تاريخ صناعة العطور

تُعَدُّ العطور إحدى أجمل الأشياء في عالمنا، فمَن منا لم تجذبه رائحة الجوري والنرجس والريحان؟ ومَن منا لا تُوجَد في داره شجرة ياسمين ونبتة حبق؟ هذه الروائح الأخَّاذة باتت اليوم تُباع في قوارير بمختلف الروائح والأنواع، فمنها ما يناسب الرجال ومنها ما يناسب النساء والأطفال، وكانت وأصبحت واحدة من أكبر أنواع التجارات العالمية وعلى مدى التاريخ، وفي مقالنا هذا سنتعرَّف إلى تاريخ صناعتها ونشأتها.



تاريخ صناعة العطور:

تعود نشأة العطور إلى عصور ما قبل الميلاد؛ إذ قامت الحضارات القديمة على تنمية طرائق صناعتها وإعطائها عناية خاصة، عندما كان مُعتَقداً سابقاً أنَّها تؤمِّن النظافة وتساعد عليها، وكذلك كانت تُستَعمل في العديد من الطقوس الدينية والقرابين، وكانت تُعَدُّ العطور سابقاً حكراً على النبلاء وذوي الشأن والطبقة العليا ومادة أساسية في بيوتهم، فلا يستطيع الحصول عليها سوى الأغنياء نتيجة غلاء ثمنها وصعوبة الحصول عليها.

وعُرِف في التاريخ أنَّه من أوائل صُنَّاع العطور كانت امرأة مختصة في الكيمياء والأعشاب اسمها "تابيوتي"؛ إذ عُثِرَ على لوح من الطين منقوش عليه رسومات تروي قصصاً عنها وعن صناعتها للعطور في بلاد ما بين النهرين في أثناء فترة الحضارة البابلية، وقُدِّرَت الحقبة الزمنية لهذا اللوح إلى 2000 سنة قبل الميلاد.

الحضارات القديمة والعطور:

استعملَت العديد من الحضارات العطور بمختلف الطرائق، وسنذكر بعض الحضارات التي أولَت اهتماماً شديداً بالعطور:

  • الحضارة المصرية الفرعونية:

    في هذه الحضارة الأسطورية كانت الريح الطيبة ترمز إلى سيد العطر حسب اعتقادهم وهو الإله "نفرتيم"، ويصوره التاريخ والرسومات الأثرية بصورة رجل يحمل زنبق الماء ويرتدي إكليلاً مصنوعاً منها، وتُعَدُّ الآن زنابق الماء من أشيع المكونات في صناعة العطور الحالية، وكان المصريون يعتقدون أنَّ العطر هو عرق الإله "راع" إله الشمس؛ لذا كانوا يستعملونه بصورة يومية وكانت له قيمة قدسية كبرى.

استعمل المصريون التقطير في صناعة عطورهم عن طريق تقطير الأزهار وغيرها من المكونات ذات الروائح العطرة وخلطها بالزيوت الطبيعية غير العطرية؛ فكانوا يستعملون كل المواد الطبيعية المتوفرة كالأزهار والورود ولحاء الأشجار العطرية والفواكه، وكانوا يعتمدون البخور في الطقوس الدينية والاحتفالات والتأبين، كذلك كان العطر يُوضَع في قبور الملوك والملكات والنبلاء وذوي الشأن مع سائر الكنوز والملابس والحلي والطعام؛ وذلك ظناً منهم بأنَّهم سيستعملونها عند القيامة في الحياة الثانية.

كذلك من المُعتَقد أنَّ ملكات الفراعنة أمثال "حتشبسوت" و"نفرتيتي" و"كليوباترا" كانوا يستعملون العطور في تعطير غرفهم وحماماتهم وأجسادهم، وطالبوا بوضع العطورات الثمينة في قبورهم.

الحضارة المصرية الفرعونية

  • بلاد فارس:

    أُعجِب الفارسيون بالعطر؛ إذ كان يُستَعمَل كدليل للوضع السياسي والملكي في البلاد، وكانوا يصورون الملوك في رسوماتهم ومخططاتهم ولوحاتهم وهم يحملون قوارير العطر، وعندما بدأ الاحتلال اليوناني والروماني لبلاد فارس، اكتشفوا لديهم العطور وأخذوا تقنيات صناعتها وموادها الأولية وعدُّوها شكلاً من أشكال الفنون العظمى.
  • إمبراطورية روما:

    كانت لروما واليونان مكانة هامة في صناعة العطور وتجارتها، وتستمر صناعة الكثير من العطور الرومانية والإغريقية إلى يومنا هذا، ومن أهم مصانع العطور وأقدمها الذي يعود عمره إلى نحو 1850 سنة قبل الميلاد هو مصنع الطائفة التي عبدت آلهة الحب "أفروديت"؛ حيث كانوا يستعملون العطر في كل طقوسهم ويعطرون معابدهم ومنازلهم به.

