العنف الرمزي: لماذا تتخذ المرأة موضوعاً له؟

رافق العنف الشعوب على مختلف خلفياتها الثقافية وطبقاتها الاجتماعية لكن بدرجات متفاوتة، فمن العنف الجسدي الخطير والواضح بأدواته وأساليبه إلى العنف الرمزي المعقد في أسبابه ومظاهره؛ إذ تم توظيف العنف الرمزي على مر الزمان للسيطرة على الآخر وسلبه مقدرات وجوده؛ لذا يمارَس بأشكال عديدة مباشرة أو غير مباشرة وبطريقة ربما تكون مخفية وسرية أو تكون علانية مستخدماً اللغة والكلام ومختلف الحركات والأشكال التعبيرية في ممارسة ذلك النوع من العنف.



يمكن القول إنَّ العنف الرمزي ظاهرة اجتماعية أكثر ملازمة للإنسانية وأشدها إثارة للخوف والقلق؛ وذلك لما تخلفه من مخاطر على الفرد والمجتمع عامة، ولا يقل العنف الرمزي خطورة عن العنف الجسدي؛ بل من الممكن أن يتجاوزه إلى أبعاد أوسع وأعمق ليشمل كافة أشكال العنف غير المادي، فهو تماماً كما عبر عنه "بيار بورديو"؛ أي فرض المعاني الذي يمارسه الفاعلون الاجتماعيون من كاهن وقديس وداعية ومدرس ونفساني وغيرهم.

ممارسة هذا النوع من العنف ليس حكراً أو حصراً على فئة معينة، ولكنَّه يتخذ مسارات خطيرة في مراحل معينة كمرحلتي المراهقة والشباب، ومن المؤكد أنَّ هذه الظاهرة ترتبط بالعوامل النفسية والغريزية الكامنة في ذات الفرد كما ترتبط بالعوامل الاجتماعية؛ إذ تسهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية في إكساب أفرادها عبر ما يسمى بالتعلم الاجتماعي السلوكات والممارسات العنيفة.

أولاً: ما هو المقصود بالعنف الرمزي؟

تتعدد التعاريف التي تناولت مفهوم العنف الرمزي وتختلف باختلاف الزاوية التي ينظر منها الباحث، وأبسط فكرة تشرح معنى العنف هي إلحاق الأذى الجسدي بالآخر، أما بالنسبة إلى العنف الرمزي، فقد ظهر أولاً في كتابات عالمي الاجتماع "بيير بورديو" (Bourdieu Pierre) و"جان كلود باسرون" في عام 1970 من خلال كتابهما "معاودة الإنتاج"، وتحدَّث عنه "بورديو" في وقت لاحق بشكل أكثر تفصيلاً في كتابه "إطار الممارسة"، وكتاب "الهيمنة الذكورية".

إذ يعرفه: "ممارسة المسؤولين في المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والسياسية للعنف في ضوء سلطاتهم الشرعية على الأفراد، بهدف السيطرة عليهم والتحكم بحياتهم وإخضاعهم بطريقة معينة وبما يناسب أفكارهم وأهدافهم ومعتقداتهم الخاصة"، كما قال: إنَّه "القدرة على فرض دلالات ومعانٍ معينة بوصفها شرعية، وإخفاء علاقات القوة التي تمثل الأساس الذي ترتكز عليه هذه القدرة".

تقول "خولة أحمد يحي": إنَّه يشمل "التعبير بطرائق غير لفظية عن احتقار الأفراد الآخرين أو توجيه الإهانة لهم، كالامتناع عن النظر إلى الشخص الذي يكن له العداء، أو الامتناع عن تناول ما يقدمه، أو النظر بطريقة ازدراء وتحقير".

يظهر العنف الرمزي بأشكال وصور متعددة، فقد يكون مباشراً وصريحاً من خلال المواجهة اللغوية أو غير مباشر من خلال تحميل الكلام الرموز والإشارات العدوانية المبطنة، وكل من الطريقين تسبب الضرر والأذى النفسي للفرد المعتدى عليه، فهو ذو قوة وتأثير كبير ويهدف إلى فرض السلطة والنفوذ بطريقة تعسفية واستبدادية.

