النسيان مرض العصر ونظريات تفسيره في علم النفس

تخرج من المنزل مسرعاً، وما إن تصل أسفل درج البناية حتى تتساءل إن قفلت الباب. تمشي خطوتين تزداد شكوكك وتحاول التذكُّر ولكنَّك تفشل وترجع أدراجك للتأكُّد وأنت تستغرب من نسيانك المستمر لكثير من الأمور. تكاد تتكرر هذه القصة القصيرة معنا يومياً مع اختلاف الأشياء والأحداث التي ننساها.



النسيان مرض العصر ونظريات تفسيره في علم النفس هي موضوع مقالنا لهذا اليوم.

أولاً: ما هي مراحل الذاكرة؟

قبل البدء بالحديث عن النسيان لا بدَّ أن نعرف كيف تدخل المعلومات والخبرات إلى عقولنا ولماذا نحتفظ ببعضها وننسى بعضها الآخر، فدراسة الذاكرة اليوم هي جزء من دراسات علم النفس المعرفي، فهي تبحث في العمليات العقلية التي تتضمن تخزين المعلومات واسترجاعها من الذاكرة.

يتلقى الإنسان يومياً الكثير من المعلومات يعالجها على مراحل ويحتفظ بها، ثم يسحبها من ذاكرته عندما يحتاج إليها، وتمر الذاكرة بالمراحل الآتية:

  1. يكتسب الإنسان المعلومات إذ تبدأ الذاكرة من مدخل حسي من المحيط، وتبقى لعدَّة ثوانٍ في سجل حسي مرتبط بالأقنية الحسية، ويتوقف انتقال هذه المعلومات إلى المرحلة التالية "انتباهنا إليها"؛ إذ تمر الكثير من المعلومات علينا، ولكنَّنا لا ننقلها كلها ولا نحتفظ بها جميعها؛ مثلاً السجل الحسي البصري يحتفظ بالمعلومة لمدة ثانية، والسمعي لمدة خمس ثوان، وإذا لم تنتقل المعلومة خلال هذه الفترة سنفقدها.
  2. تنتقل بعدها المعلومات التي حازت على انتباهنا من السجل الحسي إلى مخزن الذاكرة قصيرة الأجل؛ إذ يُحتفَظ بالمعلومات فيها لمدة تتراوح من 20 إلى 30 ثانية، وتختلف هذه المدَّة تبعاً لعدة عوامل، كما أنَّ قدرة هذه الذاكرة على التخزين أيضاً قليلة، فهي تستوعب حوالي سبعة بنود معاً، وجزء كبير من المعلومات يُزاح ويُنسى بسبب ورود معلومات جديدة .
  3. تُراجَع معالجة المعلومات في مخزن الذاكرة قصيرة الأمد بالتكرار أو بربطها بمعلومات سابقة لتنتقل إلى المرحلة التالية.
  4. تنتقل بعدها المعلومات المُعالجَة إلى مخزن الذاكرة طويلة الأمد؛ إذ تُنظَّم في فئات وتبقى المعلومات في مخزن الذاكرة طويلة الأمد فترة طويلة قد تستمر شهوراً أو سنيناً أو حياةً بكاملها.

من الجدير بالذكر أنَّ المعلومات التي لا تمرُّ بهذه المراحل تُنسى؛ مثلاً عندما تطلب من أحد ما رقم هاتفه، فإنَّه مباشرةً يسحب رقمه من ذاكرته طويلة الأمد، فهذا الرقم موجود في مخزن هذا الشخص وليس في مخزنك أنت، وعندما تأخذ هذا الرقم فإنَّك تضعه في المدخل الحسي، وإذا لم تعالج هذه المعلومات - أي الرقم - بتكراره واستخدامه بشكل دائم ستنساه بعد سماعك له.

شاهد: ست خطوات ذهبية تساعد على تقوية الذاكرة

ثانياً: ما هي ظاهرة "على رأس اللسان"؟

"على رأس لساني" كم مرَّة قلت هذه العبارة وأنت تحاول أن تتذكر اسم شخص أو أغنية أو فنان أو حتى عنوان منزل، إنَّ ظاهرة على رأس اللسان هذه ليست إلَّا دليلاً على قيام الذاكرة طويلة الأمد بتنظيم المعلومات وفقاً لفئات محددة، ونحن بمحاولتنا استرجاع معلومة ما؛ نبحث في ذاكرتنا وهذا البحث لا يتم بصورة عشوائية، لنفرض أنَّك تبحث عن اسم سعيد مثلاً، سيخطر في بالك مثلاً اسم حميد أو مفيد، فأنت تحاول استرجاع المعلومات من ذاكرتك طويلة الأمد وفقاً لنظام محدد:

  1. تُشبه باللفظ الكلمة التي تحاول تذكرها.
  2. تبدأ بذات الحرف.
  3. يكون لها معنى الكلمة نفسه.
  4. يكون لها نفس عدد المقاطع.

عند حدوث هذه الظاهرة، فنحن نعلم تماماً أنَّ المعلومات التي نريد استرجاعها موجودة لدينا، ولكنَّنا نشعر بأنَّها على طرف لساننا ولا يمكننا نطقها، وحقيقةً في أثناء محاولتنا للتذكُّر نشعر بشيء من التوتر، وما إن نتذكَّر المعلومة أو يساعدنا أحد على قولها حتى نشعر بالارتياح وكأنَّ ثقلاً قد أُزيحَ عن ظهرنا.

تحدث هذه الظاهرة التي غالبا ما تكون نسياناً مؤقتا للمعلومة عندما:

  1. نكون متعبين.
  2. توجد ذكريات متداخلة أثَّرت في جودة تشفير المعلومات لدينا من الأساس.

تكرار هذه الظاهرة معك دائماً يعني أنَّك لم ترسِّخ المعلومات في ذهنك ولم تعالجها بشكل جيد، وهذا يعني أنَّ عليك تركيزها بتكرارها، خاصةً إذا كنتَ مقدماً على امتحان أو مقابلة عمل.

ثالثاً: نظريات تفسير النسيان في علم النفس

النسيان هو عجز الإنسان عن استرجاع معلومة أو فكرة أو حدث أو فعل سابق، فهو فقدان تدريجي، وقد يكون أحياناً مؤقتاً لمجموعة الخبرات والمعلومات التي اكتسبها الفرد خلال حياته.

النسيان إذاً ليس فقداناً حقيقياً للمعلومات؛ وإنَّما هو فشل في استرجاع هذه المعلومات من أحد أجزاء الذاكرة طويلة الأمد.

يبقى السؤال الأهم لماذا ننسى؟ ولماذا نفقد قدرتنا على استرجاع اسم أو رقم أو حتى معلومات تعلَّمناها كما يحدث قبل الامتحانات مثلاً؟

اهتمَّ علم النفس بتفسير النسيان، وقدَّم في سبيل ذلك عدداً من النظريات وسنتكلَّم فيما يأتي عنها:

1. نظرية التلاشي:

تُعَدُّ هذه النظرية من أكثر نظريات تفسير النسيان بساطةً؛ وذلك لأنَّها تربط النسيان بالوقت؛ أي إنَّنا نفقد المعلومات مع مرور الوقت؛ فمثلاً إذا لم تستخدم أحد البرامج أو التطبيقات لفترة طويلة، ستجد صعوبة كبيرة في تذكُّر خطوات استخدامه، وإذا لم ترَ شخصاً منذ فترة طويلة جداً، فمن المرجَّح أن تنسى اسمه عندما تقابله، لكن إذا تعلَّمت السباحة في الصغر، فهل ستنساها في الكبر؟

يعتقد معظم العلماء أنَّ هذا التفسير للنسيان يعاني من صعوبات تجعل من قبول نظرية التلاشي أمراً صعباً؛ فمثلاً لا تميِّز هذه النظرية بين وجود المعلومات أساساً في الذاكرة وبين صعوبة الوصول إليها، كما أنَّها غير قادرة على تفسير سبب تذكرنا لأحداث من الطفولة دون غيرها، وهي عاجزة عن تفسير الاسترجاع التلقائي؛ كأن ننسى رقماً أو اسماً ثم فجأةً نتذكره.

2. نظرية الإقحام أو الإدخال:

تقوم هذه النظرية على مبدأ أساسي؛ وهو التأثير الإيجابي أو السلبي الذي يُحدثه تعلُّم مهمة في تعلُّم مهمة أخرى، وهذا ما يحدث بالنسبة إلى ذكرياتنا التي تتداخل مع بعضها بعضاً، فما تعلمناه في الماضي يؤثر فيما سنتعلَّمه في المستقبل، وما سنتعلَّمه في المستقبل سيكون له تأثير أيضاً في معلوماتنا السابقة.

المعلومات في ذاكرتنا طويلة الأمد تتداخل وتختلط مع المعلومات الحديثة؛ مما يُحدِث تشوهاً في بعض الأحيان أو عطلاً في الذاكرة؛ فمثلاً قد أسألك عن ذكرياتك في الأسبوع الثاني من التحاقك بالعمل، وستلاحظ صعوبة في تذكُّر أحداث ذلك اليوم؛ وذلك لأنَّ الكثير من الأحداث قد مرَّت بعدها، فالنسيان حسب هذه النظرية يحدث بسبب تداخل الذكريات مع بعضها وتعطيلها لبعضها.

