اليقظة الذهنية: مستوياتها المختلفة ومعنى كلٍّ منها

كانت حياتي قبل اكتشاف تقنيات اليقظة مليئةً بالقلق والتوتر والأرق المستمر، لقد نشأت بوصفي طفلاً اجتماعياً، لكن ببطء خلال مرحلة البلوغ، أصبحت هادئاً مع الناس هدوءاً غير طبيعي، وبدأت أشعر بالقلق كلَّما حضرت المناسبات الاجتماعية أو تحدَّثتُ مع أكثر من شخص.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب "ديفيد أوسكار" (DAVID OSCAR)، يشرح فيه مستويات اليقظة الذهنية وتقنياتها المختلفة التي يتَّبعها.

أصبحت حياتي غريبةً، وكان تقبُّل هذا الأمر في شبابي صعباً جداً؛ لأنَّني لم أكن جاهزاً لذلك في السنوات السابقة، ولحسن حظي، لطالما اهتممت بالموضوعات الفكرية والروحية، وهكذا عثرت على تمرينات اليقظة الذهنية وبدأت في ممارستها.

حتى قبل أن أكتشف اليقظة، كنت أمارس تمريناً عقلياً بهدف التحكم بمشاعري، وخاصةً مزاجي العصبي، لقد كنتُ سريع الغضب في ذلك الوقت؛ لكنَّني ندمتُ لاحقاً وكان عليَّ أن أفعل شيئاً حيال ذلك.

على مر السنين، مارست تمرينات اليقظة الذهنية باستمرار وأصبحتُ حقاً شخصاً أفضل، لقد تخلصت من القلق والخجل الاجتماعي والهدوء غير الطبيعي والتفكير المفرط على سبيل المثال لا الحصر.

أنا أنوي في هذا المقال مشاركة رحلتي نحو اليقظة، وكيف غيرت حياتي تغييراً لم أفكر فيه من قبل، وسوف أشارك تقنيات اليقظة التي استخدمتها منذ اليوم الأول وحتى اليوم لمساعدتك على البدء في رحلتك، وآمل أن تستفيد منها أيضاً.

مستويات اليقظة المختلفة:

كانت رحلتي نحو اليقظة الذهنية رحلةً صعبة جداً؛ ففي بعض الأوقات، شعرت بالقوة والثقة والاستعداد لمواجهة العالم، لكن في أوقات أخرى شعرت بالحزن والإحباط وانعدام الطاقة؛ إلا أنَّ الشيء الوحيد الذي تبيَّن لي هو أنَّ حياتي كانت تسير ببطء نحو الأفضل حتى لحظات الإحباط تلك كانت تصبُّ في مصلحتي أيضاً دون أن أدرك ذلك، وعندما واظبتُ على ممارستها، بدأت اليقظة تغيرني، وكلَّما تعمقت فيها أكثر، كانت التغييرات أوضح.

حتى الآن، يمكن القول إنَّني مررت بـ 5 مستويات من اليقظة، وقد جعلني كلُّ مستوىً في حالة وعي أعمق بكثير من المستوى السابق، وللحصول على تصوُّر أوضح عن تجربتي، إليك المستويات وكيف يبدو كلُّ مستوى.

المستوى الأول، الاسترخاء:

بدأت ألاحظُ تغييرات في حياتي، وكانت أولها فترةً طويلة من الاسترخاء العميق؛ إذ شعرت بالهدوء والسكينة، وكان الأمر كما لو كنت قد استنشقت الهواء لـ 5 دقائق متتالية، وحبسته لـ 3 دقائق أخرى، ثم أخرجته، إنَّ ذلك الشعور أشبه بأن تحمل أمتعةً ثقيلة على كتفك وتسير بها مسافةً طويلة، ثم تصل إلى وجهتك وتلقي بها أرضاً.

تمرُّ أوقات نشعر فيها جميعاً بالراحة والسلام؛ وذلك عندما تسير الأمور على ما يرام، ولا نعاني في حياتنا مشكلات خطيرة؛ لكنَّ هذا الشعور الذي نمر به في هذا المستوى من اليقظة أعمق بمراتٍ عديدة مقارنة بالشعور الطبيعي بالاسترخاء، ويمكنك ملاحظة ذلك بسهولة؛ فسوف تشعر بشيءٍ في الجزء الأوسط من صدرك بشعور بالثقة والطمأنينة، وسيأتي الشعور ويستمر لساعات، لكن ليس لأيام، وسوف يتكرر كل بضعة أيام.