ثانياً: أنواع العنف الرمزي

  1. العنف الرمزي اللفظي المعلن: هو استخدام ألفاظ قاسية ومسيئة وعبارات مهينة وشديدة العدائية تجاه الآخر.
  2. العنف التجريدي: أو ما يسمى بالاستلاب النفسي، ويعني تجريد الفرد من الامتيازات التي يتمتع بها ومن حق التعبير عن رأيه وأفكاره، وعدم المشاركة في الحديث أو الاجتماعات التي تعقد وتعنيه بشكل مباشر.
  3. العنف التبخيسي: ويعني محاولة التقليل من شأن الفرد وقدراته العقلية ومهاراته والمراهنة على نجاحه في الحياة أو قدرته على القيام بأمر ما كما يجب أن يكون.
إقرأ أيضاً: العنف المجتمعي: أسبابه، وأنواعه، وأهم الوسائل للقضاء عليه

ثالثاً: أسباب العنف الرمزي

  1. تأثُّر الفرد بثقافات المجتمعات الأخرى.
  2. محاولة الفرد التنفيس الانفعالي عن مختلف أنواع الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والسياسية.
  3. عدم قيام مؤسسات المجتمع كالأسرة، المدرسة، أماكن العبادة، الجمعيات الخيرية والأهلية، بدورها في تربية الفرد التربية الصالحة وتصحيح سلوكه السلبي وتعزيز سلوكه الإيجابي.
  4. رفاق السوء الذين يعملون على تعزيز السلوك السلبي.
  5. غياب القدوة والأفراد الذين يتخذهم الناس مثالاً يحتذى به.
  6. الشعور بالفراغ وعدم ممارسة أي نشاط يستطيع الفرد إثبات ذاته من خلاله والشعور بأهميته.
  7. انتشار البطالة والفقر والضغط النفسي الذي يسببه.
  8. الإحساس بالفروق الطبقية التي تفصل بين أبناء المجتمع الواحد والتي تولِّد مشاعر الغيرة.
  9. انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي تعزز العنف من خلال الموضوعات التي تطرحها وطريقة معالجتها.
  10. التفكك الأسري الذي يعاني منه الفرد وينعكس على حياته انعكاساً سلبياً.
  11. الضغط الممارس على الفرد من قِبل الجهات المختلفة.
  12. عدم قدرة الفرد على إشباع رغباته وحاجاته الأساسية أو التي يرغب في الحصول عليها.
  13. العجز عن مواجهة الواقع وحقائقه.

رابعاً: مظاهر العنف الرمزي

  1. القيام بسب الآخرين وشتمهم والتعدي عليهم.
  2. نشر الشائعات حول الآخرين والتشهير بهم في كل فرصة تتاح لهم.
  3. التعليقات البذيئة والساخرة التي يطلقها الفرد على الآخرين.
  4. إرسال رسائل تُشعر الآخر بتأنيب الضمير، مثل إرسال دعوة إلى عشرة أشخاص وإن لم ترسلها فأنت كافر.
  5. إنشاء صفحات ذات طابع متطرف أو انتحال صفة أشخاص آخرين لتدمير سمعتهم.
  6. اختيار ألعاب القتال والعنف للعب فيها سواء الألعاب التقليدية أم الألعاب الإلكترونية.
  7. التفوه بالنكات العنصرية.
  8. الاستخدام المتكرر للتهديد والوعيد.
  9. استخدام الألفاظ المهينة بحق المرأة وتقديم الصور السلبية عنها.

شاهد بالفديو: 9 طرق تساعد المرأة على تجديد طاقتها

خامساً: العنف الرمزي والمرأة

توجد الكثير من المجتمعات التي تَعُدُّ المرأة محور المجتمع وأهم قضاياه، بحيث يصل أي موضوع يُطرح بطريقة ما إلى المرأة، ويمثل موضوع العنف الرمزي مدخلاً علمياً هاماً لتحليل المواقف والممارسات التي تحط من شأن المرأة، ففي دراسة أُجرِيت في "العراق" من قِبل الجهاز المركزي للإحصاء، إنَّ 22% من نساء "العراق" تتعرضن للإهانات اللفظية والرمزية، كما تعاني 22% من النساء من التحقير أمام الآخرين أيضاً، بالإضافة إلى تعرُّض 18% منهن للترهيب والتخويف بأشكال مختلفة، وتتعرض 19% منهن للتهديد بالطلاق أو التعرض للأذى الجسدي المباشر.

توجد أيضاً أساليب تُستخدم لقمع حرية المرأة، فعلى سبيل المثال، تعاني 83% من النساء اللواتي تقع أعمارهن ما بين 15 إلى 45 من سيطرة أزواجهن المطلقة على حياتهن بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ولكنَّ الكارثة الحقيقية تكمن في تقبُّل هذه النسبة من النساء العنف الممارس ضدهن، فقد بيَّنت ذات الدراسة أنَّ 59% من النساء راضخات لهذا النوع من العنف.

