القدوة بين التقليد الأعمى ودفء العائلة

كم مرةً أحسستَ أنّك بحاجةٍ إلى شخصٍ أشبه بالبوصلة، شخصٌ يُسهِّل عليك الوصول إلى أهدافك من خلال تجربته، وحكمته، ونجاحاته؟ كم مرةً أُعجبتَ بأفكار أشخاصٍ، وسلوكاتهم، وبالنتائج التي حققوها في مجالٍ ما، وبمعتقداتهم القريبة من معتقداتك، لتّتخذهم بعد ذلك قدوةً لك؟ وكم مرةً اندفعت بإعجابكَ إلى حدّ التّقليد الأعمى لهم، غير واعٍ إلى خطورة التّضحية باستقلاليتك وتفردّك وخصوصيّتك؟ كم من المرات انصدمتَ بأشخاصٍ كنت تعتبرهم قدوةً عليا لكَ، وأثّر ذلك على حالتك النّفسيّة، وانعكس سلباً على ثقتك بقراراتك وبنظرتك إلى الأشخاص؟



في وسطٍ أصبحت فيه مظاهر التّقليد الأعمى منتشرةً جداً، إذ نشاهد نساءً ورجالاً كالنسخ الكربونيّة لبعضهم البعض، مسحورين بالعصر التكنولوجي ووسائل التّواصل الاجتماعي، وما نتج عنهما من مستّجداتٍ وطقوسٍ وعاداتٍ غريبةٍ ومختلفة؛ ألم تسأل نفسك: أين خصوصيّة كلّ فردٍ، ورسالته، وهوّيته؟ لمَ كلّ هذا التّقليد الأعمى الذي فاق الوصف؟ وكيف أحتذي بقدوةٍ صالحةٍ مع حماية نفسي من التقليد الأعمى؟ هذا ما سنتعرّف عليه في هذا المقال؟

ما هي القدوة؟

القدوة: هي الشّخص والمثال الأعلى الذي يُقتدى به، والنّموذج المثاليّ في تصرّفاته وأفعاله وسلوكه، بحيث يُطابق قوله عمله. وهي آليّةٌ فطريّة، يلجأ إليها الإنسان لتمكّنه من البدء بحياته بشكلٍ صحيحٍ وآمن؛ ففي مرحلة الطفولة يتّكئ الطفل على شخصية الأب، لينتقل بعدها إلى شخصية المعلم، ومن ثم إلى شخصيات أكثر نضجاً في الحياة.

يستفيد الإنسان من خبرات وتجارب غيره، ممّن سبقوه في المضمار الذي يعمل فيه، لذلك يميل الإنسان إلى الاقتداء بشخصيّةٍ تتّفق معه في أصل المبدأ والمنطلق، وفي أسس الحياة والأخلاقيات، وتشاركه طموحه وشغفه، ليسير على منوالها وخطاها، دون إلغاءٍ لشخصيته.

إذاً القدوة ليست إلغاءً لاستقلال الإنسان في عقله وتفكيره، بل هي تعزيزٌ لهذا الجانب من خلال الاستفادة من تجارب الآخرين. فليس العيب في الاستفادة من الآخرين، وإنّما في العيش بمنأى عن التأثير فيهم والتأثّر بهم.

القدوة الحسنة تبدأ من المنزل:

يُشكِّل الوالدان أعظم قدوة لأبنائهم في مرحلة الطفولة، والقدوة الأكثر تأثيراً على طول حياتهم.

والسؤال هنا: كيف نكون قدوة صالحةً لأبنائنا؟

في الحقيقة، إنّ أهمّ أمرٍ في علاقتك مع أولادك، ألّا تتكلّم معهم مطلقاً، وإنَّما أن تدع أفعالك هي من يتكلّم عنك؛ فالأولاد يراقبون ويسجلون كلّ حركةٍ وردة فعلٍ يقوم بها الأبوان. فحركاتك وتصرفاتك وسلوكاتك مع أولادك، أقوى من ألف درسٍ تربويٍّ يُعطى لهم.

تأكّد أنّ كل تصرفاتك ستُقلّد من قبلهم، ففي حال كنتَ تُقلّل من احترام زوجتك وتهينها؛ اعلم أنّ أطفالك سيتبنّون السلوك ذاته مع زوجاتهم في المستقبل. وإن كنت سريع الغضب، فاعلم أنّ أطفالك سيتشرّبون نفس السلوك. وإن كنت مُدّخناً، لا تقل لولدك: "لا تدّخن"، لأنّه لن يقتنع بنصيحتك.

تُختَار القدوة بالحبّ والرّغبة، وبالإعجاب بالآخر. فإيّاك أن تختار القدوة لأولادك قسراً؛ لأنّهم حينها لن يقتنعوا بها، بل وجههم بدلاً من ذلك إلى اختيار القدوة الصّحيحة. وحاذر أن تقول لهم: "كُن مثل فلان"، "لا بدّ أن يكون قدوتك فلان".

إقرأ أيضاً: إلى كُلّ أب وأم: هل أنتم "آباءُ هليكوبتر"؟

لجوء الشخص إلى التقليد الأعمى للقدوة:

علينا بدايةً أن نعي الفرق بين القدوة والانقياد؛ فالقدوة: هي التأثّر بالأشياء الإيجابية للشخص المُقتَدى به، وذلك لإصلاح بعض الأخطاء في الشّخصية، وللوصول إلى أهداف معينة. أمّا الانقياد: فهو الإصغاء الكامل إلى الآخرين دون الرجوع إلى الأنا وإلى المحاكمة العقليّة، والوعي الأسري.

خللٌ في تأدية الوالدين لأدوارهما:

يعتقد معظم الآباء أنّ واجبهم تجاه أبنائهم مُقتصرٌ على حمايتهم وتأمين متطلباتهم، لكن في الحقيقة هناك الكثير من الأدوار التي يجب على الآباء القيام بها:

  • دور الحماية: يتجسّد هذا الدور في حماية الأطفال جسدياً وفكرياً.
  • دور الرعاية: يتمثّل في توفير المأكل والملبس والمشرب للأطفال.
  • دور التربية: يتمثل في تعليم الأطفال الآداب العامة، وكيفيّة التعامل مع الناس.
  • دور الضبط: يتمثّل في تعليم الطفل قوانين الأسرة.
  • دور الاستثارة العقليّة: يتمثل في تطوير المهارات الحركية واللغوية للطفل، وغيرها من المهارات.

يجب أن ينتبه كلا الوالدين إلى سلوكهما ومدى تطابقه مع قولهما، فالطفل يراقب كلّ شيء؛ فبمقدار تطابق سلوكك مع قولك يجعلك ذلك قدوةً حسنةً لأطفالك، أمّا في حال الاختلاف بينهما ستكون عندها قدوةً سيئةً لأطفالك.

على سبيل المثال: طفلٌ في أسرةٍ ما، يقال له فيها أنّ الكلام البذيء لا يجوز نهائياً، فلو حدث أن تحدّث به داخل المنزل، فالجميع يضحك له، أمّا إن نطق به خارج المنزل يُحَاسب حساباً عسيراً. يخلق هذا الأمر لدى الطفل تذبذباً واضطراباً، فلا يعود قادراً على أن يُميّز بين الأمر المقبول والأمر غير المقبول، وتصبح شخصيته خائفةً ومترددة.

سيُولِّد القصور في أداء الوالدين لأدوارهما، احتياجاً غير مُلبّى لدى الأطفال، مما يعني معاناتهم من فراغٍ عاطفي. تدفع حالة الفراغ العاطفي إلى اتخاذ قدوةٍ بشكلٍ مبالغٍ فيه (بصورةٍ مَرَضيّة)؛ من أجل إيجاد بدائل تُعوِّض الحبّ والاهتمام المفقودين، وتكمن الخطورة هنا في اختيار البديل الخاطئ، الأمر الذي سيتحوّل إلى انقيادٍ أعمى إليه.

فلا بدّ دوماً أن نُشبع أبناءنا بالعاطفة الصحيحة، والكلام الإيجابي، وبذكر محاسنهم على الدوام. وهذا الأمر لا يعدّ دلالاً، إنّما واجبٌ على الآباء، ونوعٌ من التوازن والثوابت النفسيّة الواجب زرعها لديهم.

فقبل زرع أيّ صفةٍ في الأبناء، من الأساسي أن يشعر الطفل بأنّه محبوبٌ ضمن أسرته، مقبولٌ ومتوازنٌ مع أفرادها، ومن هنا تبدأ القدوة الصحيحة.

يعاني الأطفال الذين يتّخذون من نجوم التلفزيون قدواتٍ لهم، ويبدؤون بتقليدهم بشكلٍ مبالغٍ فيه كثيراً؛ من اضطراباتٍ نفسيّة، فيؤكّد تقمّصهم لشخصياتٍ أخرى أنّهم رافضون لذواتهم، ويحاولون العيش بأحلام وتصرفات وطموحات أشخاصٍ آخرين.

إقرأ أيضاً: المشاكل الأسرية وأثرها على الأطفال

دور المدرسة ووسائل التواصل الاجتماعي:

تعدّ المدرسة مجتمعاً مُصغّراً لمجتمعنا الأصلي، حيث تساعد على التّنشئة الاجتماعية للطفل بعد الأسرة، فيتعلّم الطفل فيها كيف يتعامل مع الآخرين، وكيف يتحمّل المسؤولية لوحده عندما تُوكِل إليه المُعلّمة مهاماً معينة.

وتساعد المدرسة الأطفال على انتقاء قدواتهم، لذلك يجب على المعّلمين وإدارة المدرسة أن ينتبهوا إلى أدّق سلوكياتهم مع الأطفال، فما نتعلّمه ونختبره في المدرسة لا يُمحَى من ذاكرتنا.

إنّ أيّ سلوكٍ من قبل الأساتذة بشكلٍ مخالفٍ لقولهم، سيؤدي إلى تذبذبٍ نفسيّ لدى الطفل. على سبيل المثال: "تُلقِي مديرة مدرسةٍ يومياً محاضرةً في ضرورة الحفاظ على نظافة المدرسة والشارع والبيئة، وعندما تركب سيارتها بعد انتهاء عملها، ترمي قشرة الموزة من نافذة السيّارة. سيتعرّض الطفل الذي شاهد هذا المشهد إلى صدمةٍ نفسيّةٍ وتشتّتٍ في الأمور، الأمر الذي يجعله عرضةً إلى الانجرار وراء قدواتٍ سيئةٍ والتقليد الأعمى لهم؛ خاصةً في ظلّ إحساسه بفقدان الحبّ والاهتمام في منزله".

من جهةٍ أخرى، لا نستطيع تجاهل دور وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير على الأطفال بطريقةٍ غير مباشرة.

في برامج الأطفال، على سبيل المثال: البطلة التي تستخدم السحر من أجل الوصول إلى فارس أحلامها، تُبرمج الطفل على قبول فكرة السحر؛ لأنّ قدوته استخدمته.

فيخلق العالم الافتراضي عالماً وهميّاً، يؤثّر على إدراك الطفل للواقع بشكلٍ حقيقي، مما ينعكس على توازنه النّفسي، وعلى انتقائه لقدواتٍ إيجابيين.

فلا بدّ من مراقبة الأهل الدائمة لنوعيّة البرامج التي يشاهدها أولادهم، مع الاحتواء والحبّ، لكي يضمنوا توازن أبنائهم.

إقرأ أيضاً: الآثار السلبية لوسائل الإعلام على المراهقين

العلاقة مع الله تعالى:

عندما يُربًّى الأطفال على الخوف من الله، بدلاً من حبّه والخوف من غضبه؛ يصبحون عرضةً إلى انتقاء القدوات السيئة بدلاً من القدوات الإيجابية المؤمنة.

وعندما يُنظَر إلى الدين على أنّه التزامٌ وقيود، بدلاً من أنّه راحةُ عظيمةٌ وتوازنٌ نفسيّ وروحيّ؛ سيُلجَأ إلى القدوات غير محمودة الأفعال.

كيف أختار قدوة مناسبة لي؟

"الشيء الثّابت في الحياة هو التغيير"، فكيف لك أن تختار قدوةً ثابتةً على مدار سنين حياتك؟

قد يكون لكلِّ مرحلةٍ من مراحل حياتك قدوةٌ مختلفةٌ عن سابقتها، وهذا الأمر مرتبطٌ بأولوياتك في كلّ مرحلة، وبمستوى وعيك، فلا تحصر نفسك في قدوةٍ واحدة؛ فقد يكون لديك قدوةٌ لكلّ جزئيّةٍ في حياتك، ذلك لأنّه لا يوجد قدوةٌ كاملة، فهي بشرٌ في النهاية.

اهتم بنوعية القدوة التي اخترتها: بأهدافها، وطموحاتها، وكيف ستساعدك في تحقيق أهدافك؟

ابق محافظاً على تميّزك وخصوصيّتك، بحيث لا تنجرّ إلى التقليد الأعمى لها.

وتأكّد أنّ مسلوب الإرادة، وضعيف الثقة بالنفس، ومُشتّت الأهداف، ومهزوز الإيمان، وفاقد الحنان؛ هو مَن ينقاد وراء قدوته دون إعمالٍ لشخصيّته ووجوده.

إنّ وعي المُقبلين على الزواج بضرورة دراسة مشروع الزواج دراسةً مكثّفةً قبل الشروع فيه، وبضرورة الاطلاع بعمقٍ على ما يخص الأطفال وكيفيّة التعامل معهم خلال مراحلهم العمريّة كافة؛ من شأنه أن يُقوِّي اللّبنة الأساسيّة في المجتمع، للوصول إلى مجتمعٍ قويّ وسليم، وإلى أطفالٍ واعين لا يقعون في فخّ التقليد الأعمى للقدوة.

الخلاصة:

في حال وعي الأهل واحتضانهم لأطفالهم، وتعزيز الإيجابيّة والتّواصل والمرونة معهم، وإشاعة الدفء العائليّ دوماً، مع وجود محاسبةٍ ذاتيّةٍ للعائلة ككل، ورفع معايير النجاح الأسري، والتّقرب الناضج من الله؛ سنصل إلى القدرة التّامة على انتقاء قدواتٍ مُثلى في حياتنا، فينعدم التقليد الأعمى للقدوة تماماً.

 

المصادر: 1 ، 2 ، 3




مقالات مرتبطة