القيادة الإيجابية وأثرها على الفرد والمجتمع

كانت الطريقة التي احتفت بها روضة ابنتي بعيد المعلم لافتة، فبدل أن يتلقَّى المعلمون الهدايا من الأطفال وذويهم؛ قامت إدارة المدرسة بإبلاغ الأهالي بعدم إرسال الهدايا للمعلمين لتجنُّب الطلبة غير القادرين على ذلك الإحراج، وفي يوم العيد حضَّرت المديرة حفلاً رائعاً على شكل زينة جميلة وكعكة كبيرة تقاسمها المعلمون والطلاب، ودرع تقديري مرفق بباقة ورد لكل معلم، وبعد أن التُقِطَت الصورة التذكارية للكادر كاملاً، قامت إدارة المدرسة بنشر الصورة على صفحاتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي مرفقة إياها بشكر فردي لكل معلم يتضمَّن أجمل خصاله من إبداع وتفاؤل وتحمُّل للمسؤولية ومهارة في التعامل مع المواقف الحرجة.



في الحقيقة وقبل رؤيتي للمنشورات كنتُ أتساءَل عن سر ولاء الكادر التدريسي لهذه الإدارة والعلاقة المتينة التي تربط بينهم، لكنْ الآن بات كل شيء واضحاً، وبات السر مكشوفاً بأنَّ هذه الإدارة تمارس القيادة الإيجابية، ألا تعرف ما هي القيادة الإيجابية؟ أرجو إذاً أن تسمح لنا بأن نخبرَكَ عن مفهوم القيادة الإيجابية وأثرها في الفرد والمجتمع في هذا المقال.

مفهوم القيادة الإيجابية:

يمكن تعريف مفهوم القيادة الإيجابية على أنَّه التأثير في الآخرين وإنشاء قالب من التنظيم والتنسيق والتكامل والانسجام لجهود الموظفين وفرق العمل يدفعهم إلى أداء مهامهم على أكمل وجه، ولكنَّه لا يعتمد على السلطة والقوة والتهديد والعقوبات؛ بل يعتمد على تشجيعهم وتحفيزهم بطريقة راقية ولطيفة تضمن تعزيز اندفاع ذاتي لدى كل منهم تجاه أداء مهمَّته بأفضل صيغة، وبذل جهود إضافية في سبيل تحقيق الفائدة للجماعة.

القيادة الإيجابية هي ذلك النوع من القيادة القائم على تحفيز الموظفين وتشجيعهم بطريقة تضمن استمرارهم في العمل بالوتيرة العالية ذاتها حتى في غياب المدير؛ لأنَّ الدافع وراء أداء المهام هو دافع داخلي نحو الإنجاز وولاء حقيقي للشركة نابع عن الأمان والسعادة اللذين يحصل عليهما الموظف من وجوده ضمن هذه المنظمة، وليس الخوف من عقوبة أو خصم في الأجر.

إنَّ القيادة الإيجابية هي الصورة الأفضل للإدارة؛ فهي تنطوي على شقين اثنين: الأول هو وضع قوانين مُحدَّدة تنظِّم سيرورة العمل وترسم طريق الوصول إلى الهدف المنشود، والثاني هو الأسلوب المُتَّبَع في إلزام الموظفين بالعمل، والذي يكون في القيادة الإيجابية عن طريق التشجيع والتقدير والاحترام والممارسات التي تعزِّز انتماء الموظف إلى المؤسسة كالحوافز المادية والمعنوية، بدلاً من الإلزام القسري الذي يبطن التهديد والعقاب، والذي يجعل الموظف يشعر بأنَّه مرغم على أداء المَهمَّة، فيقوم بها بدافع الخوف بطريقة تضمن حماية نفسه من تبيعات التقصير، لا بدافع الحب والرغبة في تطوير المؤسسة وتحقيق مزيد من النجاح لها.

يمكن تبسيط مفهوم القيادة الإيجابية بالمثال الآتي: تتنافس شركتان لتحقيق مبيعات أعلى في مهرجان معيَّن؛ يقف المدير في الشركة الأولى مخاطِباً موظفي المبيعات قائلاً: من تكون مبيعاته في اليوم أقل من 10 عينات يُخصَم من نسبته 10%، أما مدير الشركة الثانية يخاطب موظفي المبيعات لديه قائلاً: كل موظف تزيد مبيعاته في اليوم عن 10 عينات سيحصل على نسبة 10% من المبيعات التالية.

إنَّ الشرط الذي وضعه كل من المديرَين يكاد يكون ذاته؛ وهو إقناع موظف المبيعات لعشرة عملاء بشراء المنتجات، ولكنَّ الأسلوبين اختلفا؛ فالأول اتَّبعَ أسلوب التهديد والتخويف، والثاني اتَّبعَ أسلوب التحفيز، وقد يُحقِّقُ الموظفون في كلا الفريقين الشرط، ولكنَّ الدافع وراء تحقيقه لدى كل منهما مغاير تماماً.

