الكذب عند الأطفال: أسبابه، وأهم طرق علاجه

قد تتناهى الكثير من العبارات إلى مسامعنا، والتي يجعلنا ظاهرها في حالة تعاطفٍ كبيرٍ مع قائلها، ولكنَّها تحوي في باطنها الكثير من المعلومات الدقيقة والحساسة، مثل: "لا أثق بك، ولا بأيِّ كلمة تقولها لي؛ فأنت كاذب"، أو "ماذا أفعل مع ابني الذي يكذب كثيراً؟ ما الحل لجعله يتراجع عن ذلك؟"؛ خصوصاً عندما نكون ضمن اجتماعات عائلية.



تُفتَتح الاجتماعات الأسرية غالباً بمشاركة عميقة للمعاناة التربوية التي يعاني منها الآباء، متلذذين بحالة الشكوى والتذمر السلبية، ومعلِّقين مشاعر اللوم والسخط على المدرسة والأصدقاء تارة، وعلى المجتمع الفاسد والتكنولوجيا المُدمِّرة تارةً أخرى؛ لكن بينما يُخصِّص هؤلاء الآباء الوقت الكبير من أجل إسقاط الاتهامات على الخارج، لا يفكرون للحظة في تخصيص الوقت من أجل الجلوس مع أطفالهم ومحاولة مصادقتهم وفهم احتياجاتهم وأحلامهم، حيث يميل أغلب آباء اليوم إلى إنكار الواقع وتحميل قصور تربيتهم للآخرين وعيش دور الضحية، في حين يعي القليل منهم مسؤوليتهم الكاملة عن أخطاء أولادهم، ويقررون اتباع أساليب حديثة في التربية بهدف معالجة القصور الحاصل، مكتشفين أنَّ سياسة ردم الرأس في التراب لم تعد ناجعة؛ فالشخص الناجح اليوم هو الصادق والقوي والواضح، والقادر على بناء حوار عميق مع أطفاله.

لعلَّ مقولة: "إن لم تكن ذئباً، أكلتك الذئاب" تحتاج إلى الكثير من إعادة النظر، فبدلاً من تعليم الطفل سياسة المكر والكذب والخبث والعنف، علينا تعليمه ثقافة الرقي والصدق والتسامح والوعي، وأن يكون قوياً وواثقاً من نفسه، وقادراً على اكتشاف هوية الشخص المقابل له، بحيث يَعِي أنَّ المجتمع متنوع، وفيه مختلف مراحل الوعي والقيم؛ وذلك لكي لا يقع فريسة سهلة للآخرين؛ بمعنى: أن يكون واعياً للجانب المظلم من المجتمع دون أن يمارسه.

كيف لآباء اليوم أن يجعلوا من قيمةٍ ساميةٍ وخطيرةٍ جداً -كالصدق- مثار شكٍّ وريبة، وذلك تحت شعار "لا يقدِّر المجتمع الشخص الصادق؛ لذلك اكذب كي تسلم من شر المجتمع، وتسير مع التيار"؟ ومَن يتصدَّر الأهمية: سير الإنسان مع التيار، أم مع ربه؟ ولماذا علينا أن نكون تابعين للآخر، مقلِّدين له؟ وأين تكمن قوة شخصيتنا وقناعاتنا ورسالتنا في الحياة؟ وهل تحولت أطهر وأرقى صفة يحملها الإنسان إلى وصمة عار في يومنا هذا؟ وكيف أصبح الإنسان الصادق "بسيطاً وساذجاً"، والإنسان الكاذب "ذكياً ومميزاً" في نظر كثيرٍ من الناس؟

نعم، أولادنا في خطر؛ فإن لم يَعِ الآباء قيمة الصدق، فكيف لهم أن يربُّوا جيلاً كاملاً على هذه القيمة؟

لذا سنحاول من خلال هذا المقال الغوص في الأسباب التي تجعل فلذات أكبادنا يكذبون، وكيفية معالجة هذا الأمر.

إقرأ أيضاً: نظرية "اضرب مَن يضربك": أسلوب لاسترداد الحق أم منهج تدميري للطفل؟

أسباب الكذب عند الأطفال:

علينا بداية توضيح معنى الكذب، والذي يعني: قول شيء يخالف الحقيقة لإخفائها بالمطلق، في حين لا يُعدُّ إخفاء قسم منها كذباً.

