل المجهول إلى فرص.

سيطرَت شركة "مايكروسوفت" (Microsoft) على عالم الرقميات منذ بداية الثمانينيات من القرن المنصرم، واليوم عملها مزدهر في مجالاتٍ عدَّة، لكن في بداية القرن الحادي والعشرين فشلَت الشركة العملاقة في منافسة هاتف "آيفون" (iPhone) الذي طرحَته شركة "آبل" (Apple)، وأدى سوء الإدارة هذا إلى ألَّا تملك "مايكروسوفت" الآن ما يضاهي نظام آندرويد بالنسبة إلى غوغل كما يقول المؤسس المشارك "بيل غيتس" (Bill Gates)، ويُقدِّر أنَّ "مايكروسوفت" خسرَت حوالي 400 مليار دولار أمريكي في العائدات؛ لأنَّ الشركة لم تلحظ الإمكانيات التي تحملها الهواتف ذات شاشات اللمس، وهذا قدر كبير من الربح الضائع.

تحمَّلت "مايكروسوفت" عواقب هذا الفشل، لكنَّ عملاقاً سابقاً آخر تداعى نتيجة قراره بالتمسك باتجاه واحد؛ فكانت شركة "بلوك باستر" (Blockbuster) مهيمنةً على سوق الأفلام المنزلية، لكنَّها فشلَت في إدراك كيف سيغير الإنترنت تجربة الأفلام المنزلية، وحتى بعد إنشائها خدمة للأفلام عند الطلب مع شركة "إنرون" (Enron) إلا أنَّها ظلَّت تُركز على المتاجر حتى فشلَت في تطويرها، وفي النهاية احتلَّ مكانها شركات مثل "نيتفليكس" (Netflix) وغيرها من المنافسين.

من ناحية أخرى، تأسسَت شركة "إيكولاب" (Ecolab) في العشرينيات كمطور لسائل غسيل الأواني، ثمَّ توسعَت في مجال التنظيف والتعقيم؛ إذ لم يكن المدير التنفيذي للشركة "دوغلاس باكر" (Douglas Baker) راضياً عن الاستراتيجية القديمة، ويقول في مقابلة مع مجلة "هارفارد بيزنيس ريفيو" (Harvard Business Review): "كانت استراتيجيتنا هي بيع المزيد مما ننتجه"؛ وذلك لم يكن جريئاً بما فيه الكفاية؛ لذا بدأ "باركر" بالإصغاء إلى الزبائن مصمماً على معرفة ما يحتاجونه؛ فقادته هذه الرحلة إلى أكبر صفقة استحواذ عقدَتها "إيكولاب"، حيثُ اندمجَت مع شركة إدارة المياه "نالكون" (Nalco) بمبلغ 8 مليار دولار أمريكي، والذي تقول الشركة إنَّه: "حوَّل إيكولاب فورياً إلى رائد عالمي في إدارة المياه في القطاعات الصناعية والمؤسساتية وقطاع الطاقة"

من المحتمل أنَّ الشركة كانت ستحافظ على وضعٍ صحي لو أنَّها استمرَّت بتقديم خدماتها للزبائن نفسهم قبل الاستملاك، ولكن لأنَّها استكشفَت الإمكانيات، شهدَت "إيكولاب" نمواً في رأس مالها بمعدل ثمانية أضعاف، وما يعادل 50 مليار دولار أمريكي، يقول باكر: "وسَّعنا منظورنا، ومعه تغير هدفنا".

هذا هو مفتاح النجاة والازدهار وخاصة في ظل اقتصاد مضطرب، وبين هذه الشركات الثلاث فارق أساسي؛ ففي حين اكتفَت شركتا "مايكروسوفت" (Microsoft) و"بلوكبستر" (Blockbuster) بالخيارات التي أمامهم مباشرة، واستكشفَت شركة "إيكولاب" (Ecolab) خيارات جديدة.

إقرأ أيضاً: تجنب الخسائر الصغيرة لتحقيق مكاسب كبيرة

الفرص اللانهائية:

حتى الشركات التي لا تمتلك مديرين تنفيذيين بمستوى "دوغلاس باكر" (Douglas Baker) يمكِنها توسيع خياراتها، فهناك فرص لانهائية تنتظر أن تستثمرها، ولكن عليك أن تبحث في المكان الصحيح كي تجدها.

لحسن الحظ، يستطيع رواد الأعمال إدراك المجهول وتحويله إلى فرص عبر  الوصول إلى أفكار مهمة وبمساعدة مَن يُقدِّم لها توجيهاتٍ صحيحة، تماماً كما تفاعلَ المدير التنفيذي لشركة "إيكولاب" (Ecolab) مع الزبائن كي يعرف ما الذي يحتاجونه، فيجب أن يبحث أرباب الأعمال عن مستشارين واسعي الخبرة وملتزمين بهدف الزبون ويمكِنهم مساعدته على استكشاف الخيارات العديدة الممكنة؛ إذ ستزداد فرص ريادة الأعمال بشكلٍ كبير في ظل الاقتصاد المضطرب إذا كان رب العمل مستعداً لسماع النصائح المبتكرة، ويُخلِّص المحترفون الذين يمتلكون رؤيةً واسعة رواد الأعمال من سرير "بروكرست" الذي تربطهم إليه النصيحة ضيقة الأفق، ويوسعون منظورهم ويرشدونهم عبر متاهة الاحتمالات حتى يصلوا إلى النجاح.

إذا لم تُوسِّع منظورك، فأنت تُفوِّت على نفسك الفرص.

 

المصدر




مقالات مرتبطة