تأثير القيادة الإيجابية في الفرد والمجتمع:

لا يتوقف مفهوم القيادة الإيجابية على العمل فقط، فالأم في تربية طفلها قائد، والأب في التعامل مع أسرته أيضاً قائد، والمعلِّم في صفِّه وأمام تلاميذه أيضاً هو قائد؛ لذا فإنَّ التعرُّف إلى تأثير القيادة الإيجابية في الفرد والمجتمع أمر ضروري ليدرك كل مشرف ومتحكِّم أهمية الأسلوب الذي يتبعه في التأثير في الأشخاص الذين يشرف عليهم.

شاهد بالفيديو: 8 سمات قيادية فعالة يمتلكها جميع القادة العظماء

تأثير القيادة الإيجابية في الفرد:

نمضي جميعاً في أعمالنا ووظائفنا ما لا يقل عن ثماني ساعات يومياً، وهذا وقت كبير يعادل ثلث يومنا؛ لذا من الضروري أن يعي القائد هذا الأمر، فلا يجعل أسلوب القيادة الخاص به سبباً بإلحاق أذية نفسية أو جسدية بالموظفين الذين يشرف على عملهم.

إنَّ القيادة الإيجابية تفكر في الاستدامة والمحافظة على ولاء الموظفين؛ لذا فإنَّها تنظر إلى الموظف على أنَّه إنسان لديه طاقة محدودة، لا على أنَّه آلة تستطيع العمل طيلة الوقت دون أي اعتبار إنساني.

في إحدى الشركات التي يقوم العمل فيها على تفريغ حمولة السفن إلى المرافئ، كان القائد المشرف على عملية التفريغ يتبع أسلوب القيادة الإيجابية، فيسمح للعمال بالتوقُّف عن العمل كل فترة، ويجلس برفقتهم يبادلهم الحديث والضحك، ويقدِّم لهم بنفسه أكواب الشاي مرفقة بعبارات الشكر والدعوة بدوام العافية والقوة، ويثني على قوتهم البدنيَّة ويجري لهم المسابقات، وإذا ما حدثَتْ أيَّة مشكلة أو انسكبت محتويات كيس ما بطريق الخطأ، فكان يهوِّن الأمر ولا يلوم العامل المرهق، ويختتم النهار قائلاً: "أعطاكم الله الصحة والعافية، أتمنى أن نلتقي جميعاً غداً".

هذا ما يجعل العمال الذي يعملون بمبدأ المياومة "أي العمل اليومي" يعودون إليه في اليوم التالي؛ وذلك لأنَّهم يشعرون بأنَّهم مقدَّرون ومُحترَمون وبأنَّ جهودهم المبذولة تلقى التقدير، وهذا يعني أنَّ القيادة الإيجابية تعزِّزُ من احترام الفرد لنفسه وللدور الذي يقوم به ويؤديه في العمل، وهذا ما سينعكس على صحتهم النفسية، فهُم يعودون إلى بيوتهم منهَكين جسدياً ولكنَّ حالتهم النفسية ستكون بخير.

لنفترضْ أنَّ المشرف لم يكُنْ يستخدِمُ القيادة الإيجابية، وكان يمنع العمال عن التوقُّف إلَّا بعد نفاذ طاقتهم كاملة، ويوبخهم على أي خطأ ويخصمه من أجورهم ويسخِّف من جهودهم قائلاً: "الأمر ليس اختراعاً للذرة، إنَّها مجرَّد أكياس تنقلونها لمسافة قصيرة، لا أريد جيشاً من المتعبين، الأقل إنتاجاً أرجو ألَّا يأتي غداً"، هل نتخيَّل العبء النفسي الناجم عن انعدام التقدير وافتقار الشعور بالأمان؟

لا يجب أن ننسى دور القيادة الإيجابية في تحفيز الأفراد على الإبداع، فالشخص الذي يشعر بالأمان والتقدير في شركته ويتلقى الحوافز التي تشجِّعه حقاً على استكمال مسيرة بذل الجهود، سيشعر بأنَّه ممتنٌّ إلى الشركة ومدينٌ لها، وسوف يفعل ما بوسعه من أجل تطوير العمل فيها، وهذا ما ينتج عنه أفكار إبداعية عظيمة يقدِّمها للشركة فيحسِّن منها ويحسِّن من عصفه الذهني وقدرته على الإبداع.