يُولَد الطفل بفطرةٍ سليمةٍ وصادقة؛ لكن هناك العديد من الأسباب التي تجعله يكذب، ومنها:

1. الخوف من العقاب:

يعتمد أغلب الآباء تربيةً قائمةً على الأوامر والنواهي والتهديدات، بحيث تكون العلاقة مع الطفل علاقة بعيدة كلَّ البعد عن الحوار، ولا تحترم حرية الطفل وحقه في الاختيار؛ حيث نجد أنَّ الطفل يُعاقَب على سلوكٍ سلبيٍّ معين دون توضيح مضار هذا السلوك له، ولماذا عليه الابتعاد عنه.

يكمن الدور الأساسي للآباء في التبيان والتبليغ والحماية، لا في الفرض والمنع والإكراه؛ إذ يدفع الخوف من عقاب الوالدَين المتسلِّطَين الطفلَ المرتكب لسلوك سلبي إلى الكذب عليهما، في حين يؤدي اتباعهما ثقافة الصدق والصراحة إلى عدم لجوء طفلهما إلى الكذب مطلقاً؛ ذلك لأنَّه واثقٌ من أنَّ أبواه يقدسان الصدق، وسيساعدانه على تجاوز السلوك السلبي بطريقةٍ راقيةٍ وهادئة.

2. الأهل الكاذبون:

قد يُعلِّم الأبوان ابنهما الكذب دون أن يشعرا بذلك، فمثلاً: تعلِّم الأم التي تجعل طفلها يجيب على اتصال صديقتها ليكذب عليها ويقول أنَّ والدته غير موجودة في المنزل، ابنها الكذبَ دون أن تَعِيَ خطورة ذلك؛ وكذلك يجعل الأب الذي يحكي موضوعاً ما بطريقةٍ مغايرةٍ لما حدث فعلاً، ابنه كاذباً دون أن يَعِي ذلك.

على الأبوين هنا أن يكونا صادقين مع نفسيهما، وقويين في مواجهة الآخرين، بحيث تحتل تربية أطفالهم على الصدق المرتبة الأولى في سلَّم أولوياتهم.

3. عدم الوعي بسمات المراحل العمرية:

يتسرَّع أغلب الآباء في الحكم السلبي على أبنائهم، بحيث يفسِّرون تصرفاتهم البريئة والفطرية على أنَّها كذب؛ في حين أنَّهم لا يَعون سمات المراحل العمرية للطفل.

يتميز الطفل من عمر سنتين إلى سبع سنوات بأنَّه يملك خيالاً واسعاً، حيث تجده شغوفاً باختراع الكثير من القصص الخيالية التي يُنصِّب نفسه بطلاً فيها؛ بينما يميل الطفل من عمر سبع سنوات وحتى الثانية عشرة إلى إخفاء قسمٍ من الحقيقة أو تزييفها، وذلك لرغبته في اختبار ذكائه أو اكتشاف الكذب بحدِّ ذاته.

على الأهالي هنا التنبُّه إلى سمات المرحلة العمرية لطفلهم، وعدم التفاعل الإيجابي مع كذب الطفل؛ فإن اعتاد الطفل على أنَّ الكذب يجلب له استحساناً وقبولاً من الأبوين، كأن يتفاعلا بقوة مع تخيلاته، أو ألَّا يكترثا إن كذب عليهما ويعتبرا الأمر فترةً مؤقتةً وتمضي، أو أن يمنعهما الكذب من معاقبته؛ فستنشأ لديه قناعةٌ بأنَّ الكذب جميل ومُنجٍّ أكثر من الصدق، ومن هنا تبدأ الكارثة.

4. عدم الاحتواء والنقد اللاذع:

يستخدم الكثير من الأهالي مفردات سلبية للغاية مع أبنائهم، يُدمِّرون من خلالها نفسية الطفل، ويخلقون لديه فكرةً مفادها أنَّه شخصٌ سيء وغير نافع؛ ممَّا يدفعه إلى التفكير في مشتتات ومسليات ليخرج من الألم والضيق النفسي الذي يعيشه، فيكذب على أهله لممارسة الأمور التي تستهويه وتهدِر وقته وتُنسيه ألمه.

لذا كُن إيجابياً مع ابنك، واحتويه، وإيَّاك أن تستخدم معه كلاماً سلبياً؛ وإن كذب عليك، فقل له: "يقول الشخص الصادق الحقيقة، ويفعل الأمور الإيجابية، وأنا أحبُّك وأريدك أن تكون صادقاً، لأنَّ الصدق يليق بك".

