النقد الاجتماعي: مفهومه وخصائصه وأنواعه

نرى في السلوكات الإنسانية في المجتمع ما هو بنَّاء وما هو هدَّام، فتتنوع التصرفات البشرية في المجتمعات؛ لكن عموماً يكون لها طابع معين ينعكس على المجتمع برمته، ولمَّا كانت السلوكات البنَّاءة بحاجة إلى من يضيء عليها، وينسب إليها المجد الذي يصل إليه المجتمع، ولمَّا كانت السلوكات الهدَّامة بحاجة إلى من يضعها تحت المجهر لتفنيد أسبابها ووضع حلول لها، نشأ ما يُسمى بالنقد الاجتماعي، والذي يعني النظر بعين الصقر نحو المجتمعات وسلوكات الأفراد فيها، من أجل ملاحظة نقاط الضعف ومحاولة معالجة أسبابها وترميمها.



لأنَّ لا فائدة ترجى من النقد الاجتماعي إذا لم تلقِ الأذن المصغية له، والتي ستتولى على عاتقها مسؤولية الإصلاح؛ فقد تبنَّى الأدب مهمة حمل النقد الاجتماعي وإيصاله، وأصبح منبراً ينادي بأحوال الناس ويوصل شكواهم إلى ذوي الأمر، ليكون الحل الإصلاح أو الثورة.

نفرد هذا المقال عن النقد الاجتماعي ومفهومه وخصائصه وأنواعه لنوضح لكم أهمية النقد في توصيف المشكلة، الأمر الذي يضعها على أول طريق الحل.

مفهوم النقد الاجتماعي:

يمكن تعريف مفهوم النقد الاجتماعي على أنَّه الطريقة التي تُستخدَم من أجل تحليل جميع المكونات الاجتماعية، ونقصد هنا تحديداً المكونات التي يُعتقد بأنَّه من المعيب وجودها بحق المجتمعات؛ إذ يُسلط الضوء على هذه الفئات والعينات ومناقشة مشكلاتها والأسباب التي أدت إليها، ومن ثَمَّ إيجاد مجموعات الحلول والتدابير الواجب اتخاذها من أجل إصلاح هذه العيوب، ووضع تغييرات جذرية أو ثورية لها.

على سبيل المثال مشكلة التسول، التي تُعدُّ واحدة من المشكلات الاجتماعية التي يُعنى النقد الاجتماعي بشأنها؛ ففي المجتمعات التي يكثر فيها التسول يقوم المتخصصون بتحديد هذه الظاهرة ودراستها، من هم المتسولون؟ إلى أيِّ مرحلة عمرية ينتمون؟ هل هم أطفال؟ هل أكثريتهم من الذكور أو الإناث؟ ما هي الأسباب التي دفعتهم إلى التسول؟ وغيرها من التساؤلات التي تساهم في إحاطة المشكلة كاملة؛ ومن ثَمَّ اقتراح حلول للقضاء على هذه الظاهرة التي تُعدُّ معيبة للمجتمع.

في مثال آخر للمشكلات التي يتبناها النقد الاجتماعي نذكر مثلاً انتشار الأمية، والتي تُعرَّف أسبابها ودوافعها؛ ومن ثَمَّ وضع حل جذري لها كان في معظم المجتمعات تطبيق إلزامية التعليم حتى نهاية المرحلة الأساسية، وتطبيق التعليم المجاني أو شبه المجاني في المراحل الثانوية والجامعية، إضافة إلى تفعيل دورات محو الأمية وتشجيع الإقبال عليها.

متى ظهر النقد الاجتماعي؟

إنَّ النقد الاجتماعي قد ظهر للمرة الأولى في القرن السادس عشر، ولقد لاقى المنهج الاجتماعي في النقد اهتماماً وقبولاً كبيرين من النقاد في الوطن العربي، تماماً كما لاقى الرواج ذاته في الشرق والغرب، ولعلَّ أبرز النقاد العرب الذين سطع نجمهم في مجال النقد الاجتماعي هم لويس عوض وسلامة مرسي وعلاوة علي وصلاح فضل ونجيب العوفي وغيرهم الكثير.

