العلاج المعرفي السلوكي للألم واستراتيجيات التحكم به

لدينا صديقنا "هانك"، سائق الباص ذو الخمسين عاماً من العمر، متزوج من "سارة"، ولديه منها ولدان يعيشان في مدينة أخرى. وكان "هانك" يعاني من أوجاع مزمنة في أسفل الظهر بدايةً، ثم انتشر الألم لاحقاً إلى الكتفين والعنق والذراعين.



بدأت هذه الآلام لديه منذ خمس سنوات في حادث سيارة سبب له كدمات خفيفة في الظهر حسب الصور الشعاعية، وقد شفيت الجروح خلال شهر؛ لكن مع ذلك، فإنَّ الألم ما يزال يسكن ظهر "هانك"، وأصبح "هانك" أكثر حزناً بسبب هذا الألم الذي يسيطر على حياته ومهنته وهواياته ونشاطاته وعلاقته مع زوجته؛ إذ إنَّه توقف عن لعب البولينغ، والخروج في نزهة على متن دراجته النارية، كما أنَّ هذا الألم وصل إلى علاقته الحميمية بزوجته، فقد أصبح الاتصال الجنسي نادر الحدوث بينه وبين زوجته بسبب الألم الذي يرافقه؛ الأمر الذي أثر في المودة بينهما، وأصبح يخاف أن تهجره زوجته، مع أنَّها متفهمة لوضعه، ولا توجد أيُّ علامة تدل على أنَّها تنوي هجره؛ ومع ذلك، فهي محبطة لأنَّ مشكلة "هانك" هذه تؤثر سلباً في حياتها أيضاً.

أصبح "هانك" لا يريد أيَّ شيء من هذه الحياة سوى أن يتخلص من ألمه اللعين؛ فجرَّب العديد من الأطباء والكثير من الأدوية، لكنَّها لم تفلح في تخفيف ألمه، حتى إنَّه في نهاية المطاف قرر أن يراجع مختصاً نفسياً متخصصاً في تدبير الألم المزمن.

ما هو الألم من وجهة نظر العلاج المعرفي السلوكي؟

بالتأكيد، لا يوجد إنسان لم يمر بتجربة الألم؛ فإنَّ الألم هو قدرة تكيفية من أجل تحديد مكان الخطر أو الأذى الذي يتعرض له الجسم، ومن ثم الاستجابة له والعمل على إيجاد حل أو علاج مناسب. ومع ذلك، فإنَّ الألم في كثير من الحالات يستمر إلى ما بعد مرحلة الشفاء من المرض أو الجرح؛ الأمر الذي دفع الأطباء إلى اقتراح وجود عوامل نفسية تتدخل في خبرة الألم.

وفقاً لهذا الاستنتاج، فإنَّ الألم هو ظاهرة إدراكية معقدة تتضمن العديد من العوامل النفسية، فالألم عند "هانك" بدأ مع حادث صغير، وعلى الرغم من أنَّ إصابته الجسدية صغيرة جداً وتماثلت إلى الشفاء، إلا أنَّ الألم ما يزال مستمراً.

ذهب "هانك" إلى العديد من الأطباء، حتى شُخِّصَت حالته بمرض تليُّف العضلات، الذي ينطوي على الألم المزمن واسع الانتشار من دون سبب محدد، وكذلك الإرهاق ومشكلات النوم والتعب والاكتئاب.

كيف تتداخل العوامل النفسية في موضوع الألم؟

لا يمكن الإنكار بأنَّ الألم الذي يعاني منه "هانك" هو ألم حقيقي؛ إذ إنَّ كلامنا حول العوامل النفسية التي تتدخل في الألم لا يعني أنَّ "هانك" يتوهم الألم؛ بل نقصد بأنَّ تركيز "هانك" الكامل على هذا الألم، وكفاحه الدائم والمستمر من أجل التخلص منه، تسبب في زيادة الضغوط التي تؤثر فيه، وهذه الضغوط تعزز من التفكير الكوارثي، وتزيد حدة الألم؛ وهذا يجعل "هانك" يدور في حلقة مفرغة بين الشعور بالألم والضغوط المرتبطة بالألم، والألم المرتبط بالضغوط.

خلاصة القول، إنَّ "هانك" بعد التخلص من المثير الأول للألم وهو حادث السيارة، والتئام إصابته، بقي الألم بسبب عوامل عدة؛ وهي المعتقدات الكوارثية لدى "هانك" حول الألم؛ فإنَّ زيادة الخبرات المرتبطة بالألم أدت إلى الإبقاء عليه.