ازدهرت صناعة العطور وتجارتها في روما وحوَّلتها من مدينة صغرى تعمل بالزراعة إلى محور عالمي للتجارة والسياحة وتبادل البضائع؛ إذ يتراوح المعدل السنوي في استهلاك الروم للمر ولبان الذكر إلى نحو 550 طناً من المر و2800 طنٍ من لبان الذكر سنوياً لشدة استعمالهما في صناعة العطور.

استعمل الرومان والإغريق العطور في دورات المياه والحمامات العامة لتعطير المياه وتعطير الأجساد والعناية بها، واستُعمِلت كإضافات على زيوت الشعر وملطِّفات الجسم؛ ونتيجة الإسراف في استعمالها والبذخ فيها حُظِرَت ومُنِعَ استعمالها عندما سقطت روما؛ ولذلك ظلت العطور مئات السنين غير رائجة وقليلة الاستعمال في أوروبا.

  • أوروبا في العصور الوسطى والنهضة:

    ذُكِر في القرن 11 ميلادياً في فترة الحملة الصليبية أنَّ الصليبيين استعادوا صناعة العطور إلى أوروبا وشرعوا في تأمين المواد الأولية والتقنيات الجديدة في صناعتها التي استولوا عليها من الشرق الأوسط، ومن بين هذه التقنيات هي طريقة تقطير بتلات الأزهار والورود.

في الحقبة الزمنية التي تفشى فيها الموت الأسود "الطاعون"، اعتمد الأطباء والمعالجون على لبس أقنعة لها منقار طويل مثل منقار الطير يحتوي في داخله على مزيج من التوابل والأعشاب والزيوت العطرية؛ وذلك لظنهم أنَّ المواد العطرية تُطهِّر الهواء المُستَنشَق من الوباء؛ الأمر الذي زاد من شهرة وشعبية العطور وزيادة الطلب عليها واستعمالها.

أتقن الإيطاليون صناعة العطور، ودرجت صناعة العطور السائلة التي حلَّت محل العطور الصلبة، وأصبحت البندقية في إيطاليا مركزاً رئيساً لتجارة العطور بعد أن جلب "ماركو بولو" الكثير من المواد الأولية لصناعة العطور والنباتات والزهور العطرية، وانتشرت العطور وزادت شهرةً وشعبيةً في أوروبا كافة بعد أن استعملها ذوو الشأن والطبقات العليا والملوك؛ الأمر الذي شجَّع صنَّاع العطور على التنافس فيما بينهم لصناعة عطور مختلفة وفريدة لتقديمها للملوك والنبلاء.

إقرأ أيضاً: تاريخ الخبز ونشأته، من أين بدأ؟

أول عطر قُدِّم للعالم:

طال التقدُّم صناعة العطور على مر الزمن، فكان سابقاً يَرمُز إلى كل مادة لها رائحة طيبة أو خليط من المواد الصلبة والجافة والزيوت وغيرها باسم العطر، وكل هذا قبل ظهور العطورات بشكلها الحديث، ويُعَدُّ "الهنغاريون" أول من استعمل العطور بشكلها الحديث كمنتجٍ يطبَّق على الجسم؛ إذ كانوا يُحضِّرونه بخليط من الزيوت العطرية أو نواتج تقطير الورود والنباتات العطرية ويُمزَج مع مستحضر كحولي، وفي تلك الأيام كانت تسيطر على خلطات العطور النباتات العطرية مثل الزعتر وإكليل الجبل ونبتة العطرة وغيرها.

وقد أُعِدَّ أول عطرٍ للاستعمال الشخصي لملكة هنغاريا حصرياً، وانتشر صيته في أوروبا كافة وعُرِفَ باسم "هنغاريا ووتر"؛ أي ماء هنغاريا.