النقد-الاجتماعي

ما هي أنواع النقد الاجتماعي؟

إنَّ الهدف من النقد الاجتماعي يملي عليه اتباع بعض الاتجاهات التي تقسمه إلى أنواع، وإنَّ أبرز أنواع النقد الاجتماعي هي ما يأتي:

  1. المشكلات والهموم المجتمعية، والتي تُعدُّ من المؤشرات النقدية التي يُعنى بها النقد الاجتماعي، وتُعدُّ واحدة من أبرز أنواع النقد الاجتماعي.
  2. المشكلات المتأرجحة التي ترتبط بالمجتمع تُعدُّ أيضاً من أنواع النقد الاجتماعي التي تناولها في منهاجه النقدي، والتي يُعدُّها أيضاً من المؤشرات النقدية.
  3. ومن أنواع النقد الاجتماعي النوع المتخصص بملاحظة كافة التطورات التي تطرأ على العلوم الإنسانية والطبيعية المرتبطة بالإنسان ارتباطاً وثيقاً، كون الإنسان هو الوحدة الأساسية للمجتمع، وإنَّ أيَّ تطور أو تغيير أو اكتشاف يطاله يؤثِّر في المجتمع تأثيراً شمولياً.
  4. الخصائص المتعلقة بعلم الاجتماع والفلسفة والتاريخ تُعدُّ أيضاً من الأنواع الأساسية للنقد الاجتماعي.
  5. الأدب والفن هما أيضاً ضمن أنواع النقد الاجتماعي؛ إذ يندرجان ضمن المنهج النقدي، ويولي النقد الاجتماعي الفن والأدب اهتمامين بالغين كونهما نتاجات إنسانية.
  6. يرتبط واحد من أنواع النقد الاجتماعي بالواقعية ارتباطاً وثيقاً، ويعتقد هذا التوجه بأنَّ الفن والأدب ينبثقان من واقع المجتمعات كونهما ممارستين ملاصقتين له، ونابعتين من الأديب أو الفنان الذي يكون ابن بيئته ويصور حالها وواقعها.
  7. وفي توجه آخر ضمن أنواع النقد الاجتماعي يُركَّز على المؤشرات المعيارية والنظريات الخاصة بعلم النفس.
  8. من أنواع النقد الاجتماعي التي تُعدُّ من الاتجاهات المعيارية نذكر التوجهات النقدية المعتمدة على السمة الإيديولوجية اعتماداً أساسياً.
  9. من أنواع النقد الاجتماعي التي تمنح النقد الخاص بالعمل الأدبي أو الفني نذكر التوجه الذي يعتمد على التداعي الحر الخاص بالتأثيرات النفسية.
إقرأ أيضاً: ناقد.. غير ناقد!

خصائص النقد الاجتماعي:

إنَّ المنهج الاجتماعي في النقد يتميز بخصائص عدة، ولعلَّ أهم خصائص النقد الاجتماعي هي ما يأتي:

  1. من خصائص النقد الاجتماعي التي تكسب مصداقيته وشفافيته هي كون الأديب ابن البيئة التي يعيش فيها، فهو لا يتربع على برج عاجي يصور من خلاله ما يراه من هموم الناس؛ بل يعيش بينهم ويحاكي أحوالهم، ويجتمع بهم في مجالسهم، مما يكسب مضمونه الأدبي مصداقية في التصوير وإيصال الرسالة.
  2. إنَّ النتاج الأدبي المتضمن للنقد الاجتماعي متولد من السياق الاجتماعي للبيئة التي نشأ فيها الكاتب أو استوحى منها عمله الأدبي؛ فالكاتب يعالج مشكلات مجتمعه وهمومه التي يحياها، فلا يستورد هموماً دخيلة عليه.
    على سبيل المثال، فإنَّ الكاتب الذي عاصر الإقطاعية قدَّم نقداً اجتماعياً لمفهوم الظلم بصورة واقعية، والكاتب الذي عاصر ثورة ما قدم نقداً اجتماعياً لمفاهيم القمع والاستبداد مرتكزة على أحداث من واقع المجتمع، وتُعدُّ هذه الخاصية من خصائص النقد الاجتماعي هي السبب في اكتسابه المصداقية والأمانة في النقل.
  3. من خصائص النقد الاجتماعي التي تمنحه المصداقية أيضاً، انتماء الكاتب إلى طرف أو شريحة معينة؛ ومن ثَمَّ يكون الأدب الناتج عنه بمنزلة مرآة للواقع من زاويته، فإذا ما حصل خلاف سياسي مثلاً، فإنَّ المجتمع سينقسم بين مؤيد ومعارض، وإنَّ الأدب الناتج من طرف منهما يقدِّم النقد الاجتماعي المستنبط من جانب معين ينتمي إليه الكاتب.
  4. إنَّ الأدب المعني بإيصال النقد الاجتماعي يسلط الضوء على المشكلة التي يعانيها المجتمع ويرسم حلاً لها، مما يضع هذه الحلول بين يدي كل شخص يطلع على الأدب، والذي يكون موجهاً للمجتمع ذاته؛ ومن ثَمَّ يكون هو المستهدف في الحل.
  5. من خصائص النقد الاجتماعي أنَّه نقد موجه أيضاً للنص الذي قدَّمه الكاتب، والذي يحمل رؤيته وأفكاره في معالجة المشكلات الاجتماعية.