كما ذكرنا قد تؤثر المعلومات السابقة في المعلومات الحديثة، وهذا ما يُسمى "التداخل الاستباقي"؛ فمثلاً قد يصعب علينا حفظ معلومة جديدة بسبب أخرى حفظناها آنفاً؛ كأن يصعب علينا مثلاً تعلُّم الفرنسية بسبب تعلُّمنا للإنجليزية في السابق.

قد يحدث تداخل استرجاعي وهو عكس الاستباقي، فنعجز عن تذكُّر معلومة سابقة بسبب معلومات جديدة.

أول يوم عمل أو أول يوم في الجامعة أو يوم زفافك وغيرها من الأحداث الهامة في حياتك محصَّنة أكثر من غيرها؛ وهي بذلك أقل عرضة للتداخل؛ لذلك تجد سهولة في استرجاعها دائماً، أما الأحداث العابرة كقفل الباب، فممكن أن تكون أكثر عرضة للتداخل والنسيان من غيرها.

شاهد أيضاً: 6 حيل بسيطة تساعدك على تذكّر أي شيء بسهولة

3. نظرية الاسترجاع:

المعلومات كما ذكرنا أكثر من مرَّة ليست ممحيَّة من ذاكرتنا؛ وإنَّما فقط نحن غير قادرين على الوصول إليها بسبب غياب المحفزات والمؤثرات التي تساعدنا على الوصول إليها، وهذا ما تقوله هذه النظرية.

عندما تحدَّثنا عن الذاكرة طويلة الأمد وعن ظاهرة رأس اللسان قلنا إنَّ المعلومات منظمة ومرتبة في الذاكرة طويلة الأمد، والتلميحات والمؤثرات والكلمات المفتاحية تساعدنا على استرجاع هذه المعلومات، فكم مرة تذكَّرتَ العديد من الأحداث بمجرد شمِّك لرائحة ما أو سماعك لأغنية معيَّنة.

في حال لم تتمكن هذه المثيرات من الوصول إلى الجزء المحدد من الذاكرة طويلة الأمد، وإذا لم يتم التعرُّف إلى المعلومات عند استثارتها، فإنَّنا نفشل في استرجاعها ويحدث النسيان.

4. نظرية الكبت:

ترجع هذه النظرية في تفسير النسيان إلى فرويد، ويفترض فرويد وجود العديد من الأفكار والأحداث المرتبطة برغبات سابقة للشخص، أو مشاعر كُبِتَت، أو أفعال تلقى عقوبة عليها، أو أحداث مؤلمة تُستبعَد من الشعور إذ لا يمكن التعبير عنها أو تذكُّرها إلَّا في ظروف خاصة.

هذه الأحداث والذكريات ليست ممحيَّة من الذاكرة؛ بل مستبعدة فقط؛ أي إنَّ الشخص قد نقلها بملء إرادته من الشعور إلى اللاشعور؛ وذلك لأنَّها ترتبط بمشاعر مؤلمة وتجارب قاسية، فهو بذلك ينساها عمداً، وقد أشارت الكثير من الدراسات إلى أنَّ الإنسان يتذكَّر الأحداث السارة أكثر من السيِّئة، وأيضاً يمكن إعطاء مثال عن هذه النظرية الطلاب الذين يتذكَّرون مادة لأنَّهم يحبونها، في حين ينسون المواد التي لا يحبونها.

إقرأ أيضاً: الذاكرة قصيرة الأمد: مدتها وسعتها

في الختام:

ساهمت طبيعة الحياة العصرية اليوم التي فرضت الكثير من الضغوطات على حياة الإنسان مساهمة كبيرة في تحوُّل النسيان إلى ظاهرة عالمية ومنتشرة انتشاراً كبيراً، ورغم أنَّ الكثير من النظريات حاولت تفسير حدوثه، إلَّا أنَّنا لم نصل بعد إلى تفسيرات دقيقة وإجابات واضحة عن نسياننا لأشياء وتذكرنا لأخرى.

إقرأ أيضاً: أنواع النسيان وأهم أسبابه

من جهة أخرى وفي كثير من الأحيان يكون النسيان نعمة على الإنسان، فلا أحد منَّا يرغب في أن يبقى حبيساً لذكرياته وماضيه وتجاربه المؤلمة؛ بل تجده يسعى بكل قوته إلى النسيان.




مقالات مرتبطة