الوعي والذاكرة: كيف يتأثران بوسائل التواصل الاجتماعي؟

ازداد وصولنا إلى وسائل الإعلام وتعرُّضنا لها تعرضاً كبيراً خلال العقد الماضي من حيث الكمية والطرائق المتاحة، وهذا ما خلف آثاراً واسعة النطاق في مختلف جوانب الحياة البشرية، فتؤثر وسائل الإعلام في كيفية تكوين علاقات مع الغرباء وكيفية تجربتنا للحياة ككل، وأهم هذه التأثيرات ربما أقل شيوعاً هو تأثير وسائل الإعلام في ذاكرة الإنسان؛ أي في الطريقة التي نتذكر بها أحداث حياتنا.



بدلاً من إدراك العالم في الوقت الفعلي، فإنَّنا في الواقع نشهد ذكرى هذا التصور، وهذا يعني أنَّ عقولنا اللاواعية ترشح وتعالج المعطيات والبيانات الواقعية، وغالباً ما تتخذ قرارات في أجزاء من الثانية، ويؤكد الباحثون أنَّنا عندما ندرك تلك التصورات والقرارات؛ أي بمجرد ارتقائها إلى مستوى الوعي، فإنَّنا في الواقع نختبر ذكريات تلك القرارات؛ وبعبارة أخرى إنَّه العقل اللاواعي الذي يتولى القيادة.

كيف يعمل الوعي؟

يعمل الوعي بوصفه جزءاً من ذاكرتنا للمساعدة على ربط الأحداث مع بعضها في سرد ​​متسلسل متماسك، وقال المؤلف الدكتور "أندرو هودسون": "نظريتنا هي أنَّ الوعي تطور بوصفه نظام ذاكرة يستخدمه دماغنا اللاواعي لمساعدتنا على تخيل المستقبل بمرونة وإبداع والتخطيط وفقاً لذلك"، وأضاف: "نحن لا ندرك العالم ولا نتخذ القرارات اتخاذاً مباشراً؛ بل نقوم بكل هذه الأشياء دون وعي وبعد ذلك - بعد نحو نصف ثانية - نتذكر أو نصنع الأسباب التي دفعتنا إلى القيام بها".

ما هو الوعي بالضبط؟

إنَّه لأمر محير بعض الشيء أنَّنا ليس لدينا تعريف محدد بعد، وعموماً الوعي هو تجربة شخصية للعالم بما في ذلك وجودنا، وتم تصميم هذا المخطط الواسع لمفهوم الوعي تصميماً أساسياً في تسعينيات القرن التاسع عشر، وهو يترك مساحة كبيرة لنظريات متعددة.

الوعي ومساحة العمل العصبية:

توجد فكرتان أساسيتان في علم الأعصاب عن مفهوم الوعي، إحداهما هي نظرية مساحة العمل العصبية (GNWT) التي تفترض أنَّ الدماغ يدمج المعلومات من مصادر متعددة في "رسم" بيانات واحد على "مساحة عمل"، وتشكل مساحة العمل هذه - التي تملك معرفة بالعناصر الموجودة في انتباهنا فقط - تجربة واعية.

شاهد بالفيديو: 7 خطوات للتخلص من إدمان وسائل التواصل الاجتماعي

الوعي ونظرية المعلومات المتكاملة:

في المقابل فإنَّ النظرية السائدة الأخرى - نظرية المعلومات المتكاملة (IIT) - تأخذ وجهة نظر أكثر ترابطاً؛ إذ تفترض أنَّ الوعي ينشأ من الخلايا العصبية والترابط بين شبكات الدماغ، ويمكن للخصائص الفيزيائية وخصائص معالجة البيانات للشبكات العصبية - ولا سيما المناطق الخلفية من الدماغ - أن تولد الوعي وحدها.

نظريات أخرى تتعمق في الشبكة المعقدة للشبكات العصبية، وهذا يشير إلى أنَّ حلقات المعلومات بين مناطق الدماغ الممتدة في الزمان والمكان تولِّد الوعي، ويقترح بعضهم أنَّ إدراك "الذات" أمر بالغ الأهمية للوعي بالعالم الخارجي.