دور التربية النفسية في العلاج المعرفي السلوكي للألم:

تُعَدُّ مناقشة العلاقة بين الألم والضغوط النفسية مع المريض، أول خطوة في العلاج المعرفي السلوكي للألم، فضلاً عن شرح الآلية التي تكون بها هذه الضغوط مؤثرة تأثيراً سلبياً في الألم، والتميز بين العوامل الأولية التي أدت إلى حدوث الألم (حادث السيارة في قصة صديقنا "هانك")، وعوامل الإبقاء التي تؤدي دوراً محورياً في استمرار الألم.

إنَّ دور التربية النفسية في مشكلة "هانك"، هو أنَّ امتناعه عن ممارسة لعبة البولينغ التي اعتادها، قد أدت إلى زيادة خبرة الألم لديه، كذلك فإنَّ توقفه عن هوايته في ركوب الدراجة الهوائية عزَّز أيضاً من خبرة الألم لديه، ناهيك بتراجع المودة بينه وبين زوجته؛ كل هذه الأمور ضخمت خبرة الألم لديه، وجعلته يستمر بعد شفائه من العامل الأولي، وهو حادث السيارة؛ لذلك فإنَّ تحديد المعتقدات اللاتكيفية السلبية ومحاولة تعديلها، يمكن أن يخفف من خبرة الألم بشكل هام.

إقرأ أيضاً: 6 علامات تشير إلى أنّك تعاني من مشكلة التوتر النفسي

استراتيجية إعادة البناء المعرفي في العلاج المعرفي السلوكي للألم:

يعتقد "هانك" أنَّ حياته في ظل هذا الألم عبارة عن عذاب لا أكثر، وهي لم تعُد تحمل في طياتها أيَّ جدوى من استمراره؛ إذ إنَّه أخبر المعالج النفسي بأنَّه يعيش هذه الحياة على أمل أن يتخلص من ألمه، ولكنَّه عندما يصل إلى النقطة التي يفقد فيها هذا الأمل، فإنَّه قد يلجأ إلى إنهاء حياته!

هنا يتدخل المعالج النفسي مستعملاً استراتيجية إعادة البناء المعرفي؛ إذ يخبره بأنَّ الألم لم يؤثر في حياته فحسب، ولكنَّه قد يسلب منه مستقبله أيضاً؛ إذ إنَّه باستجابته للألم فإنَّه يعطيه فرصة التحكم في حياته. صحيح أنَّه من غير الممكن لنا أن نتحكم في الألم بفاعلية، ولكن نستطيع أن نمنع الألم من أن يتحكم فينا.

استراتيجية الاسترخاء في العلاج المعرفي السلوكي للألم:

يُعَدُّ الاسترخاء استراتيجية فعَّالة في تخفيف الألم؛ فإنَّه يستهدف الضغوط والتوترات التي تؤثر سلباً في الألم. وقد جمعنا لكم فيما يأتي أهم التمرينات المستعملة في إرخاء العضلات والتخلص من الضغوط؛ إذ يمكنك البدء عن طريق انتقاء مكان آمن ومريح وهادئ بعيداً عن الناس، ثم اخلع الملابس الضيقة أو الثقيلة، وأغمض عينيك، ثم:

  1. جعِّد الجبهة مع تحريك حواجبك نحو الأعلى، لمدة عشر ثوانٍ، ثم استرخِ ولاحظ الفرق بين التوتر والاسترخاء.
  2. أغمض عينيك بشكل كامل لمدة خمس ثوانٍ، ثم استرخِ، ولاحظ الفرق بين التوتر والاسترخاء.
  3. شُدَّ أجزاء الفم إلى الخلف، كما لو أنَّك تستعمل وضعية التكشير، لمدة خمس ثوانٍ، ثم استرخِ، ولاحظ الفرق بين التوتر والاسترخاء، واستمتع بالدفء والهدوء في وجهك.
  4. مُدَّ يديك مداً أفقياً، ثم أطبق قبضتيك لمدة عشر ثوانٍ، ثم استرخِ، ولاحظ الفرق بين التوتر والاسترخاء.
  5. اثنِ المرفق لمدة خمس ثوانٍ، ثم استرخِ، ولاحظ الفرق بين التوتر والاسترخاء.
  6. ارفع الكتفين إلى أعلى لمدة عشر ثوانٍ، ثم استرخِ.
  7. حرِّك ظهرك ورقبتك إلى الخلف، وأنت جالس على الكرسي، لمدة عشر ثوانٍ، ثم استرخِ، ولاحظ الفرق بين التوتر والاسترخاء.
  8. شُدَّ عضلات البطن لمدة ثلاث دقائق، ثم استرخِ، واستمتع بفترة الاسترخاء.
  9. لُفَّ أصابع قدميك، لمدة خمس ثوانٍ، ثم استرخِ، ولاحظ الفرق بين التوتر والاسترخاء.
  10. تأكد من عضلات جسمك بعد أداء هذه التمرينات، فيما إذا كانت مشدودة أم لا، وإذا استمر الأمر، فكرر شد واسترخاء مجموعة من العضلات لأربع أو خمس مرات.
  11. يمكنك أن تعمم التمرينات السابقة على جميع عضلات جسمك، وأن تكررها متى أردت، حتى تصل إلى النتيجة المرجوة؛ وهي تخفيف الضغط ومنع مفاقمة الألم.