المستوى الثاني، الاسترخاء العميق وقليلٌ من اليقظة:

بينما واصلت ممارسة التأمل، لاحظت أيضاً أنَّ الاسترخاء يزداد عمقاً، لكن هذه المرة بدلاً من مجرد الشعور بالراحة النفسية، شعرت أيضاً بأنَّ ذهني كان يقظاً؛ يعني ذلك أنَّني كنت قادراً على إدراك الأشياء إدراكاً أفضل، فعندما تحدث إلي أحدهم، أنصتُّ باهتمام وفهمت ما يقوله.

كنت في العادة من النوع الذي يستمع قليلاً ويقاطع المتكلم لإبداء رأيي، وأحياناً كان الأمر مزعجاً للغاية لدرجة أنَّ الشخص الآخر كان يطلب مني أن أعطيه الوقت للانتهاء من الحديث أولاً، أما الآن، فأدعهم يكملون الحديث حتى النهاية، وبعد ذلك يسألونني عن رأيي في مجمل القضية التي يتحدثون عنها.

كان هذا غريباً بالنسبة إلي؛ لأنَّني لم أجد مطلقاً أنَّني جيدٌ في التواصل، ولم أُدرب نفسي على ذلك؛ لكنَّني كنت بارعاً، وكان الصبر والاهتمام اللذين استمديتهما من تأملي اليقظ يمنحاني السيطرة على نفسي.

المستوى الثالث، مزيدٌ من اليقظة والسلام:

شعرت عند هذا المستوى، كما لو أنَّ جسدي قد وصل إلى حالة من الهدوء الشديد، مما سمح لعقلي بالسيطرة التامة، كان العقل يسيطر شيئاً فشيئاً وشعرت بأنَّني حيٌّ تماماً.

أصبحت قادراً على التحدث ببلاغة، واستخدام المنطق السليم استخداماً مثالياً لجعل الناس يفهمون ما أريد القيام به وكانوا يقتنعون تماماً، وإذا لم تكن شخصاً يستمع إليه الناس دائماً، ستجد مثل هذه التجارب مذهلةً حقاً، أتذكر حادثةً معينة اتبعت فيها المنطق الاستنباطي لإقناع صديق لي أنَّ سيدةً معجبة به وكانت تحبه.

كان يواجه صعوبةً في اكتشاف ما إذا كانت تحبه حقاً، ولقد شرحتُ له الأمر بطريقة بسيطة أدهشتني أنا أيضاً، وقد شعرت في هذا المستوى أنَّني أيقظت عملاقاً نائماً في داخلي، وأخذ يستكشف ببطء ما كان يحدث في العالم المادي بعد أن أمضى عقوداً في سبات عميق.

شاهد بالفديو: 6 خطوات لممارسة تأملات اليقظة الذهنية

المستوى الرابع، الوضوح الذهني واليقظة العميقة:

أكثر تجربة لا أنساها على صعيد هذا المستوى هي عندما ذهبت لشراء سيارة من وكالة محلية في الحي الذي أعيش فيه، وكنت خجولاً وجاهلاً في البداية، وقد لاحظ التجار ذلك وحاولوا استغلالي والتلاعب بي لإبرام صفقة سيئة؛ لكنَّهم فعلوا ذلك بأدب شديد والابتسامات ترتسم على وجوههم.

شعرت في تلك اللحظة بأنَّ شيئاً مريباً كان يجري، وعلى الرَّغم من أنَّني حاولت المقاومة؛ لكنَّهم تمكنوا من التعامل معي بذكاء وأقنعوني بقبول صفقتهم، لقد أظهروا لي أنَّهم أصدقائي ويمكنني الوثوق بهم.

فكرت في كلِّ شيء عندما عدت إلى المنزل، واكتشفت النقطة التي تلاعبوا بي فيها؛ لذلك قررت أن أعود بعد بضعة أيام، لكن هذه المرة سوف أمارس التأمل أولاً قبل بضع ساعات من الذهاب إلى هناك، وسوف أحافظ على وعيي طوال فترة وجودي هناك حتى أنجز الأمور حسب رغبتي.

في ذلك اليوم، حرصت على أن أظل واعياً وأفكر بعمق في كلِّ ما قالوه وأقرر ما يعنيه ذلك بالنسبة إلي وإليهم أيضاً، وهذا ما فعلته تماماً، وكلَّما تحدَّث أحدهم، كنت أستمع باهتمام وقارنت ما قالوه لي بما يفترض أن يحدث في أي سيناريو مشابه.

بينما كنت أبذل قصارى جهدي للحفاظ على إدراكي للموقف، شعرت بشيء يكتسحني عميقاً في هذه اللحظة، وأوضح لي الأمر دون كثير من العناء، كانت موجةً من القوة والطاقة الذهنية.