هل الوعي مجرد ومضة من الذاكرة؟

استلهم الباحثون نظرية جديدة من وحي الأفكار السابقة والبيانات التجريبية، ووصلوا إلى نتيجة مفاجئة وهي أنَّ الوعي تطور بوصفه جزءاً من الذاكرة، وفي الواقع الوعي هو عملية تذكُّر؛ إذ يقول الدكتور "هودسون": "حتى أفكارنا عموماً ليست تحت سيطرتنا الواعية، وهذا الافتقار إلى السيطرة هو السبب في أنَّنا قد نواجه صعوبة في إيقاف تدفق الأفكار التي تدور في رؤوسنا في أثناء محاولتنا النوم".

الوعي والذاكرة عند مرضى الاضطرابات العصبية:

من خلال إعادة صياغة الوعي بوصفه جزءاً من الذاكرة، يأمل الباحثون أن تساعد النظرية المرضى الذين يعانون من اضطرابات عصبية، فغالباً ما يعاني الأشخاص المصابون بالسكتة الدماغية التي تؤثر في القشرة أو الطرق السريعة العصبية المحيطة بها من ضعف القدرة على استخدام الذكريات لحل المشكلات أو التخطيط للمستقبل، ويعاني الأشخاص المصابون بالخرف أو الصداع النصفي أو الصرع بالمثل من اضطرابات تسبب اضطرابات في الوعي والذاكرة، وغالباً ما يكون الاثنان مرتبطين ببعضهما.

يدرك الباحثون جيداً أنَّهم يبنون أسساً مثيرة للجدل، ويقولون في هذا الصدد: "قد يتبين أنَّ العديد من الفرضيات التي نقترحها - وربما معظمها - غير صحيحة، ومع ذلك فإنَّ اختبار النظرية تجريبياً يمكن أن يقربنا من فهم الطبيعة الأساسية والأساس التشريحي للوعي".

ماذا يمكن أن نكون دون ذاكرة؟

يُعَدُّ محتوى ذاكرتنا أمراً أساسياً لوجودنا البشري، ودون ذكرياتنا نعمل دون قيود أو اعتبارات تخص تاريخنا الشخصي والثقافي ونُترَك دون شخصية، والأهم من ذلك أنَّ ذاكرتنا تمثل العمود الفقري لشخصياتنا وإطاراً عاماً لكيفية تعاملنا مع التجارب الجديدة واتخاذ القرارات بشأن المستقبل.

دون ذاكرة لن يتمكن معظمنا من النجاة؛ نظراً لأنَّنا نعتمد على التعلم السابق لاتخاذ قرارات حاسمة في الحاضر والمستقبل، ولسوء الحظ تتعرض ذاكرة العصر الحديث لتحديات جديدة مع تدفق وسائل الإعلام التي توجد لها آثار هامة فيما يمكننا تذكره.

ما هو تأثير وسائل الإعلام في محتوى الذكريات؟

لا تعدل المواد الإعلامية على ما نتذكره فقط، لكن على كيفية تذكره، على سبيل المثال، يمكن لتقرير إخباري أو تغريدة أو منشور على (Facebook) يتضمن معلومات خاطئة أن يؤثر فيما يتذكره القارئ عن الحدث، وهذه الفكرة مدعومة بدراسات تُظهر أنَّ تقديم معلومات مضللة أو خاطئة عن حدث ما يمكن أن يؤدي إلى تذكر غير دقيق.

على نفس المنوال يمكن أن يؤثر استخدام اللغة القوية أو المثيرة في التفاصيل التي يتم تذكرها عن حدث ما، مثل ما إذا كان هناك شيء ما أو شخص معين حاضراً في الحدث، ومن ثمَّ عندما يتم بث العناوين الرئيسة التي تستخدم الكلام القوي على نطاق واسع، يزداد خطر حدوث تشويه للذاكرة إذا تم تضخيم المعلومات.

هل تتأثر الذاكرة بالصحف أكثر من وسائل التواصل؟

اتضح أنَّ الشكل الذي يتم به تقديم اللغة المثيرة يؤثر أيضاً في مصداقية المعلومات، فقد وجدت إحدى الدراسات أنَّ القصص التي يتم نشرها في الصحف من المرجح أن يتم تصديقها أكثر من تلك التي تُبث على التلفاز، ومن المحتمل أنَّ وجود الصحف منذ فترة طويلة بوصفها وسيلة لنقل الأخبار يجعلها أكثر مصداقية من الأساليب الأحدث مثل (Twitter) أو (Facebook).

