تأثير الموضة على الثقة بالنفس

تزخر حسابات صفحات منصات التواصل الاجتماعي بصور العارضات والفنانات؛ واحدة في المالديف تستعرض ملابس البحر التي صُممت لها خصيصاً من قِبل دار أزياء شهيرة، وأخرى على السجادة الحمراء ترتدي فستاناً وطقم مجوهرات صُنعوا من قِبل مصممين عالمين يعادل ثمنهم ما يكفي أسراً لأشهر عدة.



من هذه الصور تستوحي دور الأزياء المحلية تصاميمها الخاصة بالملابس، فمجرد أن يرتدي النجم الفلاني أو الممثلة الفلانية لباساً معيناً، يتحول هذا اللباس إلى موضة رائجة تتسابق مصانع الملابس على استنتاج قصتها لتحقق مبيعات خيالية في الأسواق المحلية.

ولا تقتصر الموضة على الملابس، فهي وبتطور مجال التجميل قد طالت ملامح الوجه وشكل الجسد، فأصبح الجسم الذي يشبه الساعة الرملية هو المعيار الذي يحدد جمال جسم المرأة، والجسم مفتول العضلات هو الذي يحدد جمال جسم الرجل الذي تُبنى على أساسه تصاميم الملابس، كما أنَّ الأنوف الصغيرة والشفاه الممتلئة وعيون القطة (Cat eyes) تحولت أيضاً إلى موضة دارجة في عالم عمليات التجميل.

فإذا ما وقفنا لحظة أمام هذه المعايير المتبدلة باستمرار التي قد تناسب فئة قليلة من الناس، ماذا سيكون موقف البقية؟ وهل يمكن لمس تأثير الموضة في الثقة بالنفس؟ هذا ما سوف نناقشه في هذا المقال.

فلاش باك عن الموضة:

لم تكن الموضة شيئاً موجوداً في القدم؛ إذ إنَّ الملابس كانت تُصنع من أجل أداء مهامها الوظيفية، من ستر للعورة وحماية للجسد من برودة الشتاء وأشعة الشمس، ثم وبتقدم المجتمعات وتطور الحضارات تدخلت عوامل عديدة في أشكال الملابس والأغراض من ارتدائها، وأصبحت الاستخدامات الاجتماعية أيضاً عاملاً هاماً في تصميم الأزياء، بالإضافة إلى الآراء الدينية والطبقات والهويات الاجتماعية والهويات الشخصية والآراء الجنسانية.

أما مصطلح "موضة" فهو بتسميته هذه وليد منتصف القرن العشرين، وهو ناتج عن تخطي الملابس التي يرتديها البشر أدوارها العملية البحتة، واتخاذها طوابع فردية للتعريف بالذات والتعبير عن النفس، وهذا ما يفسر الانتشار الكبير لمصانع الألبسة التي تجتهد في ابتكار تصميمات بأعداد لا نهائية تناسب الاختلافات الفردية بين البشر التي تكون دافعاً لهم لشرائها من أجل التعبير عن أنفسهم.

بتطور هذا المجال وتركه آثاراً واضحة في النفس والسلوكات البشرية نشأ ما يسمى "علم نفس الأزياء" (The psychology of fashion)، وهو فرع من علم النفس يتعمق في دراسة تأثير الملابس في الحالة النفسية للإنسان، والآثار التي تتركها في مزاجه وصورته لذاته، كما توجه هذا العلم إلى فهم دوافع الأفراد تجاه امتلاك الملابس وتغييرها، وتوضيح تأثير النزعة الاستهلاكية في الصحة العقلية والنفسية للأفراد.

تأثير الموضة في الثقة بالنفس:

إنَّ تأثير الموضة في الثقة بالنفس واضح وضوح الشمس، فالموضة التي يكون من شأنها تعزيز ثقة الإنسان بذاته في مكان معين تؤدي دوراً معاكساً في مكان آخر، وخاصةً أنَّ الموضة هي مفهوم متغير بحسب المكان والزمان.

يمكن ملاحظة تأثير الموضة في الثقة بالنفس عبر النقاط الآتية:

1. الموضة تعطي شعوراً بالتفوق:

من خلال دراسة تأثير الموضة في الثقة بالنفس نجد أنَّ الموضة تعطي شعوراً بالتميز والتفوق، وبالعودة إلى تاريخ نشوء الموضة فإنَّنا ندرك بأنَّ الموضة كانت وسيلة لتعزيز التمايز الطبقي، ففي أزمان غابرة كان الملوك والطبقات العليا من المجتمع يرتدون ملابس محتشمة؛ وذلك لأنَّ الخلاعة تعني الابتذال والوضاعة، وما يزال هذا المعتقد سائداً حتى يومنا هذا، ويمكن ملاحظة الاحتشام في ملابس العائلة الملكية البريطانية التي تضيف إلى مظاهرهم رونقاً من الملكية والعنفوان.

كانت الطبقات الأقل شأناً منذ القدم تحاول جاهدة تقليد الطبقات الأعلى، وكان تقليد ملابسهم نوعاً من محاولة التشبه بهم، وإنَّ كون ملابس الطبقة الغنية مصنوعة من مواد باهظة أو نادرة فإنَّه يصعب على الطبقة الأقل امتلاكها؛ لذا سعت إلى تقليدها شكلاً وحياكة ملابس مثلها بجودة أقل، وهذا ما كان يثير حفيظة الطبقة الأرستقراطية ويدفعها إلى التخلي عن نمطها في الملابس وابتكار موضة جديدة، لتعود الطبقة الأدنى إلى التقليد مرة أخرى وهكذا دواليك.

يمكن تخيُّل الشعور بالتفوق الذي يشعر به شخص من الطبقة المتوسطة ظنه الآخرون من نخبة المجتمع بسبب ملابسه التي تشبه ملابسهم، وهذا يفسر سعي الناس نحو الموضة والظهور بهيئات براقة تخطف لهم احترام الجميع وتملُّقهم.

2. الموضة تساعد الإنسان على اكتشاف ذاته:

من ملامح تأثير الموضة في الثقة بالنفس أنَّها تكون في بعض الأحيان وسيلة ليجد المرء ذاته، ويستقر على الهيئة التي يجد فيها التعبير الأمثل عن نفسه، وكثيراً ما وجدنا أشخاصاً يلاحقون تغيرات الموضة ثم يثبتون على نموذج محدد من الملابس يجدون فيه التعبير الأفضل والتمثيل الأوضح لشخصياتهم.

في مثال عن ذلك نلاحظ تغير الموضة باستمرار وفي الوقت ذاته نلاحظ ثبات بعض الناس على موضة الملابس الرسمية مثلاً، ولعلَّ السبب وراء ذلك هو انطباع الجدية والوضوح الذي تتركه هذه الموضة في الآخرين، فالمحامون أو الموظفون في البنوك مثلاً أشخاص جديون في عملهم ويتخذون مواقف حيادية، ويجب عليهم في مرات كثيرة أن يتركوا عواطفهم جانباً وتحكيم الأمور من منظور عقلي؛ لذا فهم يميلون بطبيعة الحال إلى هذا الإصدار من الموضة.

3. الموضة مكافأة مجزية للنفس:

من علامات تأثير الموضة في الثقة بالنفس أنَّ شراء ملابس عصرية يكون في كثير من المرات عبارة عن مكافأة مجزية ترفع الثقة والاستحقاق بعد فترة عمل طويلة أو الدخول في حالة نفسية صعبة، فالكثير من الناس يعمدون إلى إهداء أنفسهم ملابس مواكبة للموضة بوصفها نوعاً من الربح العصبي كما يدعوه المتخصصون، والذي ينبع من رغبة الفرد بامتلاك واحتواء كل ما هو عصري وجديد ومرغوب.

على الرغم من أنَّ الربح العصبي يحل مكان الحافز والدافع الداخلي لإنجاز المهام، إلا أنَّه لا يمكن إغفاله بوصفه واحداً من تأثيرات الموضة في الصحة النفسية للأفراد، كون تحول الأفراد عن غاياتهم الأساسية السامية يساهم في ارتفاع مستوى جلدهم لذواتهم وتأنيبهم لأنفسهم في حال لم يتمكنوا من بلوغ ما يحقق لهم الربح العصبي، ومن ثمَّ انخفاض مستوى الثقة بالنفس.

4. الموضة تسبب الإحباط والاكتئاب:

على الرغم من مظاهر الجمال والرفاه والثقة التي تبثها الموضة في نفوس مواكبيها، إلا أنَّ معظم الناس قد تدمرت حياتهم وثقتهم بأنفسهم بسبب عدم قدرتهم على مواكبة الموضة، ويظهر تأثير الموضة في الثقة بالنفس تأثيراً سلبياً في الحالات التي لا يكون بمقدور الأفراد اتباع التصاميم الرائجة.

ففي الآونة الأخيرة روجت الموضة ترويجاً كبيراً للرشيقات عن طريق عدم طرح مقاسات كبيرة من التصاميم في الأسواق، وهذا زاد اعتدادهن بأنفسهن ودفع الكثير من السيدات إلى طلب الرشاقة ولو بطرائق ملتوية؛ ونقصد هنا الأنظمة الغذائية غير الصحية وعمليات جراحة البدانة الخطيرة.

هنا يكون التأثير السلبي للموضة في ثقة السيدات الممتلئات بأنفسهن، هذه الفئة التي لا تستطيع أن تبتاع القصات الدارجة من الألبسة كونها لا تلائم أشكال أجسادهن، وقد يقمن بشرائها وارتدائها على الرغم من أنَّها لا تليق بهن، فيتعرضن للتنمر، وهذا يسبب لهن انخفاض الثقة بالنفس.

بواسطة الشاشات ومنصات التواصل تقوم بعض السيدات بمقارنة أنفسهن وأجسادهن بأجساد العارضات المثاليات، وهذا يدخلهن في دوامة الإحباط وكره الذات التي تؤدي إلى الاكتئاب.

5. الموضة تحوِّل الناس إلى نسخ متشابهة:

إنَّ تأثير الموضة في الثقة بالنفس يظهر عن طريق خفض ثقة الأشخاص بأنفسهم وفقدانهم لطابعهم الفردي المميز الذي يتخلون عنه بالسعي وراء المعايير العالمية الدارجة، على سبيل المثال، وبعد أن تخطت الموضة موضوع الملابس وطالت الشكل الإنساني، بدأت موضة الشفاه الممتلئة بالظهور تزامناً مع شهرة الممثلة الأمريكية "أنجلينا جولي"، ومنذ ذلك الحين تحاول السيدات بشتى الطرائق الحصول على هذا المعيار الشكلي.

في مثل هذه الحالات لم يعد الناس ينظرون إلى الفتاة ذات الشفاه الرقيقة بأنَّها جميلة، وتحوَّل الجمال إلى شكل مشروط بمعايير معينة يُنفى عن الإنسان الذي لا يتمتع بها، ولا يقتصر الأمر على شكل الشفتين فقط؛ بل تعداه ليطال لون البشرة ولون الشعر ولون العينين وشكل الجسم وحجم الأنف وشكله وحتى شكل الأذن.

بإلقاء نظرة سريعة على المشاهير والنجوم نجد أنَّ قسماً كبيراً منهم يحاول أن يجعل من نفسه نسخة عن شخص آخر، وهذا ما ينمُّ عن ضعف ثقته بنفسه وشكله، التي يكون سببها فرض الموضة لمعايير معينة يسعى من أجل تطبيقها جميع اللاهثين وراءها.

إقرأ أيضاً: فن اختيار الملابس في المناسبات الرسمية

لا يقتصر تأثير الموضة في الثقة بالنفس على فئة النساء فقط؛ بل يطال الرجال أيضاً، فالموضة تروِّج للشاب الوسيم الطويل ذي العضلات البارزة وتجعل منه النموذج المفضل للجنس الآخر، والمعيار الذي تُقَصُّ على أساسه الملابس العصرية الأنيقة، وهذا يؤدي إلى وجود هوة بين الشاب الذي لا يتمتع بهذه المعايير الساذجة ونفسه وجسده، ويظن نفسه غير مؤهل للانخراط في مجالات الحياة.

إقرأ أيضاً: تأثير الملابس في الحالة النفسية

في الختام:

على الرغم من التأثيرات الإيجابية للموضة التي تطال الأفراد الذين يتابعون تغيراتها والثقة والاستحقاق اللذين يحصلون عليهما بسبب تصنيف أنفسهم وتصنيف الآخرين لهم ضمن النخبة، وعلى الرغم من التنوع والاختلاف والقيم الجمالية التي تضيفها إلى العالم، إلا أنَّ التأثيرات السلبية لها لا يمكن إغفالها، وخاصةً أنَّ تأثير الموضة السلبي في الثقة بالنفس يكون كارثياً في بعض الحالات.

فكم من الأشخاص الذين آذوا أنفسهم من أجل اللحاق بالموضة واتبعوا أنظمة صحية حادة أدت إلى انهيار صحتهم فقط من أجل ارتداء ملابس بمقاسات وقصات معينة؟ نحن لسنا ضد الموضة بالتأكيد، ولكنَّنا مع احترام تمايز كل إنسان واختلافه؛ إذ يمكن أن نختار من الموضة ما يلائمنا، وليس من الضروري أبداً ملاحقة الموضة بجميع تقلباتها فقط لنبدو عصريين ومختلفين.

المصادر: 1،2،3،4




مقالات مرتبطة