قذارة أوروبا في العصور الوسطى واستعمال العطور:

تعددت التقارير التي كتبها المؤرخون العرب والأجانب حول الأوروبيين في العصور الوسطى، وفيما يأتي سنذكر بعضاً منها:

  • كان الاستحمام والعناية بالنظافة الشخصية في حقبة معينة من الزمن في أوروبا يُعَدُّ كفراً في وقتها؛ لذلك بدأ الفرنسيون بصناعة العطور كي تطغى على روائحهم، ومنها اشتُهِرت العطور الباريسية التي نستعملها في يومنا هذا؛ ونتيجة لهذه القذارة كانت تنتشر العديد من الأمراض وكان الطاعون يتفشى ويقضي على أغلب السكان في تلك المناطق.
  • قال الكاتب "ساندور ماراي": "إنَّ الأوروبيين كانوا كريهي الرائحة بشكل لا يُحتَمل من شدة القذارة".
  • قال الرحالة "أحمد بن فضلان" في الروس القدماء: "إنَّهم أقذر خلق الله، لا يغتسلون من بول ولا غائط، وقِيلَ إنَّ القيصر الروسي كان يتبول على جدران القصر أمام حاشيته".
  • قال مبعوث روسيا في وصف ملك فرنسا "لويس الرابع عشر": "رائحة الملك لويس أشد قذارة من رائحة حيوان بري؛ إذ قِيلَ إنَّ واحدة من جواريه كانت تغتسل وتنقع جسدها بالعطر كي لا تشتمَّ رائحة الملك المقرفة".
  • دمَّرت الملكة "إيزابيلا الأولى" الحمامات الأندلسية وقِيلَ إنَّها لم تستحم سوى مرتين في حياتها.
  • قال المؤرخ الفرنسي "دريبار": "نحن الأوروبيون مدينون للعرب في حصولنا على سبل الرفاهية في حياتنا اليومية والشخصية والعامة؛ إذ علَّمنا المسلمون كيفية المحافظة على نظافتنا الشخصية، ولقد كانوا على عكسنا تماماً؛ فكنَّا لا نُبدِّل ملابسنا إلَّا بعد أن تصبح شديدة القذارة وذات رائحة لا تُطاق، ولقد بدأنا تقليدهم بتبديلها وغسلها والاستحمام أيضاً".
  • منع الملك الإسباني "فيليب الثاني" الاستحمام في مملكته منعاً باتاً، حتى أنَّ ابنته "إيزابيل الثانية" أقسمت على عدم تبديل ملابسها التحتية حتى ينتهي حصار إحدى مدنهم، وماتت الأميرة "إيزابيل" نتيجة القذارة والإنتانات التي حدثت معها بسبب عدم خلعها ثيابها الداخلية؛ إذ دام الحصار لثلاث سنوات.
إقرأ أيضاً: 8 خطوات متعلقة بالنظافة للحفاظ على صحة الجسم

الروائح العطرة في القرآن الكريم:

تُعَدُّ العطور والرائحة الطيبة من المحببات في الإسلام، وتجذب النفس البشرية وتريح النفس وتقوي الثقة بالنفس وتدل على نظافة وطهارة واضعها؛ إذ نصح الرسول الكريم "محمد" صلى الله عليه وسلم الرجال بالتعطر والتطيُّب، وقد كان عليه الصلاة والسلام يتطيَّب بالعطر قبل ذهابه إلى المسجد، وفيما يأتي أنواع الطيب والروائح العطرة التي ذُكِرَت في القرآن الكريم:

  • المسك: ذُكِرَ المسك في "سورة المطففين"، قال تعالى: {خِتامُهُ مسكٌ وفي ذلك فَليَتنافَسِ المُتَنافِسون}.
  • الريحان: ذُكِر الريحان في "سورة الرحمن"، قال تعالى: {والحَبُّ ذو العَصفِ والرَّيحان}، وفي "سورة الواقعة"، قال تعالى: {فرَوْحٌ ورَيحانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍْ}.

وقال "أنس بن مالك" رضي الله عنه: "ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه "مسلم".

وكان رسول الله "محمد" صلى الله عليه وسلم يحب الطيب والعطور ويحث عليه وعلى التحديد في يوم الجمعة، فعن "أبي ذرٍّ" رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن اغتسل يوم الجمعة فأحسن الغسل، وتطهَّر فأحسن الطهور، ولبس من أحسن ثيابه، ومسَّ ما كتب الله له من طيب أو دهن أهله، ثم أتى المسجد، فلم يلغُ، ولم يفرق بين اثنين، غفر الله له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". رواه "الطبراني".

في ختام مقالنا، كنا قد تطرَّقنا إلى تاريخ صناعة العطور ونشأتها والحضارات التي اعتمدت على صناعتها وتجارتها واستعمالها، وذكرنا حُبَّ الإسلام للعطور والطيب؛ آملين الحصول على الفائدة المرجوة منه..

المصدر




مقالات مرتبطة