ما هو تأثير الحقيقة الوهمية؟

تشكل وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً تهديداً للذاكرة وتحديداً في تكوين الذكريات، وتتجلى طرائق فهم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي فيما يُعرف باسم "تأثير الحقيقة الوهمية"؛ إذ يميل الناس إلى تصنيف العبارات المألوفة على أنَّها أكثر صحة من العبارات الجديدة، وهذا ما نراه خاصة بظاهرة الأخبار المزيفة، ويتجلى تأثير الحقيقة الوهمية عندما يتم تقديم المعلومات مراراً وتكراراً على منصات ووسائل التواصل الاجتماعي، فمن المرجح أن يتم تصديقها بشكل تدريجي.

شاهد بالفيديو: سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي

ما هو تأثير وسائل الإعلام في سعة تخزين ذاكرة الإنسان؟

لا تؤثر وسائل الإعلام فقط في قدرتنا على تذكر الأحداث بوضوح؛ بل تؤثر في سعة ذاكرتنا عن طريق إزالة عبء تخزين المعلومات في أدمغتنا؛ إذ تعمل المواقع الإلكترونية على سبيل المثال بوصفها قرصاً صلباً خارجياً للدماغ، ومع ظهور ويكيبيديا لم تعد عملية تخزين الذكريات الخاصة بالعديد من الأحداث ضرورية، ونحتاج فقط إلى تذكر مكان وكيفية العثور على معلومات عن حدث ما بدلاً من الحدث نفسه.

ما هو تأثير (Google) في ذاكرة الإنسان؟

يسمي الباحثون الاعتماد المنخفض على تخزين الذكريات في الدماغ باسم تأثير (Google)، وتشير الدراسات إلى أنَّ الأشخاص الذين يتوقعون الوصول إلى المعلومات لاحقاً ينسونها بسهولة أكثر من أولئك الذين لم يفعلوا ذلك، ويُظهر الأشخاص ذاكرة أفضل لمكان تحديد موقع المعلومات أكثر من محتوى ومضمون المعلومات.

هل يوجد فرق بين ذاكرة الجيل الحديث وذاكرة الأجيال السابقة؟

يسلط هذا الاعتماد على المصادر الخارجية للتخزين الضوء على الدور الذي تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي في كيفية تذكرنا للأشياء، فقد أظهرت دراسة حديثة أنَّ الانخراط في وسائل التواصل الاجتماعي في أثناء حدث قلل من ذاكرة التجارب، ولوحظ هذا التأثير عندما طُلب من الأشخاص التقاط صور أو ملاحظات عن التجربة، لكن لم يُلاحظ عندما طُلب من المشاركين التفكير في التجربة.

إقرأ أيضاً: غسيل الدماغ والتلاعب بالعقول وتأثرها بوسائل التواصل الاجتماعي

لذلك من المحتمل ألا يتذكر جيلنا والأجيال اللاحقة الأحداث التاريخية بشكل واضح أو دقيق مثل الأجيال السابقة؛ نظراً لتوثيقنا المتكرر للأحداث الكبرى، والأهم من ذلك أنَّنا نعتمد على مصادر خارجية مثل (Facebook) و(Instagram) لتذكر الأحداث الهامة، وهذا يضع على عاتقنا مسؤولية كبيرة لنصبح سجلات دقيقة للأحداث التاريخية.

إقرأ أيضاً: 6 حلول فعّالة للقضاء على إدمان مواقع التواصل الاجتماعي

في الختام:

للأسف نحن نتأثر بكيفية تقديم الأخبار ومن أين يتم الحصول على الأخبار، وهذه القابلية للتلاعب بالأخبار من خلال اللغة والتكرار مع الاعتماد على الآخرين لمعرفة التاريخ وتوثيقه تزيد من مخاطر قبول الروايات الكاذبة والتدوينات غير الدقيقة للتاريخ؛ لذا كان من الضروري مشاركة النتائج المتعلقة بتأثير وسائل الإعلام في الذاكرة؛ وذلك لأنَّ ذكرياتنا هي التي تجذرنا شخصياً وثقافياً، ومن ثمَّ تحدد تاريخنا في النهاية.




مقالات مرتبطة