شاهد بالفديو: كيف تتقبل النقد وتتعامل مع الانتقادات السلبية في العمل؟

النقد الاجتماعي في الأدب:

إنَّ إيصال النقد الاجتماعي بصورة مباشرة وعظية قد يكون فجاً؛ لذا _ ولأنَّ الغرض من النقد الاجتماعي هو لفت الأنظار إلى الظواهر المعيبة وحلولها _ كان لا بدَّ من وجود وعاء يوصل هذا النقد إلى الشريحة المعنية به، بطريقة سلسة تتيح لهم تفهمه والمُضي قُدماً نحو تطبيق الحلول، ولم يجد النقد الاجتماعي أفضل من الأدب لحمل هذه الأمانة بثقة ومصداقية، فتولى الكاتب الأديب مهمة الناقد، وراح يسلط الضوء على القضايا المجتمعية الشائكة، معرفاً أبعادها ومحدداً أسبابها ومقدماً في السياق ذاته ما يراه من حلول لها.

لا يقتصر الأدب المكتوب على حمل راية النقد الاجتماعي؛ بل سانده الفن كما ساندته الموسيقى، وعليه فإنَّنا نرى في أيامنا هذه محتويات أدبية وفنية تحمل مضامين النقد الاجتماعي، فنرى في الأغنيات الثورية تسليطاً للضوء على القمع والاستبداد وطريقاً نحو الخلاص مرسوماً بالدم والثورة، ونرى في الروايات والقصائد واللوحات الأمر ذاته.

لقد دخلت الأفلام والدراما والصور والأفلام الوثائقية مضمار النقد الاجتماعي بتطور التكنولوجيا، وتحولت جميعاً إلى منابر تضيء على المشكلة، وتعبد الطريق نحو الحل، فنرى الأعمال الأدبية والفنية والدرامية والسينمائية تتحدث عن قضايا مجتمعية جوهرية، مثل الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي، والتمييز العنصري، والعنف ضد النساء، والتمييز الجندري، وعمالة الأطفال، والاستبداد السياسي، وقمع الحريات وغيرها من القضايا المجتمعية التي تحتاج إلى الإضاءة عليها بوصفها أول خطوة نحو الإصلاح.

لدينا أمثلة كثيرة على النقد الاجتماعي في الأعمال الأدبية التي ساهمت في إحداث تغييرات جذرية في المجتمع، ونذكر منها رواية "كوخ العم توم" لـ هيريت ستاو، التي عززت حركة التحرر من العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية، ورواية "رامونا" لـ هيلين هانت جاكسون، والتي أحدثت تغييرات جذرية في القوانين الخاصة بالهنود الحمر، وكذلك رواية "الغابة " لـ أبتون سينكلير، التي ساعدت على سن قوانين جديدة متعلقة بالصحة العامة ومعالجة المواد الغذائية.

إقرأ أيضاً: التعامل مع النقد

أقوال عن النقد الاجتماعي:

فيما يأتي مجموعة حكم وأقوال لحكماء ومشاهير تناولوا موضوع النقد الاجتماعي:

  1. "يبدأ النقد الاجتماعي بالنحو وإعادة تأسيس المعاني" أوكتافيو باز.
  2. "عندما يتحلل مجتمع ما، تكون اللغة هي أول من يصاب بالغرغرينا، ونتيجة لذلك، يبدأ النقد الاجتماعي بالقواعد وإعادة تأسيس المعاني" أوكتافيو باز.
  3. "دور الكاتب هو تهديد ضمير الجمهور؛ إذ يجب أن يكون لديه موقف، ووجهة نظر، ويجب أن يرى الفنون بوصفها وسيلة للنقد الاجتماعي، ويجب أن يركز على قضايا عصره" رود سيرلينج.

في الختام:

إنَّ النقد الاجتماعي هو تسليط للضوء على القضايا المجتمعية المعيبة، والتي تعرقل تقدم المجتمع وتطوره، وغالباً ما تُحمَّل مضامين النقد الاجتماعي في الأعمال الأدبية والفنية، فيسهل توضيحها وتعريفها واقتراح حلول لها، وهذا ما يساهم في وصولها إلى شرائح واسعة، الأمر الذي يعبِّد الطريق نحو الإصلاح والحل.




مقالات مرتبطة