5. الغيرة بين الأطفال:

عندما يُرزَق الأهل بولدٍ ثانٍ، غالباً ما يقلّ الاهتمام بالطفل الأول، الأمر الذي يولِّد لديه غيرةً شديدة، فتجده يحاول شدَّ انتباه أهله بجميع الطرائق، حتى السلبية منها، فقد يلجأ إلى الكذب في محاولة إثارة الاهتمام نحوه؛ ذلك لأنَّ ما يهمه لفت انتباه أهله من جديد إليه، حتى وإن تلقى معاملة سيئة منهم نتيجة لكذبه.

لذلك على الأهل تحقيق التوازن النفسي والرعاية والاهتمام لكلِّ أطفالهم بشكل متساوٍ، بحيث يتجنبون تلك الممارسات السلبية من قبل أبنائهم.

إقرأ أيضاً: غيرة الأطفال، أسبابها وكيف نتعامل معها؟

كيف أجعل ابني صادقاً؟

1. التركيز على الإيجابية:

على الأهالي التعامل مع الطفل بطريقةٍ إيجابيةٍ تماماً، بحيث يفصلون الفعل عن الفاعل، مثل أن يقولوا له في حال الكذب: "أنت طفلٌ رائع، ولكنَّ تصرفك بهذه الطريقة كان غير لائق، فأنا حزنت لأنَّك لم تتعامل بصدق"؛ فإن عاد إلى الكذب مرة أخرى، فيستطيعون القول له حينها: "عليك تحمُّل مسؤولية تصرفك الخاطئ؛ لذلك لن نذهب في رحلة في عطلة نهاية الأسبوع".

2. التشجيع على الصدق:

على الأهالي بدلاً من استخدام الجمل التي تُمجِّد الكذب والكاذبين، وتُقلِّل من أهمية الصدق في المجتمع؛ توضيح قيمة الصدق وأثره في بناء مجتمعٍ سليمٍ وقوي، وإيصال أفكارهم من خلال القصص القصيرة الهادفة، ومكافأة أولادهم حينما يقولون الصدق، كأن يمطروهم بالكلام الإيجابي، ويأتون لهم بالهدايا الجميلة.

3. القدوة:

يتعلم الطفل من السلوكات التي يراها منكم؛ لذلك احرصوا على أن تكونوا قدوة صالحة لأطفالكم، وكونوا صادقين، والتزموا بوعودكم مع أطفالكم.

شاهد بالفيديو: 6 طرق تساعد في التعامل مع الطفل الكاذب

4. الاحتواء والأمان:

ضعوا أنفسكم في مكان أطفالكم، واشعروا بهم، واسألوا أنفسكم عن الرسالة الكامنة وراء حالة الكذب التي يستخدمونها، فقد يكونون بحاجة إلى حضن دافئ أو احتواء وحوار عميق معهم.

يُمنَع منعاً باتاً أن تستخدموا الألفاظ السلبية أو التعنيف والضرب والتهديد معهم عندما يرتكبون سلوكات سلبية، بل اتبعوا معهم ثقافة الصدق والحوار، وبيِّنوا لهم سلبيات الأمر وإيجابياته، واحترموا حريتهم، وعززوا قيمة المسؤولية لديهم ليتحملوا نتيجة تصرفاتهم، واجعلوهم يَرون فيكم الملاذ الآمن لهم، بحيث يشعرون بالراحة والاطمئنان عند الحديث معكم حتى فيما يخص أخطاءهم؛ فهم واثقون من تقبُّلكم واحتوائكم للموضوع، وقدرتكم على معالجته بِرُقِيّ وهدوء.

الخلاصة:

يفتقر مجتمعنا اليوم إلى الصدق بشدة، حيث احترف أشخاصه ثقافة التملق والنفاق والمجاملات؛ لذلك يقع على عاتق آباء اليوم مسؤولية كبيرة جداً لغرس قيمة الصدق في عقول أبنائهم؛ إذ يعرف الشخص الصادق ربه جيداً، ويتحمَّل المسؤولية، ويحب ويساعد غيره، ويحمل في صدره وعياً عالياً بشغفه، ويَعِي قيمة وروعة وقوة أن يكون صادقاً على الدوام.

 

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة