القلق صديق غير مفيد وعراف فاشل

بدأت قصتي مع القلق عندما اعتقدتُ أنَّ أمي تتحدث مع أحد أصدقائها واسمه "غوفي" (Goofy)، حيث كنت حينها أبلغ من العمر خمس سنوات. وكنت حينها في مدينة "ديزني" (Disney) برفقة والديَّ أستمتع بيوم جميل، حتى رأيت أمي تتحدث إلى "غوفي" بينما كان أبي يشاهد.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الأستاذ في علم النفس "لوكاس لافرينير" (Lucas LaFreniereis)، والذي يُحدِّثُنا فيه عن أضرار القلق والاعتقاد الخاطِئ بأنَّ القلق مفيد في حل المشكلات.

كان كابوساً بالنسبة لي كطفل أن أتخيل أمي تتركني أنا وأبي من أجل صديقها، وقضيت بقية الإجازة قلقاً من أنَّه إذا رأينا "غوفي" مرة أخرى، فإنَّ ما أخشاه سيتحقق حتماً؛ لذلك كان يتعيَّن عليَّ تجنب أن تلتقي أمي بـ "غوفي" بأي ثمن، وكنت أتحاشى الذهاب إلى الأماكن التي من الممكن أن نلتقي فيها بـ "غوفي"، وكنت أشعر بالضيق الشديد طوال الوقت؛ الأمر الذي أفسد عليَّ قضاء أوقات ممتعة.

كشخص بالغ الآن، يمكنني رؤية إلى أي مدى كانت مخاوفي مثيرة للسخرية، لقد كان قلقي غير واقعي ولكن بالنسبة إلى طفل في مثل عمري آنذاك، كان ذلك عذاباً حقيقياً. ما حدث معي يجسد تماماً آلية حدوث القلق؛ إذ يُعرَّف القلق على أنَّه توقع بأنَّ حدثاً ما سينتهي بنتيجة سيئة في المستقبل، وهو عبارة عن عملية تفكير تركِّز في تهديد قادم محتمل.

تشعر الغالبية العظمى من الناس بالقلق من وقت إلى آخر، ولكنَّ تواتر وشدة المخاوف تختلف من شخص إلى آخر، وبالنسبة إلى بعض الناس، يكون القلق نادر الحدوث، وفي حال حدث، فإنَّه لا يكون شديداً للغاية؛ إذ إنَّ قلقهم يكون واقعياً ولا يسبب لهم الكثير من الاضطراب.

لكن بالنسبة إلى بعضهم الآخر، يكون القلق خارجاً عن السيطرة وعنيفاً للغاية وغير واقعي ويسبب لهم اضطرابات عاطفية، وعندما يصل القلق إلى هذا الحد فنحن نتحدث عن اضطرابات القلق المنهكة.

الأشخاص الذين يشعرون بالقلق كثيراً - سواءً كانوا يعانون من اضطرابات القلق المزمنة أم لا - هم يميلون إلى الشعور بأنَّ القلق مفيد، على الرغم مما يسببه لهم من شعور بالضيق والإرهاق والإحباط؛ والسبب هو أنَّ هؤلاء الأشخاص يؤمنون بما يسميه علماء النفس "المعتقدات الإيجابية للقلق".

هذا النوع من التفكير ينطوي على اعتقاد بأنَّ القلق يساعدك على الاستعداد بشكل جيد إلى المستقبل وتجنب الصعوبات التي قد تواجهها في المستقبل، كما يعتقدون أنَّ القلق يزيد من الحماسة لأداء المهام القادمة ويساعدك على حل المشكلات. والأشخاص الذين لديهم مستويات مرتفعة من القلق، يؤمنون بهذه القناعات بقوة.

في الواقع وعلى الرغم من أنَّ الكثير من الناس يؤمنون بأنَّ القلق مفيد أحياناً، إلَّا أنَّ هذا الاعتقاد ليس صحيحاً بالمطلق، فعلى الرغم من أنَّ القلق في حدود معينة يساعد الدماغ على توقع المشكلات والمخاطر المستقبلية، ومن ثمَّ يوظف مشاعر القلق من أجل الاستعداد لهذه المشكلات ومحاولة تجنبها، إلَّا أنَّ هذه الفائدة من القلق لا تتحقق إلَّا في حال كان للقلق ما يبرره في الواقع.

على سبيل المثال في أثناء فترة الجائحة يكون من المفيد الشعور ببعض القلق؛ بمعنى القلق الذي له ما يبرره من حيث خشية أن يلتقط الشخص العدوى أو يساهم في انتشارها؛ الأمر الذي يدفع الشخص إلى ارتداء الكمامة في الأماكن العامة أو أخذ اللقاح، ومع ذلك، فإنَّ القلق له جانبه السلبي، حتى في الحالات التي يكون فيها مفيداً، يسبب القلق أضراراً للشخص تفوق بكثير الفوائد التي يحققها.

في البداية، لنذكِّر بأنَّ الأمور التي يقلق الناس من حدوثها نادراً ما تحدث، وبالمقارنة بين الأشخاص الذين نادراً ما يعانون من القلق والأشخاص الذين يشعرون بالقلق دائماً، فإنَّ النوع الأخير من الأشخاص يتنبأ دائماً بأنَّ الأحداث السلبية ذات احتمالية للحدوث بشكل كبير.

ليس هذا فحسب؛ بل هم يجدون ما يبرر خوفهم من حدوث النتيجة السلبية التي يتوقعونها، ويبالغون كثيراً في تضخيم سوء النتيجة؛ ووفقاً للدراسات فإنَّ توقعات هؤلاء الأشخاص غالباً ما تكون خاطئة. عندما يتوقع الشخص شيئاً بسبب القلق، فإنَّه يُهوِّل المصيبة ويستخف بقدرته على مواجهتها في حال حدوثها، وهذه الطريقة في التفكير خاطئة بالمطلق.

شاهد بالفديو: 9 خطوات تساعدك على السيطرة على القلق

أجريتُ أنا وزميلي "ميشيل نيومان" (Michelle Newman) دراسة قيَّمنا فيها عدد المرات التي تحققت فيها مخاوف الأشخاص الذين يعانون من اضطراب القلق العام؛ وهو نوع من الاضطراب يتميز بمستويات عالية من القلق الذي لا يمكن السيطرة عليه.

خلال الدراسة طلبنا من الطلاب الجامعيين الذين يعانون من اضطراب القلق العام تسجيل مخاوفهم كل يوم ولمدة 10 أيام، ومن ثم تحقق المشاركون ما إذا كانت الأشياء التي قلقوا بشأن حدوثها قد حدثت بالفعل في الشهر التالي من تسجيل مخاوفهم، ووجدنا أنَّ 91.4% من المخاوف لم تتحقق في الواقع، وبالنسبة إلى الأفراد المشاركين في الدراسة كانت نسبة المخاوف الأكثر شيوعاً، والتي لم تتحقق هي 100%.

علاوةً على ذلك، تبيَّن أنَّ المشاركين الذين لديهم أعلى مستوى من القلق يميلون إلى القلق بشأن ضعف أدائهم في الامتحانات. وأظهرت دراسات أخرى أنَّ مثل هذا القلق يؤثر تأثيراً سلبياً في الأداء الأكاديمي.

في حالات مثل القلق بشأن المدرسة يؤدي القلق إلى نتائج سلبية، وحتى لو لم يؤدِّ القلق إلى نتائج سلبية، إلَّا أنَّ الطاقة التي تُصرَف في أثناء القلق والضيق الذي يشعر به الشخص غالباً ما تكون دون جدوى ومضيعة للوقت.

يميل الأشخاص الذين يعانون من القلق المزمن إلى الاعتقاد بأنَّهم لا يستطيعون التعامل مع النتائج السلبية إذا حدثت بالفعل، إنَّهم يتبنون نمط من التفكير يسميه علماء النفس "بالتشويه المعرفي"؛ إذ إنَّهم لا يعتقدون فقط بأنَّ الكارثة ستحصل؛ وإنَّما يعتقدون أيضاً أنَّ النتائج السلبية ستكون كارثية ولن يتمكنوا من التعامل معها.

وهذا أيضاً أحد جوانب القلق السيئة التي ينخدع بها العقل؛ لأنَّه حتى عندما تتحقق النتائج السلبية، فإنَّ الناس غالباً ما يمتلكون القدرة على التعامل مع هذه النتائج بطريقة أفضل مما كانوا يتوقعون.

حتى بالنسبة إلى الأشخاص الذين يشعرون بمستويات عالية من القلق، فقد أظهرت الكثير من الدراسات التي تناولت حالة "التنبؤ الوجداني" أنَّه عند حصول نتيجة سلبية مثل عدم الحصول على ترقية أو الحصول على نتيجة سلبية في اختبار الحمل، فإنَّ الأشخاص غالباً ما يتعاملون مع هذه النتائج بسلبية أقل مما كانوا يتوقعون.

علاوة على ذلك، فقد وجدت إحدى الدراسات التي بحثت في مخاوف الأشخاص المصابين باضطراب القلق العام، أنَّه عندما تحققت مخاوف المشاركين في هذه الدراسة، فقد أبلغ معظمهم عن قدرة على التكيف مع النتائج السلبية بشكل أفضل مما كانوا يتوقعون، وبلغت نسبة هذه الحالات 79%.

باختصار، عندما يتوقع الشخص حدوث أمر سلبي بدافع القلق، فإنَّه يميل إلى المبالغة في حجم التهديد، وفي المقابل، يميل إلى التقليل من قدرته على التعامل مع النتيجة السلبية، مستعملاً بذلك نمط تفكير خاطئ. من الواضح أنَّ تنبؤاتنا المدفوعة بالقلق غير دقيقة، ومن الواضح أيضاً أنَّ القلق ضار غير نافع، إذن لماذا نستمر بتغذية قلقنا؟

يعتقد الكثيرون - وخاصةً الأشخاص الذي يعانون من القلق المزمن - بأنَّ القلق يساعدنا على حل المشكلات، ولكن للأسف هذا الاعتقاد خاطئ، ففي إحدى التجارب التي قسمت المشاركين إلى مجموعتين، طُلِبَ من المجموعة الأولى التفكير بقلق في إحدى المشكلات الشخصية، بينما طُلِبَ من المجموعة الثانية التفكير بطريقة موضوعية، وكانت النتيجة أنَّ الأشخاص الذين طُلِب منهم التفكير بقلق توصلوا إلى حلول أقل فاعلية من الأشخاص الآخرين.

علاوةً على ذلك، فقد أفاد المشاركون الذين طُلِب منهم التفكير بقلق بأنَّهم عانوا القلق حتى بعد انتهائِهم من عملية إيجاد الحلول، وفي المجموعتين أفاد المشاركون الأكثر قلقاً أنَّه كانت تعوزهم الإرادة لتنفيذ الحلول الممكنة بالفعل.

يشير هذا البحث وغيره من البحوث إلى خطأ الاعتقاد القائل إنَّ القلق يساعد على حل المشكلات، وبشكل أكثر تحديداً قد يساعد القلق الأشخاص على توقع المشكلة المُحتملة، ولكنَّه لا يفيد في حل هذه المشكلة، فبعد أن يساعدك القلق على توقع جميع الاحتمالات التي تؤدي إلى النتيجة السيئة، يصبح القلق ليس له فائدة إطلاقاً؛ إذ يستمر القلق حتى بعد تحديد المشكلة المُحتملة. ما يعني أنَّ القلق ليس قليل فائدة فحسب؛ بل هو ضار أيضاً، فنحن نشعر على نحو سيِّئ عندما نقلق؛ إذ يسبب القلق شعوراً بالضيق ويستمر هذا الشعور بمقدار استمرار القلق.

القلق مزعج في الواقع، ويزيد من الإرهاق الجسدي؛ والمفارقة المضحكة في الاعتقاد بأنَّ القلق نافع هي أنَّنا نعتقد بأنَّنا إذا قلقنا وشعرنا بالضيق في الوقت الحالي، فإنَّنا سنتجنَّب الكارثة والضيق في المستقبل، ولكنَّ هذه الكارثة نادراً ما تحدث.

قد يؤدي القلق أيضاً إلى جعلنا نمتنع عن القيام بالنشاطات التي نرغب في القيام بها؛ فمثلاً إذا كنتُ قلقاً من أنَّني سوف أتعرَّض للرفض من الجنس الآخر، فإنَّني سأبقى وحيداً ودون أيَّة علاقة عاطفية، وإذا كنت تخشى أن يكون أي ألم تشعر به دليلاً على إصابتك بالسرطان، فإنَّك ستفوت على الأغلب الكثير من مواعيد العمل بسبب زيارات غير ضرورية لدى الطبيب. وعندما تبذل الكثير من الجهد الفكري بسبب القلق عندما تكون بصحبة أصدقائك، فإنَّك ستفوِّت على نفسك فرصة الاستمتاع والتواصل بشكل جيد مع أصدقائك.

إقرأ أيضاً: أعراض الإرهاق الذهني وطرق التَّغلب عليها

باختصار، عندما نستسلم للقلق، فإنَّنا سنتبنَّى سلوكاً يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية في المستقبل أكثر من النتائج التي كنا نخشى حدوثها.

بعد كل هذا، إذا ما قارنت سلبيات القلق مع إيجابياته، فإنَّك سترى بلا شك أنَّ القلق مرهق على الصعيد العاطفي والفكري ويؤدي إلى خسارة الحياة والأشياء التي نحبها، كما أنَّه ليس أداة تنبؤ ناجعة تماماً، ولا يقدم فائدة تُذكَر لحل المشكلات؛ وباختصار، سلبيات القلق أكثر بكثير من إيجابياته؛ لذلك هو صفقة خاسرة.

بالطبع توجد أوقات يكون فيها القلق الواقعي لوقت قصير مفيداً؛ بل ضرورياً، ولكن يجب أن تتذكَّر أنَّه حتى عندما يتطلَّب موقف ما أن تشعر بالقلق، فإنَّه من المفيد أن يتناسب قلقك مع حجم الموقف وأن تقلق بطريقة تجعلك تحدد المشكلة فقط، لا أن تستمر بالقلق بعد تحديدها. وبعد ذلك يجب أن تتجه نحو التفكير الموضوعي الذي يتميز بالهدوء واتخاذ الإجراءات التي تؤدي إلى الحلول، وعندما لا تتوفر لديك حلول، فقد يكون من الأفضل أن تتقبل وجود المشكلة لا أن تتجاهلها؛ لأنَّك عندما تتجاهلها، فإنَّك تخاطر بجعل الفكرة تترسخ أكثر في عقلك.

حدد المشكلة بدقة، ثم حوِّل انتباهك إلى شيء أكثر أهمية بالنسبة إليك، وكما قلنا آنفاً، لا يحقق لك القلق تلك الفوائد التي تبرر اعتماده كوسيلة لحل المشكلات؛ بل إنَّ سلبياته تفوق إيجابياته بكثير، ولكن تكمن المشكلة في أنَّك حتى لو كنت تعرف أنَّ القلق لا يستحق هذا العناء، فقد لا تتمكن من إيقافه بمحض إرادتك فقط؛ والسبب في ذلك أنَّ العادات السيئة غالباً ما تكون مقترنة بشروط تفرض حدوثها كلما تحققت هذه الشروط؛ الأمر الذي يتطلب إجراءات مضادة لهذه العادة للتخلص منها.

لحسن الحظ، توجد الكثير من الأساليب والتقنيات التي تساعدك على التقليل من القلق بشكل فعال؛ إذ يستعمل بعض الأشخاص تقنيات مثل اليقظة الذهنية والعلاج بالقبول والالتزام، ويركِّز الأشخاص في هذه التقنيات على تقبُّل مخاوفهم وليس الصراع ضدها. وتتطلب هذه التقنيات من الشخص أن يلاحظ مخاوفه دون أن يحكم عليها، وأن يمتنع عن تحليلها أو مقاومتها أو حتى التصرف بطريقة تتماهى مع هذه المخاوف؛ أي إنَّك في هذه التقنيات تكتفي بملاحظة مخاوفك كمراقب خارجي دون أن تتأثر في هذه المخاوف.

في المقابل توجد تقنيات علاجية أخرى مثل "العلاج المعرفي السلوكي" الذي يهدف إلى تغيير القلق والآثار الناجمة عنه بشكل فعال، على سبيل المثال، تتضمن إحدى تقنيات هذا العلاج تفنيد الأفكار التي تسبب القلق من خلال استعمال المنطق والأدلة والمجادلة في صحة الأسباب التي يُعتقد أنَّها تبرر القلق، وقد يشمل ذلك تحديد الاحتمال الواقعي الذي يعني تحقق المخاوف والوسائل التي ستتكيَّف من خلالها مع هذه النتيجة في حال حدوثها.

أخيراً يمكن أن تساعد تقنيات الاسترخاء - مثل استرخاء العضلات التدريجي أو تمرينات التنفس - العقل على الهدوء؛ وهذا يقلل من تواتر القلق وشدته. وبغض النظر عن التقنية العلاجية التي تستعملها، فقد حان الوقت حتى تتخلص من القلق.

القلق سيِّئ لأنَّه يمكن أن يظهر في أيَّة لحظة ويفسد عليك يومك بأكمله من خلال توقعات لا تتحقق في الغالب، وعلى الرغم من ذلك، فإنَّك تعود لتشعر بالقلق مرارا وتكراراً لأسباب لا تستحق منك هذا العناء.

يجب أن تدرك أنَّ أضرار القلق أكثر من فوائده؛ فنحن لا نقول إنَّ التخلص من القلق أمر يسير، ولكنَّ الراحة التي ستشعر بها بعد ذلك تستحق منك الجهد؛ لذلك خذ قرارك بالتخلص من القلق وعِش حياتك بهدوء.

المصدر




مقالات مرتبطة