تمكنت من طرح الأسئلة الصحيحة بالطريقة الصحيحة وتمكنت منهم، ولقد صححوا الخطأ الذي ارتكبوه عن قصد لإقناعي بتوقيع تلك الصفقة، والتي من شأنها أن تسلب أموالي، وظللت متحكماً بمجرى الأمور طوال تلك الصفقة.

المستوى الخامس، إدراك الحواس ووضوح أكبر:

قررت بعد حادثة شراء السيارة أن أمارس التأمل قليلاً قبل مغادرة المنزل في كل مرةٍ سوف أتعامل فيها مع أمورٍ جديَّة مثل المشتريات أو المفاوضات، كما سأحاول بكامل وعيي أن أبقى في اللحظة الحالية عندما أتعامل مع هكذا قضايا، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأمور أكثر إثارة.

أصبحت واعياً بأفكاري ومشاعري حتى عند التحدث إلى أشخاص آخرين، وشعرت بأنَّ مساحةً ضخمة تكونت في قلبي كي أعيش فيها وأراقب كلَّ شيء يجري في الخارج، وأن أكون حساساً لما أشعر به وكذلك أفكر فيه.

إضافةً إلى ذلك، قَويَت حواسي، وأصبحت أشعر بسهولة بالرائحة وأسمع الأشياء بشكل أفضل، مما كنت أفعله على مر السنين، ولقد كانت وما تزال تجربةً خارقة، كما أنَّني أشعر بتوافق أكبر مع محيطي في معظم الأوقات، ولقد أصبحت واعياً بأنفاسي عندما أتنفس، ومع كلِّ نفس أشعر أكثر فأكثر بالسيطرة على أفكاري ومشاعري وأحاسيسي وكلامي.

لقد أصبحت أُفكر ملياً قبل اتخاذ أي إجراء، مهما كان صغيراً وغير ضار، ولقد عانيت في هذا المجال لفترةٍ طويلة، أما الآن فأصبحت أتصرف على هذا النحو دون أي عناء.

بناءً على تجربتي، أدركت أنَّ اليقظة تمنع كلَّ القلق النفسي والاضطراب الجسدي وتمنحك الفرصة لرؤية جمال الكون بأكمله؛ إنَّها توقظك من سبات التوتر والقلق والأفكار المتسارعة، وتساعدك على عيش كلِّ ما يحدث في كلِّ لحظة دون تفويت حدثٍ واحد، ودون القلق تجاه الماضي أو المستقبل، إنَّك تعيش الحاضر فقط وبشكل تام.

إقرأ أيضاً: علامَ تدل الأحاسيس التي تظهر في أثناء ممارسة التأمل؟

تقنيات الوصول إلى مستويات اليقظة الأعمق:

قد تسأل الآن ما هي أنشطة اليقظة التي تمنح الفرد هذه الأنواع من التجارب؛ لذا إليك 8 من هذه التمرينات:

1. التأمل اليقظ:

كان التأمل اليقظ هو الأساس لدي، فقد كانت هذه أول ممارسة بدأت بها؛ إذ كنت أشاهد مقطع فيديو على موقع يوتيوب (YouTube) مدته 10 دقائق، ثم مقطع فيديو آخر مدته 20 دقيقة بعد بضعة أشهر، وبعدها دربت نفسي على القيام بذلك وحدي وأحببت هذه الممارسة كثيراً.

2. التصور الإبداعي:

لطالما كان التصور جزءاً من حياتي؛ إذ أتخيل مستقبلي أو هدفاً أعمل عليه، مما يُحفزني لأداء مزيد من العمل، ويوفر أيضاً بعض الاسترخاء والوعي بالنفس والحيوية في بعض الأحيان، لكن احرص على ألا تقع ضحيةً للأحلام وتفقد الاتصال بالواقع، فقد تنجرف تماماً وتفسد حياتك، أحاول أن أكون معتدلاً في ممارسة التخيل.

3. التفكُّر:

استطعت من خلال التفكر زيادة مستوى يقظتي الذهنية؛ لأنَّه يساعد على توجيه الانتباه إلى الأشياء التي أفكر فيها والحفاظ عليه، ولقد لاحظت أنَّ التفكر يوفر مقداراً من الاسترخاء مماثلاً لما توفره جلسات التأمل، إنَّ التفكير في مشكلات حياتك الحالية ومحاولة حلها يوفر أيضاً القدر نفسه من السلام.

4. التحدث اليقظ:

لقد بدأت هذه الممارسة عندما لاحظت أنَّ ما أقوله لنفسي سراً لا يتطابق مع ما أقوله أمام الناس، وبعد اكتشاف نقطة الضعف هذه، درَّبتُ نفسي على التفكير أولاً بعمق في أيِّ شيء سأتحدث عنه وأن أكون واعياً بنفسي عندما أتحدث للتأكد من أنَّني أقول بالضبط ما عزمتُ على قوله، ولقد لاحظت أنَّ هذا يقوي أيضاً ثقتك بنفسك ويجعلك حازماً وحاسماً على الأمد الطويل.

5. وعي الراحة:

أي وعيك بنفسك، وخاصةً بأفكارك، عندما تكون مستريحاً ومسترخياً بعد أداء بعض الأنشطة خلال هذه الفترة، وسوف تخطر في بالك سلسلةٌ من الأفكار، فإن راقبتها دون الانجرار خلفها، سوف تختفي من تلقاء نفسها.

6. المشي اليقظ:

إنَّه كالمشي العادي؛ لكنَّك تمشي بشيءٍ من الوعي، ومن المفيد أن تبدأ بخطوات بطيئة في بيئة هادئة؛ إذ تكون وحدك، وعندما تواظب على هذه الطريقة وتتقنها، يصبح من الأسهل أن تمشي بوعيٍ في الشوارع والأماكن العامة الأخرى، وفي الوقت المناسب سوف يصبح جزءاً طبيعياً من حياتك.

شاهد بالفديو: 7 فوائد للمشي التأملي

7. وضع الملاحظات:

ما يسمى أيضاً بوضع العلامات؛ أي أن تبقى واعياً بنفسك على مدى فترة طويلة، وكلَّما خطرت في ذهنك فكرة أو شعور أو إحساس، يمكنك وضع علامةٍ عليها، كأن تقول: "هذه فكرة" أو "هذا شعور" أو "هذا إحساس"، إنَّ القيام بذلك سيُبقي وعيك عند أعلى مستوى لفترة طويلة.

8. تناوُل الطعام بوعي:

يستلزم ذلك التركيز التام على نشاط الأكل؛ إذ عليك أن تضع هاتفك جانباً، وتبتعد عن التلفاز والحاسوب وجميع الأجهزة الأخرى، وتوجه انتباهك تماماً إلى الطعام الذي تتناوله، وبهذه الطريقة يمكنك أن تدرك كيفية وضع الطعام في فمك ومضغه وتذوقه وابتلاعه وتكرر هذه العملية حتى تنتهي من طعامك.

إقرأ أيضاً: كيف تنفصل عن التكنولوجيا وتستعيد السيطرة على حياتك؟

في الختام:

لقد استخدمت التقنيات الثلاث الأولى منذ الأيام الأولى التي بدأت فيها رحلة اليقظة، ثم تعلمت الباقي على مر السنين؛ إذ أدركت أنَّ الوعي التام يتطلب بذل جهد شخصي خارج جلسات التأمل؛ إنَّها الطريقة الوحيدة لإحراز أيِّ تقدم.

إذا أردت الوصول إلى مستوياتٍ أعمق من اليقظة، فيجب عليك وضع الخطة المناسبة والتحلي بالالتزام والانضباط للقيام بذلك، وإنَّ البدء بخطواتٍ صغيرة هو الطريقة الأفضل؛ إذ يمكنك أن تبدأ بممارسة دقيقتين إلى ثلاث دقائق من التأمل اليقظ وزيادة ذلك الوقت ببطء كلَّما شعرت بالراحة.

بعد بضعة أشهر، يمكنك البدء في ممارسة التقنيات الأخرى واحدةً تلو الأخرى؛ لأنَّ الهدف هو الوعي التام من وقت الاستيقاظ وحتى وقت النوم، وقد يبدو أنَّ هذا الأمر يتطلب كثيراً من التضحيات؛ لكنَّ الفوائد التي ستحصل عليها في المقابل تستحق كلَّ هذا العناء.

سوف تواجه في أيامك الأولى أوقات تشعر فيها بالانتعاش والمرح بعد انتهاء جلسة التأمل، وأوقات أخرى تشعر فيها بالتعب والاستنزاف والارتباك، وقد تنام خلال جلساتك ثمَّ تستيقظ منهكاً تماماً.

مثل هذه الحوادث شائعةٌ جداً، لكن إذا واصلت المثابرة، فسوف تصل في النهاية إلى وجهتك بعد بضعة أشهر أو سنوات، فالجيد في الأمر هو أنَّك تستطيع رؤية بعض التغييرات في غضون أسابيع قليلة.

توصَّلَتْ الأبحاث إلى أنَّ 8 أسابيع فقط من التأمل الذهني تجلب بعض التحسن؛ لذلك لا داعي للقلق، ليس عليك التأمل لسنوات طويلة دون ملاحظة أيِّ تقدُّم.




مقالات مرتبطة