من ناحية أخرى تستطيع الشركة التي يتبع مديروها القيادة الإيجابية أن تخفِّفَ من معدَّل دوران الموظفين "والذي يعني قصر مدة عمل الموظف في المؤسسة، والاضطرار إلى البحث عن موظف آخر وتدريبه ليشغل المنصب ذاته"، وإذا ما تساءَلنا عن السبب، فتكون الإجابة بأنَّ تأثير القيادة الإيجابية في الفرد يكون إيجابياً بدوره، فيسعى إلى تطوير ذاته ليتلاءَمَ مع متطلبات العمل في الشركة؛ لأنَّه يجد أنَّ الشركة تقدِّره التقدير الذي يستحقه، وتحترم إنسانيته في أسلوب خطابها معه، وتؤمِّن له بيئة عمل مريحة خالية من الجَّلَد والتأنيب واللوم؛ مما يدفعه بكل حب إلى عملية التعلُّم وتطوير الذات ليبقى أهلاً لثقتها وتحقيق طموحها، وهذا ما ينعكس على مستوى الشركة وينعكس أيضاً على نوعية الأفراد ومستوى ثقافتهم واطِّلاعهم.

إقرأ أيضاً: كيف تكون مديراً ناجحاً؟

تأثير القيادة الإيجابية في المجتمع:

لقد تحدَّثنا عن تأثير القيادة الإيجابية في الفرد، لذا فإنَّ تأثير القيادة الإيجابية في المجتمع سيكون بديهياً؛ وذلكَ لأنَّ الفرد هو اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، وينعكس ارتقاؤه وإيجابيته على مجتمعه فيغدو إيجابياً هو الآخر.

في كثير من السيناريوهات الدرامية والحياتية يتكرَّر مشهد دخول الزوج إلى بيته غاضباً؛ والسبب بذلكَ هو مشاحنة حدثَت بينه وبين مديره وهدَّدَه بالطرد خلالها إذا لم يُحسِّن شيئاً معيناً، وهذا ما لا يحدث إذا ما كان المدير يتبع أسلوب القيادة الإيجابية؛ فهو في هذه الحالة سيتبع مع الموظف أساليب تحفيز وترغيب غير التهديد، ومن ثمَّ فإنَّ الصحة النفسية للموظف ستكون أفضل، وسيعود إلى أسرته هادئاً، فيمارس مهامه الأبويَّة بهدوء وإيجابية هو الآخر؛ والنتيجة ستكون انعكاس شعور الأب بالأمان الوظيفي على نفسيته، ومن ثم التعامل مع الأمور الحياتية بطريقة واعية بعيدة عن القلق الذي يسبِّبه التفكير في احتمالات التسريح.

كما أنَّ تطبيق القيادة الإيجابية له تأثيرات إيجابية في نوعية الخدمات التي تقدِّمها الشركات؛ وهذا يعني جودة تأثير القيادة الإيجابية في المجتمع، فالقيادة الإيجابية تدفع الموظفين إلى بذل قصارى جهودهم وأقصى طاقاتهم الممكنة؛ وهذا يعني جودة في الخدمات والمنتجات الناتجة، وهل لنا أن نتخيَّل إذا ما كانت الخدمات والمنتجات المقدَّمة من الشركات منجزة بأفضل صورة وعلى أكمل وجه؟

المنتجات بجودة عالية "غير المغشوشة" تهدف إلى تحقيق فائدة للعميل وليس مجرد البيع والربح، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الخدمات، خدمات صحيَّة دقيقة، مصداقية في المواعيد، وغيرها الكثير، وهذا بالتأكيد سوف يؤثِّر في المجتمع بشكل إيجابي ويرفع من سويَّة الحياة فيه.

إقرأ أيضاً: فن القيادة ومهارات القائد الناجح

في الختام:

إنَّ القيادة الإيجابية هي فن بحدِّ ذاته، فن في الإدارة يهدف إلى التغلغل في العمق النفسي للموظف وفريق العمل لاستكشاف الأساليب الأفضل في تحفيزه وإدارة طاقاته وجهوده، وبالتأكيد يكون ذلك إلى جانب تحقيق الخطَّة الإدارية المرسومة لتحقيق المهام المطلوبة.

إنَّ القيادة الإيجابية لا تعني أبداً ترفيه الموظفين على حساب أداء المهام؛ بل تعني تحقيق الرفاهية الممكنة التي تضمن أداءَهم للمهام بأفضل صورة ممكنة، وننوِّه أخيراً إلى أنَّ التعامل باحترام مع الموظف ليس رفاهية؛ بل هو حق مشروع، ولكنَّنا نقصد بقية التصرفات غير الداخلة في النظام الإداري للتحفيز، كهدية العام الجديد والزهرة الحمراء على كل مكتب في عيد الحب.




مقالات مرتبطة