شاهد بالفديو: 6 نصائح علميّة للتخلص من الضغط النفسي

استراتيجية التقبُّل في العلاج السلوكي المعرفي للألم:

اهتمت العلاجات التقليدية للألم اهتماماً كبيراً بالتحكم في الألم، مثل الجراحات أو الأدوية، ولكن خبرة الألم لم تخف عند المرضى الذين جربوا هذه العلاجات؛ لذا فإنَّ فكرة التقبُّل قد تكون مفيدة في تجنب المعتقدات والسلوكات اللاتكيفية من أجل التحكم في الألم؛ إذ يمكن تعريف تقبُّل الألم على أنَّه يمثل رغبة المريض النشطة في ممارسة نشاطات جديدة أو نشاطاته الاعتيادية، من دون أن ينظر إلى مشاعره أو أفكاره أو أحاسيسه المرتبطة بالألم، التي تعوق انخراطه في نشاطاته.

بالتأكيد، إنَّ استراتيجية تقبُّل الألم، لا تعني بأنَّه يجب على المريض أن يسلم نفسه للألم، ويخضع له، ويسير في منحى سلبي أو هدام، وهي لا تعني إعادة تقديم الألم على أنَّه خبرة إيجابية؛ بل على العكس، إنَّ التقبُّل يشجع المرضى على تطبيق منظور جديد لمفهوم الألم، وتأثيراته في حياتهم؛ إذ يُطلب من المريض أن يتوقف عن مقاومة الألم، ويلجأ إلى أفعال أو أعمال تعطي قيمة لنفسه وحياته. وفي الوقت نفسه، فإنَّ هذه الأفعال تصب في نهاية المطاف في مصلحة تقبُّل الألم، وقد يحدث هذا التقبُّل بشكل تدريجي أو لاشعوري.

من الجدير بالذكر أنَّ الطلب من المريض أن يتقبل الألم ويتوقف عن محاولات التحكم فيه وكبحه، قد تؤدي إلى أن يقوم المريض بالتحكم في هذا الألم بشكل تناقضي. وعلاوة على ذلك، قد تكون تقنية التقبُّل صعبة التطبيق؛ لأنَّ المريض قد يراها منافية للمنطق، وقد تتداخل مع التقنيات الفعَّالة الأخرى؛ لذا من الأفضل استعمال تقنيات التقبُّل بعد فشل كل الوسائل الفعَّالة من أجل التحكم في الألم؛ فيمكن عندها عَدُّ التقبُّل تقنية بديلة عن التقنيات الأخرى.

في الختام:

وبعد أن اكتملت محاور هذا المقال، يمكننا أن نختم بمثال جميل ومعبِّر عن طريقة التحكم في الألم؛ إذ إنَّ الأشخاص الذين يسيطر عليهم التفكير الاستحواذي، الذين تحبسهم معاناتهم، ويلجؤون دوماً إلى الهروب من مخاوفهم بدل مواجهتها، يمكن تشبيه حالتهم، بالكلب المربوط بحبل إلى عمود؛ حيث إنَّه سيظل يحاول أن يفك الحبل من خلال المشي والدوران حول العمود، ولكنَّه في حقيقة الأمر يُضيِّق على نفسه الخناق، إلى أن يصبح غير قادر على الحركة.

لذا، عوضاً عن ذلك يجب على هؤلاء الأشخاص أن يثابروا في محاولة علاج هذا الألم بدل الهروب منه، والتعامل معه على أنَّه أمر حتمي يجب تحقيقه. وهنا يمكن تشبيه الوضع بالأرنب الذي اختار أن يأكل من العشب الموجود حول العمود بكل حرية، ومن دون أن يقيده أيُّ شيء.

دمتم بخير وصحة وسلامة وعافية، بعيدين كل البعد عن أيِّ أذى أو مكروه.

المصدر: كتاب العلاج المعرفي السلوكي المعاصر لـ "هوفمان إس جي"




مقالات مرتبطة