3 دروس للتحكم بهوس الكمال

أُصبتُ بنوبة قلبية بعد شهرين من انطلاق مسرحية هاميلتون (Hamilton) الموسيقية على مسرح برودواي (Broadway) في سان فرانسيسكو (San Francisco)؛ وذلك بالتزامن مع بلوغ العرض ذروة نجاحه في جميع أنحاء أمريكا، وكنت المخرج الموسيقي لهذا العرض؛ أي المسؤول عن إدارته والإشراف عليه، وقد أصبت بالنوبة وأنا في طريقي إلى منزلي بعد أداء العرض، وكنت أبلغ من العمر 43 سنة.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن المخرج الموسيقي "جوليان ريف" (Julian Reeve)، أخرج مسرحية هاميلتون (Hamilton) الموسيقية، ويُحدِّثنا فيه عن تجربته مع هوس الكمال والمثالية في تفاصيل عمله.

في البداية، ظننت أنَّ سبب النوبة هو ضغط العمل، لكن أثبتت الفحوصات لاحقاً أنَّ سنوات حياتي المتخمة بأنماط الحياة السيئة بالترافق مع وجود أفكار الكمال غير المتناسبة مع الواقع هي التي كانت السبب وراء ذلك.

لقد تسبب نمط حياتي هذا الذي كان الغرض منه إسكات ذاك الناقد المتنمر الكامن بداخلي، إضافة إلى تدني تقديري لذاتي بانسداد الشريان التاجي الأيمن بنسبة 90%، وقد رُكِّبَت لي دعامتان وعائيَّتان من أجل التعافي، وكانت التوصية بعقد جلسات مع طبيب نفسي.

بعد إدراك طبيبي النفسي لحاجتي الماسة إلى إيجاد بعض التوازن مع متطلبات الكمال لنفسي وللآخرين في مسرحية هاميلتون، عرَّفني إلى مفهوم التعاطف مع الذات، وهي طريقة مجربة تعمل على إضعاف الرابط ما بين الكمال والاكتئاب وتساعد مهووسي الكمال على التحكم بشخصياتهم بطرائق صحية.

أثبت مفهوم التعاطف مع الذات قدرته على تغيير قواعد اللعبة، وإليكم ما تعلمته:

1. ليس طلب الكمال هو ما يؤدي إلى إحراز النتائج:

قبيل إصابتي بالنوبة القلبية، كنت أتوقع أقصى درجات الكمال من نفسي وزملائي لم أكن أكترث بأنَّ كلَّ عرض كانت مدته ثلاث ساعات ويتضمن غناء 20.520 كلمة بوتيرة سريعة تبلغ 144 كلمة في الدقيقة. 

هكذا كانت مسرحية هاميلتون، إنَّه عرض هام للغاية، وكان في طريقه تماماً لأن يصبح قطعة فنية راسخة في الثقافة الشعبية الأمريكية، وكان يجب أن يكون صحيحاً، كان يجب أن يكون دقيقاً، وكان يجب أن يكون مثالياً.

بالطبع، كنت أعرف دائماً في قرارة نفسي أنَّ فرصة نجاح 35 شخصاً من أعضاء فريق التمثيل و10 موسيقيين في أداء أدوارهم في كلِّ ليلة، كانت ضئيلة، لكن هذا لم يمنعني من وضع معايير شبه مستحيلة تُشجِّع طاقم العمل على تقديم أفضل أداء لديهم، بصرف النظر عن الضغط الذي قد يسببه هذا الأسلوب.

لطالما كانت تلك الطريقة المفضلة لدي في وضع المعايير العالية التي حظيتُ بالاحترام بسببها في جميع أنحاء العالم، ولقد افترضت أنَّ السعي وراء الكمال هو سبب نجاح طاقم العمل، لكن بعد أن تعرفتُ إلى مفهوم التعاطف مع الذات، بدأت أنظر في خيارات أفضل، وشرعتُ في تغيير معتقداتي وأسلوبي.

سرعان ما أدركت أنَّ نهجي في القيادة الأخلاقية كان يؤدي حقيقةً دوراً رائداً في تحقيق نتائج شبه مثالية، وليس طلب الكمال بحد ذاته، ولقد كان النداء الجماعي لنقدم أفضل ما لدينا دائماً هو مصدر إلهام روعتنا، وكان من شأن هذا إلى جانب الشعور بالفخر بالمشاركة في مثل هذه المسرحية الموسيقية الهامة والجميلة أن يساعدنا على تقديم الأداء المتوقع منا.

شاهد بالفيديو: أربع عادات تمنحك الثقة بالنفس

2. التجربة لا تقل أهمية عن النتيجة:

حسب ما أذكر أنَّ تركيزي كان موجهاً دائماً على نتيجة المهمة التي أقوم بها، وليس على تجربة الوصول إليها، وفي حين أنَّ هذا النهج له مزاياه، إلا أنَّ رحلة الوصول إلى النتيجة كانت غالباً غير سعيدة ومرهقة؛ لأنَّني لم أعِر اهتماماً كبيراً للرعاية الذاتية.

