الصوم جنّة الصابرين

خُلِقَ الإنسان مجموعاً من روح وجسد، ولكلّ منهم دور في الصيام، والصيام زاخر بالحياة والمنافع والبركات، البعيد عن المشقات التي لا تطيقها النفوس.



فالروح تجذبه إلى السمو وتذكّره بمنصبه ومركزه وغايته ومهمته، وتفتح فيه السبيل إلى العالم الذي انتقل منه وإلى سعته وجماله ولطافته وصفائه، وتثير فيه الأشواق والطموح، وتبعث فيه الثورة على المادة الثقيلة، فيحلق في الأجواء الفسيحة، ويفك السلاسل والأغلال، ويحبّب إليه الجوع والعطش، وغض الطرف عن الملذات، والتجرد عن الشهوات.

والجسد يجذبه بكثافته وثقله إلى الأرض، ورغبة الطعام والشراب، وقضاء الشهوات، فيتألم من الجوع، ويشق عليه العطش، ويأسره لمعان المغريات، فيصبح وهو في أوج مدنيته وحضارته وقمة علمه وثقافته بعيداً عن قيمة إيمانه وروحانيته بين المطعم والمرحاض، لا يعرف سوى ذلك مبدأ ومعاداً، ولا يعرف غير الطواف بينهما شغلاً وجهاداً، فتموت فيه كل رغبة إلّا رغبة الطعام والشراب، ويتبلّد فيه كل حس إلّا حس اللذة والمتعة، ويزول عنه كل هم إلّا هم الكسب والمعاش.

إقرأ أيضاً: 6 طرق للتقرب إلى الله تعالى في رمضان

ولا تصوير أدق من تصوير القرآن المعجز في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}. محمد 12

وإذا تغلّبت الطبيعة الحيوانية وملكت زمام الحياة واستحوذت على مشاعر الإنسان وحواسه فلم يجد طول عمره وقتاً صافياً ولا قلباً فارغاً ولا عقلاً يقظاً و لا ضميراً حياً، فتثقل عليه العبادة والذكر، والطاعة والفكر والصفاء، وإذا تغلّبت الطبيعة الحيوانية وملكت زمام الحياة واستحوذت على مشاعر الإنسان وحواسه فلم يجد طول عمره وقتاً صافياً ولا قلباً فارغاً ولا عقلاً يقظاً ولا ضميراً حياً، فتثقل عليه العبادة والذكر، والطاعة والفكر والصفاء، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلً}. النساء 142

وقد جاءت النبوة تغيث الإنسانية المهدّدة بالمادية الطاغية، وتقيم الموازين القسط في الحياة، وتعد الإنسان إعداداً جيداً للغاية التي خلق لها وهي العبادة، فأمرت بالصوم ليحدّ من شره هذه المادية، وليشحن النفس شحناً روحانياً إيمانياً تستطيع أن تحفظ به اعتدالها في الحياة وتقوم به مغريات الشهوة.

يقول الغزالي - رحمه الله -: (كلّما انهمك الإنسان في الشهوات انحط إلى أسفل سافلين والتحق بغمار البهائم، وكلّما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة).

ويقول ابن القيم رحمه الله: "لمّا كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله، ولمّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمه إلّا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب وفضول مخالطة الأنام وفضول الكلام وفضول المنام ممّا يزيده شعثاً ويشتّته في كل وادي، ويقطعه عن سيرة إلى الله تعالى أو يضعه أو يعوقه، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرّع من الصوم، ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيرة إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ولا يضرّه ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة".

إقرأ أيضاً: فضل شهر رمضان المبارك وأهم الأعمال والعبادات فيه

ويقول ابن القيم أيضاً: (ولمّا كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة لما توطّنت النفوس على التوحيد والصلاة وألفت أوامر القرآن فنقلت إليه بالتدريج، وكان فرضه من السنة الثانية من الهجرة فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم  وقد صام تسع رمضانات) زاد المعاد.

وقد جاء خطاب الصيام وقد لفه اليسر والتيسير وزانته الرحمة والبر فإنّ الذين قد توجّه إليهم الخطاب في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ثلاثة أقسام الأول المقيم الصحيح فيجب عليه الصوم رغبة في التقوى وزيادة، والثاني المريض والمسافر فيباح لهم الإفطار مع القضاء، والثالث من يشق عليه الصوم بسب لا يرجى زواله كالهرم والمرض المزمن فيفطران ويطعمان لكل يوم مسكيناً

وقد خاطب الله المكلّفين بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فهيأهم لقبول كل ما يكلّفون به مهم كان شاقاً لأن صفة الإيمان تقتضي ذلك، ثم ذكر الله أنّه كتب عليهم الصيام ولكنّه لم يكتبه عليهم لأول مرة في تاريخ الأديان فقد كتبه على من سبقهم وهكذا خفف وطأة هذا التشريع على النفوس، ثم ذكر أنّه ليس امتحاناً فقط ولا مشقة ليس من ورائها قصد، بل هو تربية إيمانية وإصلاح وتزكية ومدرسة خلقية "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".

هذا هو الصيام الزاخر بالحياة والمنافع والبركات، البعيد عن المشقات التي لا تطيقها النفوس، {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}. البقرة 185

والشرع الإسلامي لم يكتفِ من الصوم بصورته، بل ارتجى حقيقته، فلم يحرم الأكل والشراب والعلاقات الجنسية في الصوم فحسب، بل حرّم كل ما ينافي مقاصد الصوم وغاياته، وكل ما يضيع حكمته وفوائده، فأحاط الصوم بسياج من التقوى والأدب، وعفة اللسان والنفس، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (قال تعالى: إذا كان يومُ صومِ أحدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، وَإِنْ سَابَّهُ أحدٌ أوْ قاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امرؤٌ صائِمٌ).

إقرأ أيضاً: مشاكل صحيّة في رمضان وأهم النصائح الغذائية

وقال صلّى الله عليه وسلّم: (مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ).

وقال صلّى الله عليه وسلّم: (كم من صائمٍ ليس له من صيامهِ إلَّا الظمأُ وكم من قائمٍ ليس له من قيامهِ إلَّا السهرُ).

وليس الصوم أوامر سلبية فحسب، فلا أكل ولا شرب ولا رفث ولا فسوق ولا جدال، بل هو أوامر إيجابية أيضاً، فهو وقت العبادة والتلاوة والذكر والتسبيح والبر والمواساة، فمن تقرّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه ومن أدّى فريضة فيه كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة.

وأخرج الترمذي عن زيد الجهني قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:(من فطَّرَ صائمًا كانَ لَهُ مثلُ أجرِهِ غيرَ أنَّهُ لا ينقصُ من أجرِ الصَّائمِ شيءٌ).




مقالات مرتبطة