العنف الرمزي هو نوع من العنف الذي يوصف باللطيف الذي يتم من خلاله السيطرة والهيمنة على المرأة ليس عن طريق التعبير الواضح والصريح؛ بل عن طريق بناء التصورات ونشر الرموز والدلالات التي ينتجها ويطلقها الطرف المسيطر، وذلك بواسطة تأطير فكر المرأة ودورها لبناء الاعتقاد والتصور لديها بأنَّ ما يحدث هو الحالة الطبيعية والمقبولة، وبأنَّها كائن ضعيف ملحق بالرجل لا يكتمل وجودها في هذه الحياة دون الرجل بحيث تغدو المرأة كائناً تابعاً للرجل المتبوع.

نتيجة الفكرة السائدة تغدو المرأة هي التي تعزز تفوق الرجل وكرامته، فنرى مثلاً الأمثال الشعبية المتوارثة والمتداولة تعزز دونية المرأة نظراً لما يمكن أن تسببه من الشعور بالحرج لذويها، فتغدو قصص الطلاق والعنوسة مذلة ومهانة للمرأة وذويها، فنرى الكثير من الأفراد عند رغبتهم بإهانة فرد آخر يقوم بإطلاق الشتائم نحو النساء المقربين من ذلك الفرد سواء زوجته أم أمه أم أخته أم ابنته.

مها يكن من أشكال العنف الرمزي الممارس ضد المرأة فهو يجعلها تشعر بفقد الإحساس الذاتي بالكرامة والقيمة والتوازن، ويقودها نحو الانكفاء على الذات محطِّماً وقاتِلاً كل طموح بداخلها للإبداع، فتصبح المرأة كائناً مجرداً من الثقة بالنفس منقاداً تحت عباءة الرجل ومتخفياً وراء العادات والتقاليد وخلف حدود العيب، وتتجلى أعظم خطورة هذا النوع في التمهيد لممارسة أشكال العنف الأخرى تجاه المرأة مثل الضرب والتعنيف الجسدي وسواه.

إقرأ أيضاً: العنف المنزلي أثناء فترة الوباء

في الختام:

العنف الرمزي آلية من آليات إجبار الآخرين على الخضوع والاستكانة؛ إنَّه عنف هادئ وغالباً ما يكون خفياً ومبطناً، ويعني العنف الرمزي في مضمونه أن يفرض الشخص المسيطر طريقته في التفكير وفقاً لمصالحه الشخصية؛ إذ يستخدم الرموز مثل الإشارات والصور واللغة والدلالات بوصفها أدوات للسيطرة والهيمنة على الآخرين.

يشترك هذا النوع مع أنواع العنف الأخرى في إلحاق الأذى والضرر بالآخرين بالشكل التعسفي والاستبدادي، ويختلف عنها في طريقته غير الواضحة تماماً التي تعمل على تقويض ذات الفرد وكرامته وإضاعة ثقته بنفسه؛ وذلك عبر إخضاع الفرد لمؤثرات ذهنية وعاطفية وإيلام نفسي وحرمان عاطفي بالصورة التي تدفعه إلى فقد توازنه.

لذا يمكن القول إنَّ العنف الرمزي هو أخطر أشكال العنف على سوية حياة الفرد، وتبقى المشكلة بصعوبة قياسه وتحديده وإثبات حصوله، بالإضافة إلى أنَّ العديد من قوانين الدول في العالم لا تعاقب عليه.

المصادر:

  • أحمد عادل عبد الفتاح محمد، العنف الرمزي المدرك بوسائل الإعلام الجديدة وعلاقته بمفهوم الذات والأمن النفسي لدى الشباب المصري، 2018
  • مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث، العنف القائم على النوع الاجتماعي ( تجليات العنف الواقع على النساء .. قراءة في مفهوم العنف الرمزي ) ، العراق،2012.
  • عائشة لصلج، العنف الرمزي عبر الشبكات الاجتماعية الافتراضية قراءة في بعض صور العنف عبر الفيسبوك، قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة، 2016.
  • علي حسين عايد، العنف الرمزي المدرك وعلاقته بالعجز المتعلم لدى طلبة الجامعة، كلية الآداب، جامعة القادسية، العدد 41، 2016.



مقالات مرتبطة