دفعني التعاطف مع الذات إلى النظر إلى الأشياء نظرة مختلفة، وإلى معرفة أنَّ التركيز على تجربة إنجاز النتيجة المطلوبة لا يؤدي إلى النتيجة نفسها وحسب؛ بل يجعلها أجود أيضاً؛ وذلك من خلال إضفاء بعض المتعة على العملية، ولقد كانت النتائج مذهلة، وبدلاً من الاعتماد على أداء كلِّ أغنية بنجاح لإشباع توقي إلى الكمال، بدأت أعتمد على التجربة الشاملة لكلِّ أغنية للدلالة على النجاح، وكنت أحلل كيف كانت تبدو جملة موسيقية معينة، وكيف بدت صورة المسرح أمامي بالنسبة إلى الأداء الغنائي، وكيف بدت الأوركسترا ككلٍّ واحد؛ فإذا شعرت بالرضى التام عن التجربة بأكملها، فهذا يعني أنَّني حققت "الكمال".

كما تبين، فقد تحقق "الأداء المثالي" في كثير من الأحيان باستخدام هذه الطريقة الجديدة، وأصبحتُ أكثر ارتياحاً في أثناء العروض، الأمر الذي ساعدني بدوره على تقديم أداء أفضل والقيادة بفعالية أكبر، وأصبحتُ أكثر تسامحاً مع الأخطاء؛ لأنَّني تمكَّنتُ تقدير قيمة الرحلة إليها، كما اكتسبت إدراكاً أفضل لأسباب وقوعها، وهي معلومة رائعة خلال سعيي إلى تجنبها.

لقد تبنيت منذ ذلك الحين هذا النهج الشامل في كلِّ جانب من جوانب عملي تقريباً، مشجعاً أولئك الذين يعملون لدي على القيام بالأمر نفسه، وتصبح النتائج أفضل بانتظام، ومتعة التجربة تزداد ازدياداً لا حدود له، إنَّه مكسبٌ للجميع.

3. فهم توقعات الآخرين يعزز التوازن:

إدارة المناصب الوسطى صعبة جداً على مهووسي الكمال، لا سيما في المجالات المرتكزة على الأداء؛ إذ يطلب الرؤساء الكمال (أو ما يشبهه قدر الإمكان) يومياً، يكاد يكون إيجاد توازن سليم في عملنا شبه مستحيل ما لم نبدأ في تحليل وفهم توقعاتنا من أنفسنا ومرؤوسينا وأرباب عملنا.

بعد بضعة أشهر من النوبة القلبية، أعددت قائمة بهذه التوقعات، وكما كان متوقعاً، أظهرت النتائج بأنَّني شعرت بأنَّ الكمال هو المعيار المنشود من قبل الجميع، ومع ذلك، شجعني تركيزي على التعاطف مع الذات على التشكيك في استنتاجاتي.

إقرأ أيضاً: السعي وراء الكمال: أسبابه، وآثاره السلبية، وطرق محاربته

سرعان ما اكتشفت بأنَّ الشخص الوحيد الذي كان يتوقع الكمال هو في الحقيقة أنا، وعندما فكرت في رؤسائي، أدركت أنَّه ربما كان الكمال هو المعيار الموحد في كلِّ أداء؛ لكنَّ مديري كان واقعياً بما يكفي ليعرف أنَّ تحقيقه يختلف تماماً عن المطالبة به، لو أنَّني كنت متفانياً تماماً لجعل العرض بأفضل شكل ممكن كلَّ ليلة، وكنت أنفِّذ تعليماته بجدية قدر الإمكان، فسيكون سعيداً.

بالمثل، أدركت أنَّ الأشخاص الذين كنت أقودهم لم يطلبوا مني المستوى نفسه من الكمال الذي توقعته من نفسي، لقد بدا أنَّهم جميعاً مرتبطون بالعنصر الإنساني المشترك للتعاطف مع الذات تعاطفاً أفضل، وهو "ارتكاب الأخطاء جانب مقبول من الحياة".

قادتني هذه الاكتشافات إلى الاستنتاج بأنَّه لن يتحقق أفضل توازن في العمل ما لم أعامل نفسي باللطف نفسه والتسامح اللذين أمنحهما للآخرين طواعية، هذا يستغرق وقتاً، وما زلت أعاني اليوم من ذلك؛ لكنَّني سأصل إلى ما أريد.

إقرأ أيضاً: هوس السعي إلى المثالية: أسبابه، وسماته، وطرق علاجه

في الختام:

كانت هذه كلُّها أمثلة رائعة عن كيف ساعدني التعاطف مع الذات على إيجاد الطريقة الأسلم للتعاطي مع هوسي بالكمال والاستمرار في تحقيق نتائج رائعة؛ فقوة التعاطف مع الذات هائلة جداً، وإذا تبنيتها في مكان العمل وألهمتَ موظفيك للقيام بالأمر نفسه، فسوف تزدهر أنت وعملك.




مقالات مرتبطة